مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

قريبًا.. كل الأنظار صوب السماء

الانفجار النجمي المرتقب


د. نضال قسوم

من أجل فهم أهمية الحدث، علينا العودة بضعة قرون إلى الوراء. ففي نوفمبر 1572م، أُصِيب العالم الفلكي الدنماركي توخو براهه بالذهول عندما رأى نجمًا جديدًا في السماء، أشار إليه باللفظ اللاتيني “نوفا”؛ أي “جديد”. وعرفنا لاحقًا أن هذا النجم كان مستعرًا أعظم (ما يسمَّى اليوم بـ “سوبرنوفا”)، وهو انفجار نجم برمَّته. وكتب لاحقًا أنه حينئذٍ “شكَّ في عينيه”. لماذا؟ لأن علم الفلك السائد في تلك الفترة كان يقول باستحالة ظهور نجم لم يكن موجودًا من قبل، أو حتى أن يلمع نجم فجأة أو يتناقص لمعانه بشكل لافت. كان علم الفلك السائد، حينئذٍ، منذ ألفي سنة، يؤكد أن النجوم، بل الكون برمَّته، لا يعتريه تغيّر البتة، وكل ما يحدث في السماء هو حركات منتظمة نحاول تفسيرها هندسيًا. ولكن، كما كتب شكسبير في مسرحية “هاملت”: “هناك أشياء في السماء والأرض، يا هوراشيو، أكثر مما تحلم به في فلسفتك [أي معرفتك]”. 

ما رصدته المصادر العربية 

لا نعرف أي حالات من نوع “النوفا”، أي نجم يزداد لمعانه بشكل لافت بضعة أيام ثم يعود ويخفت، مما جرى رصدها وتسجيلها في التاريخ العربي. لكننا نعرف عن حالات من المستعرات الأعظم (انفجار نجوم برمَّتها)، رُصِدت في العالم العربي وأماكن أخرى عبر التاريخ، وذُكرت في كتب يعود بعضها إلى ألف عام، لأنها أقوى من “النوفا” بمليون مرة. 

هناك حالتان شهيرتان من هذا النوع حدثتا في عامي 1006م و1054م. الأولى كانت لامعة بشكل مدهش حتى كان يُرى “النجم الساطع” خلال النهار وظل الناس يرون ذلك مدة أسابيع. وقد ذُكِر رصده في مصادر عربية من اليمن إلى المغرب.

حتى إن ابن سينا ذكر ذلك في كتابه “الشفاء”، بيْدَ أنه لم يتذكر التاريخ بشكل دقيق؛ إذ نعلم أن الحدث كان في أوائل مايو 1006م، أي ما يقابل سنة 396 هجرية، وليس 397 كما ذكر. وقد وصفه ابن سينا بقوله: “قوة نارية شديدة، فيعرض لذلك أن يبقى التهابها واشتعالها مدة طويلة إمَّا على صورة ذؤابة أو ذنب، وأكثره شمالي وقد يكون جنوبيًا، وإمَّا على صورة كوكب من الكواكب [أي نجم]، كالذي ظهر في سنة سبع وتسعين وثلاث مائة للهجرة، فبقي قريبًا من ثلاثة أشهر يلطف ويلطف حتى اضمحل، وكان في ابتدائه إلى السواد والخضرة، ثم جعل كل وقت يرمي بالشرر ويزداد بياضًا [أي لمعانًا] ويلطف حتى اضمحل”. 

ومنذ اختراع التلسكوبات في عام 1609م، التي أصبحت الآن أكبر وأقوى، بالإضافة إلى مجموعة من الأدوات الرائعة (مثل المطياف)، سواء وُضِعت على الأرض أو في الفضاء، تضاعفت هذه الاكتشافات من حيث التنوع والطاقة. فبالإضافة إلى النوفا والسوبرنوفا، ظهرت الـ”هايبرنوفا” التي تنتج في بضع ثوانٍ طاقة منبعثة تُعادل طاقة جميع نجوم مجرتنا خلال عام كامل. كما ظهرت “كيلونوفا أو ماكرونوفا”، وكذلك “ميكرونوفا” وهي أحدث اكتشاف في قائمة الانفجارات الكونية، فضلًا عن التوهجات النجمية والشمسية التي أصبحت مألوفة لدينا. 

الانفجار وشيك 

النجم الذي يعنينا في هذه الحالة النادرة والمثيرة لهذه السنة هو المسمّى “T Corona Borealis” (ويُختصر بـ “T CrB”)، ويقع في كوكبة “الإكليل الشمالي”. وهذا النجم لا يُرى عادةً إلا بالتلسكوبات. لكن خلال انفجار “النوفا” الآتي، سيتضاعف لمعانه حوالي 1500 مرة ويصبح مرئيًا بالعين المجردة بضعة أيام، وبالمنظار ثنائي العينية مدة أسبوع أو أكثر. وفي ذروة سطوعه، سيكون لمعانه مثل النجم القطبي “بولاريس”. وبينما يقع على مسافة 2630 سنة ضوئية، فإن حسابًا بسيطًا يبيّن أن كمية الطاقة التي تصدر منه خلال الانفجار هي أكثر بمائة ألف مرة مما تنتج الشمس. فلو كان أقرب إلينا عشر مرات (أي على بعد 263 سنة ضوئية)، لوصل سطوعه إلى سطوع المشتري، ولرأيناه في النهار وليس فقط في الليل! 

إن العملية التي تؤدي إلى تضاعف السطوع ألف مرة أو أكثر هي عملية مدهشة ورائعة حقًا. يحدث مثل هذا الانفجار عندما توجد أجرام تُدعى “الأقزام البيضاء”، وهي نجوم ميتة، وكانت صغيرة نسبيًا (بحجم شمسنا تقريبًا)، في أنظمة ثنائية مع نجوم أكبر، وخاصة العمالقة الحمراء (اللوحة أدناه). يدور القزم الأبيض والنجم الكبير حول مركز ثِقَليهما، ويحدث أثناء ذلك الدوران انتقال المادة (أكثرها هيدروجين) من النجم الكبير إلى القزم الأبيض الميت. وبمرور الوقت، وفي حالتنا هذه يستغرق ذلك حوالي 80 عامًا، يتراكم الهيدروجين على سطح القزم الأبيض، وترتفع درجة حرارة طبقة الهيدروجين هذه حتى تصل إلى عشرات ملايين الدرجات المئوية، ما يكفي لحدوث اندماج نووي، ثم انفجار على السطح يشبه القنبلة الهيدروجينية. وتقذف طاقة هذا الانفجار النووي كرة غازية ساخنة متوهجة من السطح. وهذه الكرة هي التي تظهر لنا فجأة كبقعة جد لامعة في السماء، من جِرم كان خافتًا سنوات طويلة. 

“النوفا” التي نحن بصددها إذًا، هي من نوع “النوفا المتكررة” (Recurrent Novae)؛ أي أجرام لا تُرى بالعين المجردة في معظم الأزمنة، ولكن مرة كل قرن أو نحو ذلك، يحدث لها ذلك الانفجار ويمكن رؤيتها فترة قصيرة. يتوهج هذا الجرم كل 80 عامًا، وقد جرى رصد انفجار له أوَّل مرة (تضاعف لمعانه ألف مرة أو أكثر) باستخدام التلسكوبات في عام 1866م، ثم رُصد مرة أخرى بمزيد من التفصيل في عام 1946م. ففي تلك السنة، لاحظ علماء الفلك تطورًا مثيرًا للاهتمام لهذه “النوفا”: يرتفع لمعان الجرم حوالي خمس مرات خلال السنوات العشر قبل الانفجار، ثم يحدث تناقص ملحوظ للمعان مدة عام تقريبًا، ثم يحدث الانفجار. وتعدُّ هذه التطورات أو التغيرات بالغة الأهمية؛ لأنها تعطينا مؤشرًا لاقتراب الانفجار. 

في مجرتنا درب التبانة، نعرف حوالي 10 نجوم من نوع “النوفا المتكررة”. وهناك عدد قليل آخر من الأجرام التي تشير خاصياتها إلى أنها من هذه الفئة، وإن كنا لم نرصد لها أي انفجار بعد. 

الفوائد العلمية لهذا الحدث 

إضافة إلى عدد لا يُحصى من التلسكوبات “البصرية” لدى المختصين والهواة حول العالم، لدينا الآن مراصد فضائية يمكنها تسجيل الأشعة غير المرئية، مثل: (أشعة غاما، والسينية، وفوق البنفسجية، وتحت الحمراء)، وكذلك تلسكوبات راديوية على سطح الأرض، وهو ما يسمح برصد غير مسبوق في دقته لهذا الحدث.  

وبالفعل، تقوم وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” بتجهيز تلسكوباتها الفضائية: التلسكوب “جيمس ويب” الشهير الآن، ومرصد “نيل غيريلس-سويفت”، والمرصد الفضائي “IXPE” (مقياس استقطاب الأشعة السينية)، والمرصد الفضائي “NuSTAR” (التلسكوب الطيفي النووي)، والمرصد الفضائي “NICER” (مستكشف التركيب الداخلي للنجوم النيوترونية)، والمرصد الفضائي للأشعة غاما “فرمي”. وكذلك الأمر بالنسبة إلى وكالة الفضاء الأوروبية التي ستستخدم مرصدها الفضائي “INTEGRAL”. كما ستقوم تلسكوبات راديوية عديدة على الأرض، بما في ذلك المصفوفة الكبيرة التابعة للمرصد الوطني لعلم الفلك الراديوي في ولاية نيو مكسيكو، بدراسة هذا الحدث. 

إن هذه الأدوات، التي لم تكن موجودة في المرات الماضية التي حدثت فيها هذه “النوفا” وجرت دراستها بالتلسكوبات، أي في عامي 1866م و1946م، ومنها خاصة كاشفات الأشعة غاما والأشعة السينية ومقاسات الاستقطاب السيني، وكلها على متن أقمار صناعية في الفضاء؛ ستسمح للعلماء بدراسة الانبعاثات الكهرومغناطيسية بتفصيل أكبر، وبتحديد الظروف الفيزيائية والعمليات والتفاعلات عالية الحرارة والطاقة التي تحدث أثناء هذا الانفجار. 

خلال السنوات الماضية، نشر عالم الفلك برادلي شيفر، عددًا من الأبحاث المهمة حول هذا الجرم وانفجاراته، وسلَّط الضوء على كثير من الألغاز المرتبطة بهذا الحدث، التي سيرغب العلماء في فك عناصرها. الأول هو وجود ارتفاع ثانٍ لسطوع الجرم، يحدث بعد بضعة أشهر ويستمر فترة أطول من الانفجار الأول. وكتب شيفر في بحث صدر في 2023م: “لقد شُوهد هذا الحدث المزدوج بشكل متماثل في عامي 1866م و1946م. لكن لم يحظَ ذلك بكثير من الاهتمام من طرف الباحثين… وفي هذا نرى نمطًا جديدًا ومثيرًا من انفجارات النوفا تشكّل لغزًا وتحديًا لواضعي النماذج لهذه الظواهر”. ثم هناك لغزٌ آخر؛ كيف يمكن للتغيرات (تضاعفًا وتناقصًا) في لمعان الجرم في السنوات التي تسبق الانفجار أن ترتبط بالانفجار الذي سيأتي بعد أشهر أو سنوات، وكيف تشكّل مؤشرًا له. 

وعلينا أن نشير الى أن الهواة سيشاركون في دراسة هذا الانفجار، من خلال ما يُعرف بـ”علم المواطن”، وذلك بجمع بيانات مهمة، خاصة في الأوقات والأماكن التي لا توجد فيها مراصد محترفة. وهكذا وبشكل جماعي، ستلتقط التلسكوبات والأدوات المختلفة كمية هائلة وثرية من البيانات عبر طيف الضوء المرئي وغير المرئي برمَّته. وسيكون من المهم جدًا الحصول على البيانات أثناء التجلّي المبكر للسطوع؛ أي في الساعات الأولى من الانفجار، ثم التجلّي الثاني الذي يحدث بعد بضعة أشهر. 

أنواع أخرى من الانفجارات اكتُشفت مؤخرًا 

مع الأدوات العلمية الجديدة والمتنوعة، كشفت الأبحاث الحديثة عن أنواع عجيبة أخرى من الانفجارات الكونية، يسمح كلٌّ منها بفهم جوانب خفية من الكون. ومن بين هذه الاكتشافات الحديثة، المستعرات الفائقة أو “الهايبرنوفا”، و “الكيلونوفا” أو “الماكرونوفا”، و “الميكرونوفا”، والتوهجات النجمية. 

المستعرات الفائقة أو الهايبرنوفا هي انفجارات نجوم عملاقة، تعطي طاقة قد تصل أو تتعدى مليار مرة مقارنة بما تعطيه أقوى سوبرنوفا، التي قلنا إنها أقوى مليون مرة من النوفا. ويُجمِع العلماء على أن الهايبرنوفا تحدث عندما تنهار النجوم العملاقة في نهاية حياتها، ويتكون من جراء ذلك ثقب أسود في قلب الجرم، وتنبعث منه نفاثات عظيمة بالأشعة غاما، ثم تدريجيًّا بالأشعة السينية وفوق البنفسجية، ثم بالضوء المرئي وحتى موجات الراديو. وعندما يحدث رصد أشعتها (الغاما والسينية) الأصلية من الفضاء (لأن هذه الأشعة لا تصل إلى الأرض)، تدرسها مجموعة من الأقمار الصناعية المخصصة لذلك، وينكب على هذه الدراسة عدد كبير من الباحثين عبر العالم. 

ثم هناك “الأجرام اللامعة ذات التبريد السريع”، وهي فئة جديدة من الانفجارات الكونية تَعرَّف عليها علماء الفلك مؤخرًا، وهي أقوى من معظم السوبرنوفا التي جرى اكتشافها حتى الآن. تصل طاقة هذه الانفجارات إلى مئات مليارات ما تنتجه الشمس، لكنها تضمحل بسرعة كبيرة. وأحد الأمثلة على هذه الانفجارات هو انفجار “AT2022aedm”، الذي اُكتشِف في 30 ديسمبر 2022م، وكان أقوى بكثير من أي سوبرنوفا “عادية”، لكنه دام أقل من نصف مدتها. ويُرجّح أن يكون الانفجار نتج من ابتلاع ثقب أسود لنجم بشكل سريع.  

أمَّا “الكيلونوفا” (التي تسمَّى أحيانًا “ماكرونوفا”)، فتحدث أثناء اندماج نجمين نيوترونيين أو نجم نيوتروني وثقب أسود. ويُطلق هذا النوع من الانفجارات طاقة كبيرة (أقوى ألف مرة من النوفا، لكن أضعف ألف مرة من السوبرنوفا)، ويُنتج عناصر ثقيلة مثل الذهب والبلاتينوم. كما يُطلق أيضًا موجات جاذبية يجري رصدها حاليًا في مختبرات عملاقة على الأرض.  

وأحدث فئة من الانفجارات النجمية هي “الميكرونوفا”، التي تحدث على سطوح الأقزام البيضاء (مثلما يحدث في النوفا)؛ أي من جراء تراكم الهيدروجين الساقط من النجم الكبير المرافق. لكن العملية في هذه الحالة محدودة؛ إذ ينتقل الهيدروجين المؤيّن من خلال المجال المغناطيسي للقزم الأبيض فيسقط على القطبين. وبهذه الطريقة تكون الانفجارات أضعف كثيرًا من كل الفئات التي ذُكرت آنفًا.  

وأخيرًا، هناك التوهجات النجمية التي تحدث على سطوح النجوم كما يحدث على الشمس، وهي “انفجارات” مغناطيسية تختلف في شدتها ومدتها من ساعات إلى أيام، وتُطلق طاقة وأشعة وجسيمات مكثفة. وتقدِّم هذه التوهجات معلومات مهمة حول الخصائص والعمليات الفيزيائية للنجوم وللشمس عندما تحدث. 

يبقى أن نشير إلى أنه، باستثناء التوهجات الشمسية، لا تؤثر أي من هذه الانفجارات في الأرض سواء في سطحها على البشر والحياة وشبكات الكهرباء والاتصالات، أو في الفضاء على الأقمار الصناعية، وذلك لبعدها الكبير عن كوكبنا بمسافات تتراوح بين آلاف وحتى مليارات السنين الضوئية. 

لكن رصدنا لهذه الانفجارات الكونية المختلفة وتقدُّمنا في فهمها يوسِّع معرفتنا بالظواهر والآليات الفيزيائية التي تحدث في الكون. ويسمح كل من هذه الانفجارات، من الهيبرنوفا إلى الميكرونوفا، وصولًا إلى التوهجات النجمية، بفهم جانب مختلف من تطور الأجرام الكونية المتنوعة. 

فيا له من كون مدهش! لقد اكتشفنا الكثير بفضل العلم الحديث. ومع ذلك، فإننا نصادف باستمرار أحداث مدهشة وباهرة، وكثيرًا ما يكون ذلك بطرق مفاجئة تمامًا، وتدفعنا كلها إلى الاستكشاف أكثر والتعلم أكثر والفهم أكثر. 


مقالات ذات صلة

غالبًا ما نتصوّر أن الدماغ يؤثر في الجسد كالسائق بالسيارة، لكن الأبحاث الحديثة كشفت أن التأثر والتوجيه يحدث من الجانبين. فالجسد، من خلال نشاطاته الحسية والحركية، يؤثر بالدماغ أيضًا. 

هل بتنا على مشارف عصر زراعي يُسمّد فيه النبات نفسه بنفسه؟

تشير فرضيات عدة إلى أن السفر إلى الماضي أو المستقبل ممكن باستخدام طرق مختلفة؛ لكن جميعها واجهت ما يُعرف بـ “مفارقة الجَدِّ”؛ فإذا تمكن المرء من السفر عبر الزمن في الماضي وقتل جدَّه، فكيف سيكون موجودًا ليؤثر في الزمن الماضي؟


0 تعليقات على “الانفجار النجمي المرتقب ”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *