مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
عدد خاص | سبتمبر - أكتوبر 2022

التراث الموازي وآفاق مستقبلية للعمارة السعودية


الدكتور مشاري عبدالله النعيم

ثَمَّة اتفاق على أن العمارة تمثل نوعًا من الحوار الثقافي الداخلي، المباشر وغير المباشر، ودائمًا ما تقود أي مجتمع من المجتمعات إلى الكشف عن الروابط الكامنة على المستويات الاجتماعية أو السياسية والاقتصادية، وفي كثير من الأحيان التقنية. وإذا ما اعتبرنا العمارة حالة ثقافية في طور التغير المستمر، فهذا يعني أننا سنواجه كثيرًا من التحولات التي تحدث غالبًا في بنية العمارة من دون أن نشعر بها في حينها، لكنها تلفت انتباهنا بعد أن تتشكَّل وتصبح حالة يمكن تمييزها وتحديد معالمها.

يقودنا هذا إلى التساؤل حول ما يمكن أن نسميه “العمارة السعودية”، فهل هذه العمارة في طور التشكل وستتضح معالمها بعد حين؟ وإذا كانت كذلك، فهل نستطيع رصد البدايات ورسم مسار لوضع تفسيرات يمكن الاتفاق عليها حول عمارة المستقبل في المملكة العربية السعودية؟

نيوم والشخصية السعودية
يقودنا الوارد أعلاه إلى طرح أولي حول منطقة “نيوم” ومدينة الخط (ذا لاين)، وهو طرح مرتبط فيما لو اعتبرنا أن ما يحدث في تلك المنطقة يعبِّر عن أفكار مستقبلية كَثُرَ الجدل حولها، كما أنه يعبِّر عن الشخصية السعودية المعاصرة، وما تريد أن تحققه في المستقبل القريب.

مدينة الخط بتكوينها غير المسبوق تتحدى كل أفكار تخطيط المدن السابقة. وهي بامتدادها الذي يصل إلى 170 كيلومترًا وتشكيلها المحصور بين كتلتين بارتفاع 500 متر وبجدران خارجية على شكل مرايا، دفعت كل المهتمين بالعمارة ونقاد العمران إلى طرح التحديات التي قد تواجهها مدينة بهذا الامتداد والارتفاع والمحصورة في مسافة عرضها 200 متر فقط. ويبدو أن ثَمَّة اتفاق بين هؤلاء النقاد أن تحول هذه المدينة إلى واقع معاش سيواجه تحديات حقيقية، لكنهم في الوقت نفسه أجمعوا على أن الفكرة الجريئة التي تتميز بها مدينة الخط ستغير من قواعد اللعبة العمرانية حول العالم، ولن تكتفي فقط بطرح مفاهيم عملية للاستدامة، بل ستوجّه التقنية المستقبلية إلى آفاق جديدة، ربما لم تخطر على بال أحد.

قد يكون من الضروري أن ننظر إلى مدينة الخط على أنها رسالة لمقدرة المملكة على أن تحدث تغييرًا حقيقيًّا حول العالم. ويفترض أن تمثل هذه التجربة العربة التي تجر العمارة السعودية إلى المستقبل، وأن تجعلها ضمن السياقات العالمية التي تشكِّل المفاهيم المتجددة للعمران، وهو الأمر الذي قد تثار حوله بعض علامات استفهام، من قبل البعض، كون هذه المدينة التي تنضح بالأفكار المستقبلية لا ترتبط برباط وشيج مع جذور العمارة السعودية. إذ هل يفترض بعمارة المستقبل أن تتنصل من المنابع والجذور، أم أن هناك ما يمكن الكشف عنه ويجعل من هذه المدينة جزءًا من سياق التطور الطبيعي الذي يفترض أن تخوضه العمارة في المملكة؟

التراث الموازي وقيود تفسير التاريخ
يستدعي هذا طرح مفهوم “التراث الموازي”، وهي فكرة منهجية تهدف بالدرجة الأولى إلى التخلص من قيود تفسير التاريخ، وليس المنابع والجذور. فحسب هذا المنهج، يمثل المستقبل آفاقًا مفتوحة للتفسير من دون أن يخسر ارتباطه بالنواة الثقافية التي تمثل الأصول التي نشأت حولها جميع الأفكار في تاريخ أي أمة. وهذا يصنع تحديًّا جديدًا هو: كيف يمكن تحديد هذه الأصول؟

إننا لا ندّعي هنا أننا سنكشف عن هذه الأصول، لكننا سنثير حوارًا حولها، وكيف يمكن أن تسهم في تبني عمارة غير تكرارية، جديدة في كل شيء، إلا في انتماءاتها الثقافية والتاريخية.

يمكن القول إن التوافق بين منهج التراث الموازي ومدينة الخط يكمن في “عقلنة” المنتج العمراني، وفي هذه الحالة فإن العمارة لا تحتاج إلى أشكال جاهزة سبق إنتاجها في الماضي كي تكون محلية ومنتمية إلى المكان، بل يفترض أن تبتكر حلولًا جديدة وملائمة للعصر، وتدفع بتقنياته إلى المستقبل وتظل منتمية إلى المكان.

من هذا المنطلق فقط، نجد أن مدينة الخط تدفع بفكرة التراث الموازي إلى مجالات تطبيقية حقيقية ستواجه تحديات كبيرة من دون شك، لكنها ستقود في النهاية إلى فضاءات فكرية وعملية لم يتطرق إليها أحد من قبل.

فمن خلال دراسات سابقة، وجدتُ أن “التراث الموازي” يرتكز على خمسة مبادئ، أولها أن هذا التراث يتشكَّل في الحاضر من أجل تغيير المستقبل، أي أن الهدف هو خلق فضاء فكري/ عقلاني يعيد تكوين المنتج الحضاري وفق معطيات الحاضر المتجدد باستمرار. ويمثل هذا المبدأ الهدف الأساسي، وهو التجديد العقلي المرتبط بنقد الواقع واكتشاف إمكاناته أولًا، وبالنواة الإبداعية ثانيًا كمرجع يمثل كينونة الحضارة التي ننتمي إليها. لذلك فإن المبدأ الثاني هو: الموقف من التراث التاريخي، فالتراث الموازي ينفصل عن جميع التفسيرات السابقة للنواة الإبداعية زمنيًّا ومكانيًّا، ولا يرجع إليها إلا كتجارب سابقة حاولت فهم النواة المولدة للحضارة. وبالطبع، فإن هذا المبدأ يمثل نقطة الخلاف الرئيسة مع المدرسة التاريخية للتراث، ويشكِّل نقطة التحول الفعلية؛ فإما أن نقبل بالتغيير أو نستمر في اجترار الماضي.

وإذا كنا نتحدث عن الواقع، كونه منطلق التغيير وبيئته، لذلك فإن المبدأ الثالث للتراث الموازي يركز على فهم الواقع وتفكيكه نقديًّا. فأي تحول لا يأخذ في الاعتبار الواقع المباشر والواقع الواسع الذي يربط وجودنا بالعالم، هو تحول معزول ومحكوم عليه بالفشل. ولعل هذا المبدأ والذي يسبقه يؤكدان على أن “التراث الموازي” ينتهج مدرسة عقلية نقدية، لا تحدد الرفض والقبول لأي فكرة إلا بعد عرضها على هذا المنهج العقلي.

تراث لا يعرف الثبات
أما المبدأ الرابع فهو “عدم الثبات النسبي”، أي أنه تراث متجدد وغير ساكن ولا يتوقف عند أي منتج حضاري سابق طالما أنه تجاوزه الزمن، هو تراث يتطلع إلى المستقبل باستمرار ولا يلتفت إلى الوراء إلا من أجل التعلم فقط. وبالتالي، فإن كل فكرة ينتجها هذا التراث تحمل بذور فنائها معها، للانتقال إلى فكرة جديدة أكثر مواءمة للعصر الذي ستولد فيه. وأخيرًا تمثل “النواة الإبداعية” المصدر لهذا التراث وهي المبدأ الأخير، وهي التي تشكِّل أصعب المبادئ، فهي تتطلب كثيرًا من البحث والتقصي، وهذا جزء من الدروس التي تتيحها محاولة جريئة مثل مدينة “الخط”.

ربما يكون من المبكر التفكير في الجذور الثقافية التي تنتمي إليها مدينة الخط، لكن الجدير بالذكر أن كثيرًا من الجذور تكون كامنة في عمق المكوّن المعماري والعمراني وتتطلب دراية وحذرًا من أجل كشفها.

ثَمَّة فكرة تستدعي الاتفاق حولها، وتقول إن “النواة الإبداعية” قد تظهر في مجموعة من المبادئ المؤسسة للثقافة، وقد تبدو في المكّون الطبيعي، الذي يبنى فيه المشروع وخصائص بنيته الطبيعية. لكن هذه النواة تنزلق في حالة من التكرارية عندما تحاول أن تستعيد جزءًا من الذاكرة الجماعية.

ويمكن فهم هذه الفكرة من خلال استعراض عمارة القرن الواحد والعشرين في المملكة، وهي العمارة الأقرب زمنيًّا إلى مدينة الخط، وتعبّر في كثير من الأحيان عن “عقلنة” العمارة، التي يدعو إليها التراث الموازي وتتبناها المدينة الجديدة.

مركز إثراء
نبدأ بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء” في أرامكو بالظهران. فقد اكتملت فكرته التصميمية عام 2008م، ورغم الطابع المستقبلي الذي يفرضه المركز على محيطه العمراني، إلا أنه يحمل في داخله بذورًا تاريخية عميقة، وربما غير منظورة.

ينفصل التراث الموازي عن جميع التفسيرات السابقة للنواة الإبداعية زمنيًّا ومكانيًّا، ولا يرجع إليها إلا كتجارب سابقة حاولت فهم النواة المولدة للحضارة

المشهد المعماري العقلاني الذي يقدِّمه “إثراء” يبدأ بمقدرته العميقة على الارتباط بالمكان الطبيعي من خلال كتل المبنى الخمس، التي تظهر على شكل حصيات ولدت في المكان منذ فجر التاريخ، لكنه يغوص عميقًا في التجارب المعمارية التاريخية ويستعيد فكرة القرية، والواجهات الصماء والمشربيات التي تستجيب للحالة المناخية الشاقة من خلال غلافه الخارجي ومكونه الداخلي. فعقلنة العمارة في مركز إثراء تكمن في التفاصيل الكامنة غير المنظورة بشكل مباشر، لكنها لا تنفك في ربط المركز بجذوره العميقة والبعيدة المكانية والثقافية.

مركز الملك عبدالله المالي
يمثل مركز الملك عبدالله المالي أحد الأمثلة التي تكتظ بمبانٍ متنوِّعة يطغى عليها التشكيل ومحاولة إحداث الدهشة البصرية، على أن المركز على المستوى الحضري يستحضر فكرة الوادي التي تميز المكوّن الطبيعي للرياض، ويخلق فضاءات تصطدم باستمرار بالمقاس غير الإنساني الذي تمثله ناطحات السحاب.

فعلى الطرف، تظهر محطة المترو التي صممتها المعمارية زها حديد، وكأنها توازن بين العقلانية النفعية المفرطة للمباني المرتفعة وبين العقلانية ذات الامتداد الثقافي، التي يمكن البحث عن جذور النواة الإبداعية داخلها. ولابد من القول إن مفهوم “المدينة داخل مدينة”، الذي يمثله المركز المالي يفرض نوع الحضور النقدي الخاص المنفصل عما يجري في عمارة الرياض الأخرى، فالمركز عبارة عن نموذج مصغر لمدينة الخط، وإن كان أقل استقلالية، ولا يتخلص من الإشكالات البيئية التي تريد مدينة الخط التخلص منها.

وبالانتقال إلى الضفة الأخرى من مدينة الرياض، سنجد مركز الملك عبدالله للدراسات البترولية “كابسارك”، وهو من تصميم زها حديد كذلك.

“الدهشة” العقلانية من خلال إعادة اكتشاف الجذور بصورة غير متوقعة تشكل أحد الأسس التي يقوم عليها منهج التراث الموازي

يجب أن نذكر هنا أن كثيرًا من مصادر الإلهام في العمارة قائمة على الرمزية، وأن تكوين الشكل المعماري مبني على هذه العقلانية الرمزية، التي تتكئ على التقنية لتنفيذ مآربها وأهدافها. على أن الرمزية نفسها غالبًا ما تقود إلى الكشف عن جزء مختبئ من النواة الإبداعية. فمن الملاحظ أن استلهام المكان الطبيعي في إثراء و”كابسارك”، وحتى المركز المالي دفعت بالعمارة السعودية الأحدث إلى البحث عن مصادر إلهام خارج التاريخ وأشكاله المتكررة، ومع ذلك نجد بعد الخيوط الكامنة التي تشير إلى هذا التاريخ ولكن بشكل غير مباشر. ولعل هذا من الخطوات الأساسية التي يتيحها التراث الموازي، فهو يدفع إلى تحدي الموجود والمتعارف عليه ويدفع في الوقت نفسه إلى البحث عن ارتباطات تاريخية وغير مكشوفة ولا مبتذلة.

يمكننا أن ندّعي هنا أن منهج “التراث الموازي” كان ينمو ويتطور داخل كل مراحل العمارة السعودية وتطورها منذ ثلاثينيات القرن العشرين. ويمكننا أن نعرج على بعض التحولات الحقيقية التي يمكن أن تقودنا إلى فهم أوسع لهذا التراث المتجدد.

فمنذ منتصف القرن التاسع عشر، وبالتحديد منذ تنظيم “الأكسبو” الأول في “الهايدبارك” في لندن عام 1851م، والذي حمل اسم “القصر البلوري” وصممه المعماري الإنجليزي “باكستون”، والعمارة تتدافع نحو التغيير السريع، وأصبح ثبات الأفكار غير مقبول نسبيًّا، ولم يعد هناك جدوى من الطراز المعماري، بل نمت مجموعة من المبادئ، التي صارت توجه العمارة نحو العقلنة والتفلّت من قبضة التقاليد. وفي مطلع القرن العشرين ظهرت الحداثة ومدرسة “الباوهاوس” وعلى رأسها “والتر جروبيوص”، وأعلن الطراز العالمي للعمارة في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، كل هذا والأكسبو الذي صار ينظم كل خمس سنوات يصنع حوارًا في الظل يدفع العمارة إلى التغير بوتيرة أسرع من السابق.

إعادة تشكيل الشخصية المعمارية
من الناحية الفعلية، لم تكن المملكة في ذلك الوقت جزءًا من الحوار المعماري، فقد تأسست تقريبًا في العام نفسه الذي تم فيه إعلان “جروبيوص وهيتشكوك” للطراز العالمي عام 1932م. على أنه يمكننا أن نشير إلى مشاركات المملكة المتأخرة (شنغهاي 2010م ودبي 2020م) كجزء من محاولات المملكة لإعادة تشكيل شخصيتها المعمارية المعاصرة.

ولو حاولنا تتبع التحولات التاريخية التي أسهمت في شخصية العمارة الحالية، فسنتوقف عند مجموعة من المحطات الأساس. فهناك اتفاق على أن السعودية عاشت حداثة معمارية متأخرة، وهذا أمر طبيعي نتيجة للظروف التاريخية والاقتصادية. ويمكن أن نقول إنه منذ البدء بتصدير النفط بكميات تجارية عام 1938م، بدأ حراك عمراني صاحبه حراك فكري بطيء لكنه صار يتصاعد تدريجيًّا.

على أننا لا نستطيع الجزم بأن مجتمع المملكة كان معزولًا عن الأفكار الجديدة في تلك الفترة، بل كان تواقًا لخلق حراك خارج عن المتعارف عليه، ولعلنا نقف عند تجربة قصر المربع في مدينة الرياض، الذي بدأ البناء فيه عام 1936م واستكمل عام 1938م.

فلو قمنا بمقارنة ما قام به البنّاء حمد بن قباع (من بنى قصر المربع) مع ما قام به حسن فتحي في قرية القرنة في مصر عام 1949م، لوجدنا أن محاولة بن قباع، التي سبقت تجربة فتحي بأكثر من عشرة أعوام، كانت تسعى في كسر تقاليد البناء النجدية وتقديم أفكار خارج سياق المتعارف عليه من حيث الحجم والتفاصيل. وعلى الرغم من ذلك فقد حظيت تجربة فتحي بشهرة واسعة نتيجة لوجود مجتمع مهني ونقدي/ فكري في مصر، الأمر الذي كان يفتقر له بن قباع.

وبشكل عام يمكن أن نعتبر المربع محاولة خجولة لخلق تراث موازٍ تهيمن عليه وتحدد ملامحه المعرفة المعمارية الحديثة المحدودة وهيمنة التقاليد الطاغية.

ويمكن هنا الاستدلال بمثال آخر هو مطار الهفوف الذي افتتح عام 1948م، مما يعني أنه تم البدء في بنائه منذ منتصف الأربعينيات أو حولها، وهي تجربة تسبق تجربة حسن فتحي كذلك. لقد واجه المبني عدة تحديثات أولها: هو الوظيفة الجديدة غير المعروفة في التراث العمراني الأحسائي، إذ لم يكن هناك مثال سابق لمباني المطارات. أما التحدي الثاني فقد كان تقنيًّا، فقاعات المطار كانت بحاجة إلى بحور كبير large span، ومن دون شك، جعل هذا التحدي البنّاء عبداللطيف العرادي وفريقه يفكرون بأسلوب مختلف.

إن محاولة خلق تراث عمراني جديد شكلت هاجسًا مبكرًا عند البنائين القدماء، ورغم ذلك لم تسنح لهم الظروف التاريخية للاستمرار في صنع تجارب جديدة، فسرعان ما تبدلت أحوال العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وسرعان ما بدأت المملكة تخطو نحو الحداثة في خمسينيات القرن العشرين.

حداثة متأخرة
يمكن تتبع تطور التراث العمراني الموازي عبر مسارات، قد يراها البعض غير واضحة تمامًا، لكن علينا أن نفكر في “التوق” الذي كان يدفع المجتمع السعودي لتبني الحداثة، حتى لو كانت حداثة متأخرة. فبعد تخطيط أرامكو للدمام والخبر عام 1947م، وافتتاح سكة الحديد بين الدمام والرياض عام 1951م، لم يعد هناك مناص من التحوُّل عن التقليدية بشكل كامل.

تلك الفترة أثارت أسئلة وجودية، فما سيتم تبنيه هو خارج إطار الثقافة المتعارف عليها، أو هكذا كان يعتقد البعض. ولعلي هنا أقارن اندهاش المجتمع السعودي بالعمارة الحديثة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي باندهاش العالم أجمع من مدينة الخط هذه الأيام. الجدير بالذكر أن أحد الأسس التي يقوم عليها منهج التراث الموازي هو “الدهشة” العقلانية من خلال إعادة اكتشاف الجذور بصورة غير متوقعة.

إن محاولة تشخيص حالة السعودية الجديدة، والمقصود بذلك الشخصية التي تريد أن تصنعها لنفسها في المستقبل القريب والبعيد، لابد من أن تحيلنا إلى الماضي القريب، فمدينة “ذا لاين” ما هي إلا امتداد لهذا الماضي المكتظ بكثير من التناقضات، التي شكلت العالم خلال العقود الخمسة الأخيرة.

فمنذ السبعينيات، بدأت العمارة السعودية تتفاعل مع السياقات الفكرية العالمية. وقبل ذلك، وفي الستينيات، كانت صدامات الحداثة المتأخرة والتقليدية المتجذرة في المجمع تميّز تلك العمارة. وسوف أتوقف عند مبنى المعهد الملكي الصناعي في الرياض كأحد الأمثلة التي تظهر عليها الرغبة في الحداثة مع وجود التأثير التاريخي “القومي”، الذي أحدثته القومية العربية في الخمسينيات والستينيات ودفعت بالطرز التاريخية، التي نشأت في الحضارة الإسلامية إلى مقدمة التجارب المعمارية في تلك الفترة.

تدفع “مدينة الخط” بفكرة التراث الموازي إلى مجالات تطبيقية حقيقية ستواجه تحديات كبيرة، لكنها ستقود في النهاية إلى فضاءات فكرية وعملية لم يتطرق إليها أحد سابقًا

إذن، لا يمكن فهم شخصية العمارة السعودية بهذه البساطة، إذ إن التجربة الممتدة، التي قد يراها البعض قصيرة مقارنة بكثير من الدول، لكنها ثرية ومتنوِّعة من حيث التجربة، تفرض علينا أن نتتبَّع نشأة وتطور بدايات التراث الموازي، والنجاحات والإخفاقات التي رافقت هذا التطور. ففي مرحلة الحداثة (1950 – 1975م) كانت مدرسة الحداثة في العمارة تلفظ أنفاسها، على أن إحدى العلامات المهمة لهذه المدرسة التي واكبت ما كان يحدث في العالم هي مباني جامعة البترول (جامعة الملك فهد) في مطلع الستينيات؛ فقد صممت ونفذت لتواكب المدرسة الحديثة المتأخرة بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى الأصح ما كان يسمى “العمارة الوحشية” (Brutal Architecture) وهي تسمية ناتجة عن استخدام الخرسانة المكشوفة على الشكل الظاهري للمباني. وفي الحقيقة أن استخدام الخرسانة بدلًا من المواد والتقنيات التقليدية أحدث انقلابًا واسعًا في مفاهيم العمارة السعودية منذ نهاية الأربعينيات، ويشكِّل هذا الانقلاب أحد أهم مسارات التراث الموازي “غير المقنّنة أو المنضبطة”.

فأي تراث جديد، خصوصًا إذا ما كان مبنيًّا على الدهشة التقنية والتجديد ومقاومة التجارب التاريخية لابد أن ينبع من عمق المجتمع، لا أن يكون مفروضًا عليه. وبالتالي، فإن التقبل الواضح من قبل المجتمع السعودي لهذا التراث الجديد لم يمر من دون تردد وتوقف ومساءلة، وهو الأمر الذي ميز مراحل متعددة خاضت فيها العمارة السعودية تجارب عميقة خصوصًا في مرحلة الثمانينيات وصعود مدرسة ما بعد الحداثة في العمارة، وتشكل المفاهيم الأساسية التي صاغها الناقد البريطاني “كينيث فرامبتون” حول العمارة الإقليمية.

وعلى الرغم من أن هذا التوجه يعيدنا إلى المربع الأول، ويرمي العمارة في حضن التقليدية والتكرارية ويتناقض مع مفاهيم التراث الموازي من الظاهر، إلا أن التجربة السعودية في الثمانينيات، ممثلة في مبنى البنك الأهلي ومطار الحجاج في جدة ومنطقة قصر الحكم ومطار الملك خالد وقصر طويق في الرياض صنعت جدلًا نقديًّا واسعًا حول “درجات الاستعارة من التاريخ”، وأحدثت حالة من التفكير غير المسبوق حول: ماذا تعني العمارة المحلية؟

ويبدو أن هذه التجربة على وجه الخصوص تصب بشكل مباشر في إعادة اكتشاف المبدأ الخامس في التراث الموازي وهو: النواة الإبداعية. فبعض التجارب فتحت أبوابًا حول أهمية تعدد مصادر الإلهام وحاولت أن تتجاوز الاعتماد على التراث المعماري التاريخي إلى إعادة اكتشاف شخصية وقيم الأمكنة الطبيعية وإعادة تقديمها بشكل مختلف، كما حدث في مبنى المتحف الوطني في مركز الملك عبدالعزيز التاريخي في الرياض في مرحلة التسعينيات.

صراع بين رغبتين
يمكن الركون إلى نتيجة مفادها أن المجتمع السعودي بشكل عام كان يصارع رغبتين، الأولى رغبته في المحافظة على تقاليده التي نشأ عليها تاريخيًّا، وهي رغبة كانت تمثل إلى حد ما عائقًا في الانفتاح على الثقافات الأخرى. أما الرغبة الثانية فتمثلت في توقه الواضح إلى الحداثة والاندماج في العالم المعاصر. وهذا التوق بدأ مبكرًا قبل النصف الأول من القرن العشرين وتصاعد تدريجيًّا. على أن التناقض الظاهري بين هاتين الرغبتين لابد أن يقود المجتمع إلى ابتكار حلول جديدة، لا نقول إنها كانت حلولًا توفيقية، بل كانت عبارة عن سلسلة من المحاولات، التي قادت إلى تبني شخصية خاصة يمكن أن نطلق عليها الشخصية السعودية، والتي بدأت تتضح معالمها في وقتنا الراهن بشكل أكثر.

ويمكننا أن نقول، كذلك إن منهج التراث الموازي يُعدُّ من الأدوات التي يمكن أن ينتهجها المجتمع السعودي، بحيث يبقى مرتبطًا بجذوره ومنابعه الثقافية، مع تملك القدرة على الابتكار والتجديد من دون أن تحده حدود التفسيرات التاريخية السابقة والتقاليد التي لم تعد مناسبة لحياتنا المعاصرة.

يفترض في العمارة السعودية المستقبلية أن تكون ضمن هذا المنظور الموازي للتراث الذي لا يقطعنا عن العالم ولا يقطعنا عن الجدور.


مقالات ذات صلة

يعكس التطبيق المتكامل لأنظمة التنقل ذاتي القيادة مدى التقدم الذي وصل إليه أيُّ بلدٍ من البلدان من جوانبه كافة. إذ تتطلب هذه الأنظمة، قبل الشروع في تطبيقها، بنية علمية وتكنولوجية وثقافية وفنية راسخة.

يحدث التجدّد البيولوجي في الطبيعة على مستويات عديدة ومختلفة، بدءًا من الكائنات الحية الفردية، مثل: السمادل وديدان الأرض والهيدرا وغيرها، مرورًا بمجتمعات الميكروبات في جسم الإنسان وعليه، وانتهاءً بالأنظمة البيئية الكبيرة مثل الغابات عند قطعها. فلماذا لا تـتجدد أنسجة الإنسان وأعضاؤه عند الضرر؟

ستحوذت الحركة الدائمة على خيال العلماء منذ حوالي ألف سنة. وتعددت محاولات تحقيق هذا الحلم بإنشاء آلات تعمل بشكل دائم من دون طاقة خارجية، حتى القرن الثامن عشر، إلى أن حدَّت من زخمها بعض الانتقادات العلمية، مع صعود العلم الحديث.


0 تعليقات على “التراث الموازي وآفاق مستقبلية للعمارة السعودية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *