مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس - أبريل 2023

الإيكودار: النظام البنكي الذي تحوّل تراثًا معماريًا مغربيًا


علاء حليفي

في كتابه الشهير “أسياد الأطلس”، يقول الباحث والكاتب الأسكتلندي جافين ماكسويل إن المغرب، رغم أنه وِجهة سياحية للآلاف كل عام، إلا أنه يظل بلدًا غير معروف تمامًا، إذ إنه مع تمركز الحركة السياحية في المدن الكبرى مثل فاس ومراكش، فإن العديد من كنوز المغرب تظل منسية وغير مكتشفة من أغلب الزوار. وتعتبر “الإيكودار”، أو المخازن الجماعية، من أهم المعالم الأثرية والعناصر المعمارية التي تُميز التراث الأمازيغي والمغربي بشكل عام، إذ لا تزال شاهدة بعد قرون من تشييدها على ثراء وغنى التنوع الحضاري والجغرافي للبلاد، فما قصة هذه المعالم؟ وكيف نشأت وتطورت لتُشكّل أحد أول الأنظمة البنكية في التاريخ؟

علاء حليفي
تصوير: إدريس لعزيز

“الإيكودار” هي كلمة أمازيغية الأصل تعني المخازن الجماعية. وهي عبارة عن فضاءات محصّنة تتمثل وظيفتها الأساسية في تخزين المواد والسلع القيّمة. شُيِّدت هذه المباني على عدة طوابق، وتوجد غالبًا في أماكن نائية من قرى المغرب ومدنه، فهو يحوي ما يقرب من 560 مخزنًا جماعيًا في جميع أنحائه، خاصة في جهة سوس وسلسلة جبال الأطلس الأصغر. هذه المخازن تندمج مع المناظر الطبيعية المحلية للبلاد بهندسة معمارية تطورت فيما مضى حسب ما تفرضه الحاجة، لكنها تشكل اليوم كنوزًا منسية ذات قيمة لا تُقدر بثمن!

يعود تاريخ معظم هذه المخازن الجماعية إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين. ففي ذلك الوقت، كان لكل قبيلة مبنى إيكودار خاص بها، يحتوي على عدد من غرف التخزين الصغيرة، إذ كان لكل عائلة غرفة يمكنها وضع أغلى ممتلكاتها فيها، من دقيق وقمح وعسل وزيت وبلح ولوز وتين مجفف وحناء، و”برطمانات” مليئة بزيت الزيتون والزبدة المذابة. وهكذا، خلال فترات المجاعة الكبرى والأوبئة وسنوات الجفاف، سمحت الاحتياطات الغذائية المخبأة في الإيكودار لعديد من القبائل بالبقاء على قيد الحياة وتجاوز هذه الأزمات.

بالإضافة إلى المواد الغذائية الضرورية، كان للأشياء الثمينة أيضًا مكانها في هذه المخازن، مثل سندات ملكية الأراضي وشهادات الزواج والمجوهرات. فقد كانت الإيكودار بمثابة نظام مصرفي عرفته البشرية قبل بنوك اليوم، حيث كان لكل شخص زنزانة مقفلة لها مفتاح احتفظت به الأسرة، ثم مفتاح لباب أكبر يحفظه أمين الإيكودار. كما أن هذه المخازن حكمها ميثاق مشترك كان أشبه بقانون داخلي، كُتب على لوح معلق داخل فضاء الإيكودار.

ولكن هذه الهياكل لم تُبنَ فقط لتخزين المحاصيل والممتلكات، إذ غالبًا ما احتوى كل مخزن جماعي على غرف مخصصة لوظائف مجتمعية عامة، مثل صيدلية تحفظ الأدوية الطبيعية المحلية في ذلك الوقت، وغرفة محكمة لتسوية النزاعات المحلية، وأحيانًا غرفة لعلاج المرضى.

وقد كانت لمباني الإيكودار أيضًا وظيفة دفاعية، فكانت تُعـد ملجـأً في حالات الخطر، خاصة بالنسبة للنساء والأطفال وكبار السن في أوقات الأزمات، إذ إن سلسلة جبال الأطلس الصغير وسوس كانت موطنًا للحروب والصراعات، وأيضًا لعدد من الانتفاضات الأمازيغية ضد الاحتلال الفرنسي.

أكثر من مجرد بناء مادي

كان لكل إيكودار حارس، أو ما يُسمى بالأمين، وغالبًا ما يكون الأمين ابن المنطقة، ينتخبه الناس لكي يتولى إدارة الإيكودار وحمايته، حيث يعيش داخل المخزن هو وعائلته من دون أن يغادر المكان أبدًا. وكان عليه حماية ممتلكات الجميع، ويتقاضى على ذلك أجرًا من الناس، إما عينيًا كالقمح أو الشعير وإما نقدًا.

والأمين هو الوحيد الذي يحتفظ بمفاتيح الإيكودار، إذ يقف عند المدخل الوحيد لكل مبنى ويدافع عنه ضد أي لصوص أو قطاع طرق محتملين. وقد كان مسؤولًا أيضًا عن الاحتفاظ بالمفاتيح الثانوية لجميع غرف التخزين الموجودة داخل المبنى. وكان كل أمين يخدم عددًا طويلًا من السنوات قد تصل إلى 40 سنة، ولطالما كانت هذه المسؤولية تحظى باحترام كبير من طرف السكان.

وتجسّد هذه الهياكل، التي شُيدت بدافع الضرورة، جوهر المناطق التي توجد فيها. فهي أكثر من مجرد أبنية مادية، إذ إن لها قيمتها المعنوية لا سيما أنها كانت محط إجلال السكان. فقد كان للمكان طقوسه الخاصة، تمامًا كما لو كان مبنًى دينيًا. فكانت القوانين والأعراف الصارمة لهذه المباني تحظر النظر إلى المخازن الخاصة بالآخرين، وكان على كل شخص التوجه مباشرة إلى مخزنه من دون أن يسترق النظر إليها. كما كانت تُوضع بعض الحبوب والأعشاب المحلية بشكل رمزي داخل كل إيكودار، انطلاقًا من الاعتقاد السائد آنذاك بأنها سوف تضيف القوة والحياة إلى المكان. وإلى جانب ذلك، كانت هذه الأبنية تفتح أبوابها ملجأً لمن كانوا في أمس الحاجة إلى مأوى في شكل من أشكال التكافل الاجتماعي بين سكان القرية.

تنسجم عمارة مباني الإيكودار مع الطبيعة المحلية، وتتفاوت ملامحها بين منطقة وأخرى، لكن العامل المشترك لبنائها في مواقع إستراتيجية هو الحاجة البشرية التي فرضتها ظروف الأهالي في مرحلة سابقة.

هندسة معمارية متفردة

وتُعد هذه المعالم ثروة معمارية وتراثية حقيقية للمغرب، إذ إنها تتميز بهندستها المعمارية الفريدة وموادها القديمة. فكما ذكرنا سالفًا، انتشرت الإيكودار في مناطق مختلفة من المغرب، وبالتالي فقد كانت تتميز بعضها عن بعض وفق موقعها الجغرافي، وتوظّف مواد بناء متنوعة من منطقة لأخرى، وهذا ما يزيد من بُعدها المادي غنًى وتنوعًا. فعلى سبيل المثال، الإيكودار الموجودة في جبال الأطلس الصغير مصنوعة من خشب الأرغن والحجر، أما تلك المبنية في السهول، فقد كانت جدرانها تُشيد من الطين وسلالمها من الخشب.

وقد تختلف تقنيات البناء، لكن بعض المبادئ كانت عامة بصرف النظر عن اختلاف السياق الجغرافي، ومن بينها قرار البناء الذي كان مشتركًا، حيث يساعد كل السكان في بناء الإيكودار بأنفسهم. لكن أهم ميزة مشتركة تميز المخازن الجماعية هي مواقعها الإستراتيجية، إذ عادة ما تُبنى على قمة جبل أو عند أسفل منحدر جبلي، حتى يستحيل حصارها، كما أنها دومًا ما تكون محمية بأسوار وأبراج يصل ارتفاعها أحيانًا إلى ثلاثة أمتار خارج المباني، وجميعها محاطة بأشواك الصبار.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى مدى استدامة هذه المباني. فرغم تشييدها قبل قرون مضت، في فترة لم تكن فيها العمارة الإيكولوجية موضوع نقاش في ميدان البناء، إلا أن الإيكودار تُعد مبانيَ مستدامة بشكل كامل، والسبب راجع إلى توظيف مواد البناء المحلية الطبيعية، التي كانت تحفظ الوسط الداخلي للمخازن في معزل عن تقلبات الطقس، وخاصة في ظل المناخ القاسي للمناطق الجبلية.

المحاصيل الصالحة للزراعة وسط تلك الظروف المناخية القاسية للأطلس الصغير، مثل الزعفران واللوز والأركان، كانت ذات قيمة عالية؛ إذ يوفر الزعفران مثلًا نافذة حصاد سنوية قصيرة ويحتاج إلى ظروف تخزين مثالية للحفاظ عليه. وقد وفّرت مباني الإيكودار كل الظروف المؤاتية لذلك، بغرف تخزينها المظللة وذات التهوية الجيدة، والمبنية من جدران سميكة تحفظ البرودة الداخلية أثناء فصل الصيف. كما كان من الممكن تخزين الحبوب في بعض هذه المخازن الجماعية لمدة تصل إلى 25 عامًا، وحفظ الزبدة الطبيعية لمدة 10 سنوات.

تقوم مباني الإيكودار على فلسفة اجتماعية تكافلية، فلكل أسرة من الأهالي غرفة تحتفظ فيها بممتلكاتها الخاصة، إلى جانب منافعها العامة التي تخدم هدفًا مشتركًا بين الجميع.

تراث الإيكودار في زمننا الحالي، أي مستقبل؟

ظلت الإيكودار تراثًا جماعيًا متوارثًا من جيل لآخر حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، حين أخذ اعتماد الناس عليها في تخزين أشيائهم الثمـينة يقـل شـيئًا فشـيئًا، إلى أن أُغلق أغلبها. واليوم، لا تزال بعض هذه المخازن قائمة على الرغم من كل تقلبات الطبيعة. كما نجد أن الاهتمام بهذه المعالم التراثية أخذ يتزايد شيئًا فشيئًا، بوصفها تراثًا ماديًا وغير مادي في الوقت عينه، يحتاج إلى الترميم وإعادة الهيكلة، خاصة أن بعض المخازن الصغرى تدهورت وتعرضت للخراب خلال السنوات الماضية.

هذه الأماكن التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من ثقافة المغرب وغنى معماره، قد تعرف مستقبلًا اهتمامًا واسعًا، ومن المتوقع أن تُدرَج في المسارات السياحية الكبرى للبلاد. وتحويل الإيكودار إلى مناطق سياحية سوف يعود بالنفع على السكان المحليين، في شكل من أشكال السياحة البيئية والمسؤولة، التي يمكن أن تخلق فرص عمل جديدة وحماسًا حقيقيًا عند سكان هذه المناطق النائية من البلاد، التي هي في أمس الحاجة إلى نشاط اقتصادي مماثل. كما سيشكل ذلك فرصة لإحياء هذه المعالم، التي تدعو الزوار إلى اكتشاف تاريخها وطريقة حياة السكان الأصليين وممارساتهم الجيدة، بل يمكن أيضًا أن تقدم دروسًا للمستقبل في الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية.


مقالات ذات صلة

خلف هذه المنشآت الرياضية الباهرة، تتكشف قصة أعمق تتعلق بالتخطيط الحضري وفنون العمارة وصناعة المكان. إذ إن الفعاليات الرياضية، حتى إن لم تصل في ضخامتها إلى مستوى الألعاب الأولمبية، تحفّز تحولات عمرانية كبيرة، وتُثير تساؤلات مهمة حول دورها في تطور المدن وعمرانها.

وعينا ومشاعرنا تشكلت من خلال التفاعل الحقيقي مع الطبيعة، وأن الابتكارات التكنولوجية وُلدت من تجارب حية مع العالم الطبيعي..

موسكو مدينة تترك بصمة لا تُنسى على زوَّارها. مدينة نابضة بالحياة، نظيفة، آمنة، ودودة، وتستقبل العائلات والسيَّاح بحرارة.


0 تعليقات على “الإيكودار: النظام البنكي الذي تحوّل تراثًا معماريًا مغربيًا”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *