لم يشهد عالم المال والاقتصاد خلال السنوات القليلة الماضية نقاشًا حمل من التناقضات القصوى كذاك الذي شهدته العملة الافتراضية البتكوين، بوصفها الواجهة الأبرز لكل العملات الرقمية الأخرى. ففيما يذهب المؤيدون لهذا النقد الحديث والمستثمرون المتفائلون به إلى حد القول إن قيمته ستبلغ مستويات فلكية في المستقبل المنظور، يذهب آخرون إلى حد وصف البتكوين بأنها مجرد خزعبلة كبرى، لا بد وأن تنهار عاجلًا أم آجلًا. فما هي حقيقة نقاط القوة والضعف في هذا النقد العالمي الجديد؟
اعتُبرت الأزمة المالية العالمية عام 2008م أكبر انهيار اقتصادي منذ الركود الكبير عام 1929م. وإزاء خسارة عشرات الملايين من المستثمرين في الأسواق المالية حول العالم كثيرًا من أموالهم، اهتزت الثقة في الحكومات وأصحاب المؤسسات المالية والبنوك. إذ إن الأموال على أنواعها تمر في حركتها عبر السلطات المالية المركزية ورقابتها، لكنها لم تتخذ أي إجراءٍ لمنع الانهيار بالحد من الاستدانة المفرطة، ولم تنقذ المستثمرين بعد الانهيار، بل أطلقت عملية إنقاذٍ لتلك المؤسسات والبنوك على حساب الناس. مما تسبب بموجة غضبٍ واسعة.
حدث هذا في وقت كانت الثورة الرقمية في أوجها، والذكاء الاصطناعي يصنع “المعجزات” برأي الكثيرين. وبغض النظر عن صحة هذا الاعتقاد من عدمه، ترك ذلك انطباعًا عامًا أن بإمكان التكنولوجيا أن تشكِّل بديلًا يسمح بالتعامل بين الأفراد من دون المرور عبر المؤسسات التقليدية.
وكان عديد من البرامج والتطبيقات التي تسمح بإرسال ملفات صوتية وصورية من جهاز إلى جهاز آخر عبر الإنترنت، من دون المرور عبر منصة مركزية، قد بدأ يظهر منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين. فتساءل كثيرون: لماذا لا يمكن إرسال الأموال من جهاز إلى جهاز آخر عبر الإنترنت من دون المرور بمنصة مركزية وبعيدًا عن أعين السياسيين والرأسماليين الجشعين؟
هذا ما اقترحه في العام 2008م نفسه مؤسس عملة البتكوين ساتوشي ناكاموتو، المجهول الهوية تمامًا، عندما قال في بداية ورقة نُشرت في حينها: “إصدار النقد الإلكتروني البحت من نظير إلى نظير من شأنه أن يسمح بإرسال المدفوعات عبر الإنترنت مباشرة من طرف إلى آخر من دون المرور عبر مؤسسة مالية”.
وقد سمى ناكاموتو هذا النقد الإلكتروني “البتكوين” على غرار “بت تورنت” المتخصصة في إرسال الملفات من نظير إلى نظير مباشرة. وحتى الآن لا يعلم أحدٌ من هو ساتوشي ناكاموتو أو لماذا يود الحفاظ على سرية هويته.
ثورة المال التقنية
والحال أن أول ثورة تقنية حقيقية في عالم المال ظهرت عام 1950م مع إصدار أول بطاقة ائتمانية. وبعد فترة طويلة ظهرت في عام 1999م منصة “باي بال” للمدفوعات. لكنها لم تستطع أن تدخل في مجال المدفوعات إلا عبر استخدام حسابات وهمية، وتطلب من التاجر استخدامها من أجل إنجاز المعاملات المالية. كما ظهرت في الفترة نفسها بعض المحاولات الأولية لاستخدام نقد رقمي أو افتراضي، لكنها باءت بالفشل لأسباب مختلفة.
وفي بداية العقد الثاني من الألفية ظهرت “أبل باي” وأخواتها. وبدأت شركات التقنية الكبرى كمجموعة “آنت” التابعة لعلي بابا، تدخل في هذا المجال وتقدم التمويل الشخصي المصغر لمستخدميها.
ما هي البتكوين؟
أساس البتكوين، إذن، هو أداة لامركزية لتحويل الأموال من فرد إلى آخر من دون الخضوع لأي سلطة على غرار “نابستر”و “بت تورنت”. ولكن تحويل “أرقام” حاسوبية من جهاز إلى آخر هو بلا قيمة إذا لم يكن للبتكوين استخدامٌ فعلي، أو له القدرة على شراء وبيع البتكوين بالدولار. والأمر الثاني هو إقناع أصحاب المتاجر بقبول الدفع بالبتكوين أسوة بالنقد وبطاقات الائتمان.
بعد أكثر من عقد على ظهورها وترويجها، لا تزال البتكوين في دوامة التوقعات المتناقضة، والمؤكد أن أهميتها تكاد تنحصر في كونها أداة للمضاربة.
قبل ظهور منصات تداول العملات المشفرة، كان يجب على مشتري البتكوين أن يجد بائعًا للبتكوين ليتبادلا الأسعار ويرسل بعضهم إلى البعض الآخر الدولارات بالطرق التقليدية. وخلافًا لما يعتقده كثيرون، فإن كثيرًا من الشركات وافقت على بيع منتجاتها عبر البتكوين في بداياتها خلال عامي 2010-2011م. ولكن مع نمو عدد مستخدمي البتكوين ومعاملاتها المالية، أصبح واضحًا ضعف البتكوين في المعاملات المالية لأسباب تقنية كالبطء في التحويل وارتفاع التكلفة. وفي عامي 2016-2017م، دارت رحى “حرب أهلية” طاحنة بين أهل البتكوين.
بسبب الخوارزمية التي وضعها ناكاموتو، فإن العدد النهائي لوحدات البتكوين معلوم ومحدود. ولا يمكن إنتاج أي وحدة جديدة إلا عبر حل خوارزمية معقدة تستهلك كمية كبيرة من الطاقة. ويسمى الذين يتمكنون من حل هذه الخوارزمية “المنقبون” الذين يحصلون على البتكوين مجانًا نظير جهدهم في استخراجها. وتُسمى عملية الاستخراج هذه: التعدين. وحين يرتفع الطلب على البتكوين يزداد سعره، وتزداد أرباح المنقبين. ولهذا السبب يتحالف المنقبون مع منصات تداول البتكوين لرفع قدرة البتكوين في معالجة المعاملات المالية عبر تغيير جوهري في نظام البتكوين.
أدى ذلك إلى رفض مطوري البتكوين وصغار ملاكها ذلك رفضًا تامًا، بدعوى أن رفع قدرة البتكوين يؤدي إلى تركز القوة في أيدي المنقبين وكبار الملاك. وهذا يتعارض مع مبدأ اللامركزية. وأسفر ذلك عن خلافات كبيرة بين حاملي البتكوين أنفسهم ورفع البعض في وجه الآخرين اتهامات وشتائم. لكن الارتفاع الهائل للبتكوين ابتداءً من منتصف 2017 أدى إلى انتهاء هذه “الحرب الأهلية”.
البتكوين والعملات المستقرة
في منتصف عام 2018م، نشر باحثان من جامعة تكساس هما جون غريفين وأمين شمس بحثًا بعنوان “هل البتكوين غير مربوطة فعلًا؟”، وبحثا فيه عن أي تلاعب بأسعار البتكوين لرفع سعرها في تلك الفترة باستخدامهم “العملات المستقرة” التي هي عملات مشفرة تصدرها بعض الجهات مدعومة بالكامل، كما تزعم، بالدولار أو اليورو أو أية عملة أخرى. فمثلًا شركة “تثر” تصدر العملة المستقرة “USDT” مدعومة بالدولار الأمريكي أي أن وحدة من الـ”USDT” تساوي دولارًا واحدًا.
فبإمكان المرء أن يبادل الدولار الأمريكي مع شركة تثر بالعملة المستقرة، ويستخدمها في شراء البتكوين أو أية عملات مشفرة أخرى. ذلك لأن عمولة شراء البتكوين عبر العملات المستقرة أقل من عمولتها عبر العملات الحقيقية. لكن ماذا لو كانت العملة المستقرة غير مدعومة بالكامل بالعملات الحقيقية؟ وماذا لو أصبح الدولار من “USDT” أقل من الدولار الحقيقي؟ فباستطاعتنا الافتراض أن باستطاعة شركة تثر أن تطبع ما تريد من عملتها المستقرة واستخدامها في شراء البتكوين ومن ثم التلاعب في سعرها.
هذا هو استنتاج البحث المذكور آنفًا، والذي أثبت أيضًا أن حوالي %50 من ارتفاع البتكوين في 2017م، سببه التلاعب من قبل بعض الأشخاص عبر العملة المستقرة “USDT”. ولاحقًا، في فبراير 2021م، قال المدعي العام لولاية نيويورك إن شركة تثر خدعت عملاءها، لأنها لا تملك تلك الأموال من العملات الحقيقية لدعم عملتها المستقرة. ولهذا السبب فإن هيئة الأوراق المالية الأمريكية ترفض الترخيص لأي صندوق يستثمر في البتكوين بسبب التلاعب الموجود عبر العملات المستقرة.
مقارنتها بالذهب
مع انتهاء “الحرب الأهلية” في بتكوين منتصف 2017م، صرف مؤيدو البتكوين النظر عن أهمية تحويل الأموال، وركزوا على أمور أخرى قد تظهر فائدة البتكوين: بديل الذهب، أو العملة الجديدة التي ستحل محل العملات الحقيقية. وظهرت عدة كتب ابتداءً من عام 2018م تتحدث عن دور جديد للبتكوين، ألا وهو “الذهب الإلكتروني” أو البديل للاستثمار في الذهب. ولم لا؟ فكميتها محدودة مثل الذهب، وعلاقتها ببقية الأصول ضعيفة كذلك مثل الذهب.
البتكوين وكورونا
أعادت جائحة كورونا الاهتمام بالبتكوين كأداة للتحويل. فالسيولة النقدية العارمة رفعت من قيمة جميع الأصول ومن ضمنها البتكوين. وبدأ هوس الأفراد بأسهم بعض الشركات التي شهدت ارتفاعات خيالية على الرغم من إفلاس بعضها لاحقًا. وكان لزامًا، في هذا الجو، استمرار التسويق للبتكوين. فإذا كان دورها في نظام المدفوعات محدودًا، فإنها “أصل استثماري” وبسبب محدودية كمياتها المعروضة، فإن سعرها سيرتفع. ولكن هذه المحدودية ليست سببًا بحد ذاتها لارتفاع الأصل إذا لم يقابله ارتفاع الطلب. فكيف يمكن رفع الطلب؟
الطلب على البتكوين
لرفع الطلب على البتكوين وجب جعلها عملة متداولة. مما يعني خضوعها لعملية العرض والطلب والمنافسة مع النظام المالي الحالي المبني على “الفيات”؛ أي العملة المتداولة غير المدعومة بسلعة معينة كالذهب أو الفضة، بل بمرسوم حكومي يعلن أنها عملة قانونية. فشن أنصار البتكوين هجومًا على هذا النظام لأنه فاسد وسيء؛ وأن قدرة البنوك المركزية على “طباعة” النقود أمر مضر جدًا للاقتصاد. وتم نبش الماضي وبحثوا عن الاقتصاديين الذين عارضوا “طباعة” النقود. فوجدوا كنزهم الأول لدى الاقتصادي الإنجليزي ملتون فريدمان 1912 – 2006م، ولكنهم تجاهلوه لاحقًا بعد أن عرفوا أن فريدمان مؤيد “للطباعة” الهادئة. ولكن كنزهم الثاني كان أفضل، ألا وهو الاقتصادي النمساوي فريدريك هايك، 1899 – 1992م.
وجهتا نظر
فجأة، أصبح البتكوينيون من دعاة المدرسة النمساوية. وعندما قيل لهم إن محدودية كمية البتكوين ستؤدي إلى انكماش اقتصادي على المدى البعيد، فإنهم أتوا بنظرية اقتصادية جديدة بأن الانكماش الاقتصادي أفضل من النمو الاقتصادي. وهنا بدأت المشكلات بين أهل البتكوين والاقتصاديين.
لعل أبرز مثال لتبيان الفرق بين الفريقين هو “مخزن القيمة”. فمخزن القيمة للاقتصادي يعني أن قيمة العملة لا تتذبذب كثيرًا. وهكذا فإن البتكوين ليست مخزنًا للقيمة. ولكن أهل البتكوين يقولون إن “مخزن القيمة” يعني شيئين: أولًا، ارتفاع سعر البتكوين على المدى البعيد سيحافظ على قيمتها “المرتفعة” بغض النظر عن التذبذبات المرحلية، وإن كانت حادة. ثانيًا، البتكوين بعيدة عن سلطة الحكومة، مما يعني الحفاظ على أموالك من استيلاء الحكومات عليها.
خيبة الأمل
ولكن مع انهيار سعر البتكوين من حوالي 70 ألف دولار في نوفمبر 2021م إلى أقل من 20 ألف دولار في مايو 2022م، انخفضت أصوات المؤيدين الذين توقعوا أن يصل سعر البتكوين إلى مليون دولار.
في آخر المطاف، لم تنجح البتكوين كأداة للمعاملات المالية، ولم تنجح كمخزن للقيمة، ولم تنجح كبديل للذهب، أو بديل للنظام المالي. وبقيت أداة مضاربة للربح السريع أو الخسارة السريعة وسط غياب الرقابة المالية. ولا تزال شبهات التلاعب والاحتيال تحوم حولها.
اترك تعليقاً