مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2019

الاتجاه الجديد في التفكير والأدب


عباس محمود العقاد

في عددها الصادر في شهر ذي الحجة عام 1378هـ (يونيو 1959م)، نشرت قافلة الزيت مقالة للأستاذ عبّاس محمود العقَّاد، بعنوان: “الاتجاه الجديد في التفكير والأدب” يعرض فيها لمختلف المدارس الفكرية والفلسفية والاتجاهات الحديثة في مختلف ميادين الأدب، والتقارب الحاصل منذ آنذاك بين العلم والفلسفة. وفي ما يأتي نصها:

إذا أردنا أن نلخص الاتجاه الجديــد في التفكيـر العالمي بكلمة واحدة، كانت كلمة “التقارب” هي هذه الكلمة الواحدة. تقارب العلم والفلسفة بعد أن كانا نمطين في الفهم والتفكير يتعارضـان في كثيرٍ من الآراء والموضوعات.
كان العلم يتخصص للمشاهدات، وكانت الفلسفة تتخصـص للمعانـي المجرَّدة ومسائـل الغيـب التي تقف دونها المشاهدات العلميّـة. فاليوم يقــول فلاسفـة المنطـق الوضعـي (Positive Logic) إن الحس هو أصل التفكير وإن كل فكرة لا نستطيع أن نردها إلى المشاهدة الحسّيّة هي خارجة عن نطاق الفهم الصحيح.
ولأول مرّة في تاريخ الثقافة الحديثة يجترئ العلم حيث تحجم الفلسفة. فإن العلماء الطبيعيّين قد ذهبوا بالمادة إلى ما وراء المحسوسات والمشاهدات: أجسام المادة جميعاً ترجع إلى العناصر، والعناصر ترجع جميعاً إلى الذرّات والكهارب، وهذه جميعاً تنْشقُّ فتذهب شعاعاً في الأثير… وما الأثير؟ شيء لا وزن له ولا حجم ولا لون ولا رائحة، ولا فرق بين أن تسمِّيه بالأثير أو تسمّيه بالفضاء.
هنا يلتقي عالَم المشاهدات والمحسوسات وعالَم الوجود المجرَّد الذي تدركه العقول بالحساب والتقدير ولا تدركه بالأبصار والأسماع.
ولعل الواقع الصحيح أن التقارب الذي نلاحظه اليوم بين العلم والفلسفة إنما هو استمرارٌ لمرحلةٍ سابقةٍ نشَأت عند أواخر القرن التاسع عشر، ثم هدأت قليلاً أثناء الحربين العالميّتين، ثم عادت إلى النشاط من منتصف هذا القرن العشرين.
لقد كانت الفلسفة الكلّيّة (Holism) صورةً فلسفيّةً لعلم الكيمياء الحديث، فإن الكيمياء تُعلمنا أن أجزاء الجسم المركَّب تنطوي فيه فلا ندركها متفرِّقة على حدة، وهكذا يقول لنا الفلاسفة الكلّيّون إن العقل يدرك الأشياء مركبةً ثم يحللها إذا شاء، وأن إدراك الأجزاء متفرقة نقص في فهم حقيقتها، لأن حقيقتها إنما تتم بالصورة التي تجمعها. وأقرب ما يمثلون به لذلك توقيع الكتاب باسمه. فإننا لو أخذناه حرفاً حرفاً لما تشابه فيه حرف واحد في توقيعين، ولكننا إذا أحطنا به جملةً واحدةً فالتوقيع واحدٌ في الحقيقة ولو تكرَّر مئات المرّات.
ويمكن أن يقال إن مدرسة الظواهريّة (Phenomenology) إنما هي علم النفس منقولاً إلى عالَم الفلسفة، لأنها تبحث في ظواهر الطبيعة كما تتمثل في الشعور والوجدان، وكأنها تنقل الموجودات جميعاً بصورة نفسيّة ثم تدرسها كما تظهر في خواطرنا وأعماقنا، وتحاول بعد ذلك أن تطابق بينها وبين حقائق الدنيا الخارجيّة.
إن الاتجاه العام يتقدَّم سريعاً في عالم التفكير إلى التقارب بين العلم والفلسفة أو بين المحسوس وما وراء المحسوس. أما في عالم الأدب، أو في عالم الفن على الإجمال، فالكلمة الواحدة التي تلخص لنا “اتجاهاته” الحديثة هي كلمة “الدلالة” كما نفهمها من الدراسات النفسيّة على اختلاف مذاهبها.
فالمدرسة التعبيريّة (Expressionism) والمدرسة التأثّريّة (Impressionism) والمدرسة الرمزيّة (Symbolism) والمدرسة فوق الواقعيّة (Surrealism) وفروع هذه المدارس المختلفة تلتقي في موازين نقدها عند سؤال واحد، هو: علام يدل هذا؟ علام يدل هذا بالرموز والإشارات؟ علام يدل بلغة الوعي الباطني؟ علام يدل بتعبيرات الحواس؟ علام يدل بمضامين الألفاظ والتراكيب؟
الدلالة النفسيّة هي محور المذاهب الحديثة جميعاً مع تعدّد الأسماء والعناوين. وينبغي أن نفرِّق بين الدلالة والقصد في الأعمال الفنّيّة. فكل شيء له دلالة نفهمها أو نحسها ولا يلزم أن يكون لها قصدٌ معروف. ورقة في الطريق تدل على سائرٍ سلك هذا الطريق، وإن وقعت منه على غير قصدٍ، أو وقعت على الرغم منه وهو يتخفّى ولا يريد أن يدل على نفسه. زهرة ذابلة في شجرتها تدل على الشجرة كلها، وكلمة شاردة تفلت من صاحبها تظهر منه ما ليس يظهره الكلام المقصود، والعبارة المتكلفة التي يقصدها قائلها أضعف دلالة من العبارة المطبوعة التي تأتي منه عفو الخاطر ووحي السجيّة.
“فالدلالة” هي محور الفن العصري ومدار الآراء في مذاهب الأدب الحديثة.
ولهذا وجدت المدرسة السيميّة الكبرى التي أوشكت أن تعم دراسات اللغة والمنطق في السنوات الأخيرة (Semantics) وفسرها بعض دعاتها بأنها العلم الذي يبحث في معنى المعاني أو في “الدلالة” إذا شئت بكلمة واحدة.
ولهذا وُجِدَتْ مدرسة “اللّاقصد” (Non-Intentionalism) التي تقول إن القطعة من الفن أو القصيدة من الشعر، إنما وُجِدَت “لتكون لا لتعني”. وبالغ دعاة هذه المدرسـة في ذلك حتى خُيِّلَ إليهـم أن القصـد ممنوع أو معيـب، مع أن الصـواب في الأمر أن قصد الشاعــر ليس هو المهم في الدلالة على شعرِه، وأن شعره قد يــدل على الحقيقة الفنّيّة وأن لم يقصـده، بل على الرغم منه في بعض العبارات والمضامين.
ولنا أن نفهم أن غلبة “الدلالة” على اتجاه الفنون والآداب في السنوات الأخيرة إنما ترجع إلى شيوع الدراسات النفسيّة، أو إلى شيوع العوامل التي دعت إلى العناية بتلك الدراسات. فهذه “الدلالة” النفسيّة أعم من المعنى المقصود ومن القصد الذي يريده الفنان بوعيه واختياره. وقد تستفاد هذه الدلالة من تحليلنا للشاعر نفسه، بما يقوله وبما يكتبه ولا يقوله، أو بما يقوله لغرض ويفهمه الناقد المحلِّل على خلاف غرضه الذي عناه.
وهذه الدلالة النفسيّة هي المقياس الصادق الذي يقضي بحكم الفصل في الدعوات الفنيّة الحديثة، فيرفض منها ما ينم على الخلل والانحراف ويبقي منها ما يدل على تعبير صحيح ووجدان سليم.
إن “آهات المريض” تدل على المرض ولا شك، ولكنها هي نفسها ظاهرة مرضيّة يجب على الطبيب أن يداويها لتزول، وليست هي بالعمل الفنّي الذي نطلبه ونَعُدُّ المريض الذي يتأوه بها “فنّاناً” يحسن الدلالة بالفن عن ذات نفسه. وإن وصفة الطبيب للمريض المتأوِّه تدل على المرض ولا يقال عنها إنها ظاهرة مرضيّة. وكذلك اللحن الموسيقي الذي يضعه الفنان ليحكي لنا فيه تلك الآهات بلسان النغم، فإن هذا اللحن يدل على المرض ولا يقال عنه إنه ظاهرة مرضيّة نداويها ونلتمس الخلاص منها.
وبهذا المقياس السليم نفرِّق بين الدعوات الفنّيّة المريضة وبين الدعوات الفنّيّة التي هي تعبيرٌ عن المرض ولكنه تعبيرٌ مطلوب يدلّ على قدرة الفنّان. والدراسات النفسيّة هي التي تعطينا ذلك المقياس وتدل على الاتّجاه الحسن وعلى الاتِّجاه السّيئ في الفنون.
هي الدلالة التي تفرق بين ما يدل على المرض لأنه آهات مريض وبين ما يدل على المرض لأنه وصفة طبيب أو تعبير فنان. فالخلط والتشويش والصياح المضطرب الذي يَلْفُظ به أصحاب الدعوات المريضة قد نسميه كله تعبيراً صادقاً عن أصحابه، ولكنه تعبيرٌ يُشبِهُ تعبير الآهات عند المريض، نسعى لإزالته ولا نسميه فنّاً يوصف بالإبداع والإتقان.
أمّا الفن المطلوب فهو الصفة التي تمثِّل لنا تلك الحالة كما يمثِّلها الطبيب أو يمثلها الفنّان وهذه هي الإلهام الأدبي والخلق الفنّي على سوائه لا يسمَّيان بالمرض وإن كشفنا عنه وكشفنا عن دوائه.
وزبدة الرأي في هذه الاتجاهات أنها كلها اتجاهات تجمعها كلمة الدلالة. ولكن الدراسة النفسيّة هي التي تفرِّق بين الدلالة المرضيّة والدلالة الفنية. فما كان فوضى واختلاطاً في شكله ولبابه، وفي لفظه ومعناه فهو مرض تتمنّى زواله، وما هو فنٌ قويم. فأول علاماته أنه براء من الفوضى والاختلاط، مستقيم على قواعده وأصوله سواء نهج فيها على سوابقها المطَّردة أو جاء فيها بإبداع جديد.
إن الاتجاهات الحديثة في ميادين الفكر والأدب قد بدأت في الواقع مع النهضة العلميّة منذ القرن التاسع عشر، ولكن القلاقل العالميّة في الحربين المتواليتين ضربت بينها بعصا التبديد والشتات، فتفرقت كما يتفرق الطير الفزِع من طلقات النار ثم هدأت الجلبة رويداً رويداً فأوشك المتفرِّق أن يجتمع وأوشك أن ينكشف عن دلالة.
والاقتراب هو الكلمة الواحدة التي تلخِّص لنا جملة الاتجاهات الأخيرة في ميدان العلم والفلسفة.
والدلالة هي الكلمة الواحدة التي تجمع لنا اتجاهات الفنون والآداب وتفرِّق في الوقت نفسه بين دلالة الأعراض ودلالة الفن السليم.


مقالات ذات صلة

يستطيع المتأمل في تجربة محمد الفرج بسهولة ملاحظة ملمح يتكرَّر في أعماله، وهو أن الفنان لا يتورَّع عن كشف الذهنية التي أوصلته إلى تنفيذ عمله الفني.

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]

من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]


0 تعليقات على “الاتجاه الجديد في التفكير”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *