الكون حولنا مليءٌ بالبدايات الجديدة. نفتح أعيننا كلَّ يوم على ولادة فجر تبتسم فيه خيوط الضوء فتبتهج الأشياء. الربيع أيضًا يذكرنا بها عند حلوله، فإذا بالأوراق والزهور تتفتَّح وكأنها تنبجس عن ماء الحياة والجمـال أوَّلَ مرة. والقمر مثلهما، لا يفتأ يبدو لنا هـلالًا وليدًا يجري في منازله نحو كمال البدر. ولعلَّنا نحن البشر قد اكتسبنا تعلُّقنا بـ “بداية جديدة” من تأملنا في هذا الكون الفسيح حتى صارت جزءًا منَّا؛ يومٌ جديد فأسبوعٌ فشهر فسنة، وهكذا نركض وراء أحلامنا غير عابئين بجريان الزمن في اتجاه واحد.
هذه البدايات الجديدة المبثوثة في نظام الكون ترتبط غالبًا بدورة الشمس والقمر، وإن كان بعضها يتمظهر بثوب “الذاتية” الطاغية، كما هو الحال مع أعياد الميلاد الشخصية التي صار الاحتفال بها دارجًا. ولطالما اعتمد الإنسان على هذه البدايات في ترتيب نظام حياته. هاكَ، على سبيل المثال، الدراسة الأكاديمية ومواسمها، ومثلها عالم الأعمال الذي يدور مركزه حول الميزانية السنوية. والمنافسات الرياضية كذلك تنتظم حول الفكرة نفسها، فما إن تأزف نهاية الموسم حتى يترقَّب متابعوها انطلاقة موسم جديد. مسلسلات عالم الأدب والفن أيضًا تُجيِّر هذا الولع البشري لمصلحتها، ما دامت “السلعة” قادرة على جذب انتباه الجمهور.
من ناحية تحليل الظاهرة، يُطلق العلماء مُصطلح “العلامات المرحلية” (temporal landmark) على تلك البدايات الجديدة، وتُعرَف بأنها أشبه بنقاط مرجعية نستخدمها وسيلةً، أو حيلةً، لتنظيم تجاربنا وذكرياتنا الشخصية والعامة. ولها تأثير كبير على طريقة تفكيرنا وعملنا، يُعرَف في الأوساط العلمية باسم “تأثير البدايات الجديدة”، بحيث يصعب تصوُّر الحياة من دونها. وإلى جانب قسمها الأول المرتبط بالعلامات المعتادة، من قبيل بداية السنة، هناك قسمٌ آخر منها يرتبط بالتجارب الفارقة في حياتنا، سواء أكانت باختيار منا، مثل الانتقال إلى مدينة جديدة، أم دون أي تدخل، مثل النجاة من حادث مميت.
الآن، تخيَّل للحظة أن تختفي كلُّ تلك “البدايات الجديدة” من على وجه خط الزمن، فيصبح متساويًا في وتيرته الصاعدة النازلة.. هل ثمَّة فرق؟! لعلَّ التجربة تغنينا عن البرهان. لكن العلم يؤكد أن لتلك البدايات الجديدة فوائد في تجديد الطاقة وخلق الحافز للقفز مجدَّدًا على إيقاع الحياة. فأول يوم بعد إجازة طويلة هو “بداية جديدة” تعينك على معاودة الركض في المضمار، ومن دون ذلك يُصبح الأمر معقَّدًا!
ومن فوائدها أيضًا أنها تساعد على زعزعة “أنماط” الحياة التي تترسَّخ في أذهاننا مع الوقت، فهي إذًا تساعد على إعادة النظر ومراجعة ما سبق، وتأمل الصورة الكُبرى بعيدًا عن الاستغراق في التفاصيل، تمهيدًا واستعدادًا لما نستقبله من أمر. وبهذا يمكن الاستفادة منها في تغيير العادات الشخصية. كما يمكن لها أن تساعد على استدامة الإنجاز، ولعلَّ هذا هو ما دعا الألماني يورغن كلوب، مدرب نادي ليفربول، إلى إنهاء رحلته مع النادي. وكذلك قد تمنحنا الحرية في أخذ خطوات جريئة، كما فعل إيلون ماسك عند استحواذه على “تويتر” السالفة.
ويمكن تصوُّر البدايات الجديدة على أنها قفز من مركب “الأنا” الحالية نحو “أنا” جديدة لا ترتبط بالضرورة بما قبلها، فهي إذًا وسيلة للانعتاق من الماضي، والتخلُّص من أعباء السابق بإنجازاته وعثراته. وهذا الأمر يُعين على تفسير ظاهرة “قرار السنة الجديدة” التي تنتشر في الجانب الغربي من الأرض. أمَّا في شرقنا القريب الحبيب، فربما استطعنا بها الوصول إلى فهم أكبر لجوهر رمضان والعيد، فهما أشبه بدعوة مفتوحة إلى التغيير من باب “البداية الجديدة”.
بطبيعة الحال، ليست كلُّ البدايات الجديدة “شروقًا”، فهي قد توافينا أيضًا عندما تكون الأمور على خير ما يُرام؛ فتئد الأحلام في مهدها، أو تكون حجر عثرة يحول دون عودة الأمور إلى نصابها. ومن المهم كذلك أن نعرف أننا لا نستطيع الاتكاء على هذه البدايات وحدها لإحداث الأثر الحاسم الدائم، ففي نهاية المطاف لا بُد أن يتصل هذا الحماس الذي تُثيره فينا بعزيمة تدفعنا نحو مواصلة السير وتخطِّي الصعاب. ولذلك تذوب كثيرٌ من أمانيِّ التغيير مع الوقت في حرارة تحدِّي المحافظة على “شباب” البدايات.
بالنسبة إلى مجلة القافلة، يُمكن لنا أن نعتبر هذا العام “بداية جديدة” بعد سبعة عقود من رحلة السير الحثيث في عالم الثقافة. أصدقاء “القافلة” والقريبون منها يعرفون أنها مرَّت بفترة عصيبة العامين الماضيين، فبعد استراحة ليست بالقصيرة لم يكن استكمال المسيرة أمرًا هيِّنًا في سياق تغيُّرات عديدة خاصة وعامة حفَّت بها. لكن المهم الآن هو أن قافلتنا الحبيبة تُريد أن تنطلق من هذه “البداية الجديدة” مجدَّدًا بزخم يليق بمسيرتها الملهمة. ومع أنها لا يسعها، وربما لا ينبغي لها، أن تقفز عن مركب “ماضيها” السابق، المُرصَّع بعلامات مضيئة كثيرة، لكنها تأمل هنا أن تواكب ألق الماضي بوهَج جديد يلاحظ المستقبل، ويحلِّق بها مجدَّدًا إلى حيث يأمله القرّاء والأحباء منها؛ فهؤلاء هم هاجسها القديم الجديد، والثابت المتحرِّك عبر كلِّ بداياتها الجديدة.
وبالنظر إلى العدد الذي بين أيدينا، نأمل أن يتلمَّس القارئ بعض ملامح هذه البداية الجديدة. كما ندعوه إلى مطالعة “القضية” حول استضافة الرياض لـ “إكسبو 2030” ، التي يمكن اعتبارها “بداية جديدة” في عهد المملكة الحافل بـ “البدايات الجديدة”، وكذلك قراءة ملف العدد، الذي يحتفي باللون “الأخضر”، لون النضارة والشباب والجنَّة الدائمة؛ ليحتفي معنا بالبدايات الجديدة بعيدًا عن أحلام “جميل بُثينة” الواهمة بعودة الدهر بعد تولِّيه!
لطالما أتحفتنا القافلة بإبداعتها الغير مسبوقة في مجال الثقافة والعلم وكل المجالات وسنعتبر هذه إندفاعه جديدة إلى الأمام وليست بداية جديدة حيث أنني أزعم أن البدايات تكون عادة من وضع السكون وهي ليست الحالة هنا.
ما اجمل البداية الجديدة. انها مؤشر التقدم دون سواها. انها الوثبة التي ترتعش معها القلوب. وميزتها الاساسية انها صنو الولادة. في طياتها مفاجأة تتوالا منها مفاجأة. تثري الوجود بلا حدود وتكشف قدمه. تعززه وتعلن افوله في آن معًا.