في الخامس من سبتمبر عام 1905م، وبالقرب من خليج قرية ديونو في النمسا، وُجدت جثة رجل شنق نفسه. فقد انتحر أحد أعظم عقول الفيزياء في زمانه: لودفييغ إدوارد بولتزمان. وعلى قبره نُقشت معادلة الإنتروبيا الشهيرة: S=K log W. تبدو معادلة بسيطة في شكلها، لكنها ثورية إلى درجة أنها ربطت مجالين عملاقين لم يتخيل أحد من قبل وجود أية علاقة بينهما. لقد ربطت الديناميكا الحرارية بنظرية المعلومات الحديثة، وهو ما سيكون له أبعد الأثر في تطور الثورة الرقمية الحالية التي نتباهى ونتمتع بها اليوم.
الديناميكا الحرارية
بدأت الثورة الخضراء عقب الحرب العالمية الثانية، مستفيدة من التطورات الهائلة الناتجة عن سباق التسلح العالمي، ومدفوعة بالطلب المتزايد على الغذاء، الناتج عن تلك الحروب. واستطاعت الموجة الأولى من تلك الثورة توظيف الآلة في الزراعة عن طريق استخدام الجرَّارات الزراعية وعربات الحصاد والنقل. لكنها بقيت تعتمد بشكل أساسي على الممارسات التقليدية التي تتطلَّب جهداً جسدياً وأيادي عاملة كثيرة. لكن مع هذا كان لهذه الموجة دور كبير في زيادة الإنتاج الزراعي إلى حد كبير مقارنة بالأساليب التقليدية.
ومع انفجار الثورة الصناعية، انطلقت بموازاتها مسيرة لا تقل عنها أهمية؛ العلاقة التكافلية بين العلم والتكنولوجيا. وقد أطلق اختراع المحرك البخاري ونسخته المتطورة التي أدخلها المخترع الأُسكتلندي الشهير جيمس واط عام 1769م أسئلةً علميةً صعبة حول هذه القوة التي جعلت الآلة تتحرك، فظهر أثناء ذلك أحد فروع الفيزياء الأكثر أناقة؛ الديناميكا الحرارية.
يُعد اكتشاف الديناميكا الحرارية أضخم ثورة في الفيزياء منذ أن وضع إسحاق نيوتن قواعد الميكانيكا الكلاسيكية.
يُعد هذا الاكتشاف أضخم ثورة في الفيزياء منذ أن وضع إسحاق نيوتن قواعد الميكانيكا الكلاسيكية. وكعادة الفروع الجديدة في الفيزياء، واجهت الديناميكا الحرارية اعتراضات شرسة جـداً في البداية. فقد كان السؤال الأساسي هو: ما هي الحرارة؟ قد نجد هذا السؤال بسيطاً، لكنه واحد من أعقد أسئلة الفيزياء.
كان الفيزيائيون في زمن جيمس واط وأنطوان لافوازيه في القرن الثامن عشر الميلادي مقتنعين أن الحرارة أو السعر الحراري ما هو إلا شيء يشبه السائل غير المرئي، ينساب من الجسم الحار إلى البارد. فلو وضعت قطعة حديد ساخنة على أُخرى باردة، فسينساب ذلك السائل من القطعة الساخنة إلى الباردة من دون أن نتمكن من رؤيته. لكن العالم الأمريكي بنجامين طومسون لاحظ في عام 1753م أن هذه الفكرة تحتوي على ثغرة؛ فالحرارة من الممكن أن تنتج من الاحتكاك، وإذا ظل الاحتكاك قائماً فستظل الحرارة موجودة باستمرار، وهذا يعني أن السائل الحراري موجود بشكل لا متناهٍ! من الممكن أن ننتج حرارة بفرك يدينا باستمرار، فهل في يدينا سائل حراري لا نهائي؟! يبدو أن الفكرة ليست جميلة بالقدر الكافي لتكون حقيقة.
الإنتروبيا مصطلح اخترعه لأول مرة رودولف كلاوزيوس. لكنه لم يعطِ لا هو ولا غيره تعريفاً واضحاً له، حتى أدخل بولتزمان عليه مفهوماً إحصائياً بحتاً. فالإنتروبيا باختصار شديد هي مقياسٌ لفوضى نظام معيَّن.
كان العالِم والفيلسوف الإنجليزي روبرت بويل قد اكتشف في عام 1627م قوانين الغازات. وأحد أهم تلك القوانين كان التناسب العكسي بين حجم الغاز وضغطه عند ثبات الحرارة في نظامٍ مغلق. فإذا وضعنا غازاً داخل عبوة وضغطناها، فسيزداد الضغط على الجدران. لقد فُهمت العلاقة جيداً بين الضغط والحرارة والحجم الذي يشغله غاز ما في وعاء. لكن هذا الفهم كان تجريبياً تماماً. والمعرفة التجريبية لا تعني فهماً عميقاً لما يحدث. لذلك ظل السؤال الصعب قائماً: ما هي الحرارة؟
ودارت الأيام إلى أن أتى عقلان من أكبر عقول الفيزياء في التاريخ، العالم الإسكوتلندي جيمس كلارك ماكسويل ولودفييغ بولتزمان. أدرك هذان العالِمَان أن فهم الحرارة ممكن، لكننا بحاجة إلى فكرة قديمة جداً؛ إننا بحاجة إلى فكرة الذرات أو الجزيئات. إن الغازات التي درسها بويل ورفاقه هي عبارة عن ذرات تتحرَّك بشكل عشوائي جداً داخل الوعاء، وبالتالي تصطدم بجدار الوعاء وترتد مثل كرات المضرب. وبالطبع، إن اصطدام ذرة واحدة لا يترك سوى أثر ضئيل على جدار الوعاء، لكن إذا كان لدينا مليارات الذرات داخل الوعاء ونقوم بهذا العمل وبسرعات مختلفة فإن النتيجة تكــون ما نسميه “الضغط”. والضغـط هو كمية مرتبطــة بشدة مع الحرارة. لذلك، فإن ما نسميـه درجـة الحرارة ليس سوى الطاقة الحركية لتلك الذرات. وإذا كان لدينا خزانان من الماء أحدهما ساخن والآخر بارد، وسألنا أحدهم ما الفرق بينهما؟ نستطيع أن نجيب، وبثقة، أن الخزان الحار تتحرَّك ذراته بشكل أسرع من الخزان البارد. فأي جسم حار سواء أكان صلباً أو غازياً أو سائلاً يعني أن الطاقة الحركية لذراته أعلى من نظيره البارد.
ولادة فرع جديد في الفيزياء: الإنتروبيا
لكن في زمن بولتزمان وماكسويل، لم يكن عدد المقتنعين بوجود الذرات كثيراً. فقبل نشر عملهم بقليل، وتحديداً في عام 1859م، اقترح عالم الفيزياء الألماني رودولف كلاوزيوس 1822م، فكرة الغاز المكوّن من ذرات لتفسير ما يسمى بالضغط والحرارة للغازات داخل الأوعية، ممهداً بذلك ظهور النظرية الذرية للغازات. لكن حساباته كانت غير دقيقة. وفي عام 1866م، عدل ماكسويل ببراعة حسابات كلاوزيوس، آخذاً في الاعتبار أن ذرات الغاز لا تتصادم مع الجدران فحسب، بل مع نفسها أيضاً، مما يجعل بعضها بطيئة والأخرى أسرع. لقد كانت دراسة ماكسويل إحصائية قائمة على نظرية الاحتمالات، وهو شيء لم يكن محبباً في ذاك الوقت. فنحن نعلم أن فيزياء نيوتن يقينية مئة في المئة. والآن ماذا يريد هذا التفسير الإحصائي الجديد؟ هل يريد كسر يقين قوانين الفيزياء المقدَّسة التي تحكم الطبيعة؟ فات الأوان، والعلم أقوى من التقاليد، لقد قدَّم بولتزمان تعريفاً جديداً لهذه الظاهرة: “الإنتروبيا”، معلناً فتح فرع جديد في الفيزياء اسمه “الميكانيكا الإحصائية”.
الإنتروبيا مصطلح اخترعه لأول مرة رودولف كلاوزيوس. لكنه لم يعطِ لا هو ولا غيره تعريفاً واضحاً له، حتى أدخل بولتزمان عليه مفهوماً إحصائياً بحتاً. فالإنتروبيا باختصار شديد هي مقياسٌ لفوضى نظام معيَّن. وكلما زادت فوضى غرفتك يعني أن الإنتروبيا زادت، وهي كمية تنحو دائماً نحو الزيادة لا النقصان.
لنعد إلى الصندوق المملوء بالغاز، ونتخيَّل أننا بطريقة ما فصلنا الذرات السريعة (حرارة أعلى) عن تلك البطيئة (حرارة أقل)، أي نجعل الذرات الحارة على يمين الصندوق والباردة على اليسار. اترك الصندوق لبعض الوقت، ماذا سيحدث؟ ستختلط الذرات الحارة بالباردة حتى تصبح لها درجة حرارة واحدة. لقد زادت الإنتروبيا.
الإنتروبيا والقانون الثاني للديناميكا الحرارية
لا يمكن لك أن تترك فنجاناً من القهوة في غرفـة لمدة يوم كامل ثم تعود وتجده مازال حاراً. ستتصادم ذرات القهوة السريعة مع ذرات الغرفة البطيئة حتى تصل جميعها إلى حالة حرارية واحدة. ويسمى هذا بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية: تنزع الأشياء إلى أعلى درجات الاختلاط الحراري حتى الوصول إلى حالة توازن، وحالة التوازن هذه هي أقصى إنتروبيا ممكنة.
والآن يمكننا فهم تلك المعادلة التي نُقشت على قبر بولتزمان: S=K log W،حيث S هي الإنتروبيا، K ثابت بولتزمان، W احتمالية ترتيب معين؛ فدائماً ما تكون هناك احتمالات مختلفة لترتيب شكل ذرات الغاز في الوعاء، بحيث يكون لكل ترتيب احتمال معيَّن يقاس بواسطة W.
عفريت ماكسويل
في عام 1871م، حاول ماكسويل أن يُحدث ثغرة في القانون الثاني للديناميكا الحرارية، عن طريق استغلال الحركة العشوائية للذرات، وذلك لعكس اتجاه الفوضى الذي تصنعه إنتروبيا بولتزمان! تخيل وجود صندوق غاز مقسّم إلى نصفين بواسطة جدار. يجلس فوق هذا الجدار عفريت ينظر إلى كل الذرات الحارة السريعة والباردة البطيئة (بإمكاننا اليوم تخيله كروبوت متطور جداً). هذا الكائن صغير الحجم وذكي جداً بحيث إنه قادر على النظر إلى الذرات الحارة والباردة منفردة. فإذا رأى مثلاً ذرة باردة في الجانب الأيمن للصندوق، قريبة من الجدار، يفتح الجدار بسرعة هائلة جداً بحيث تمر فقط هذه الذرة إلى الجانب الأيسر، ثم يُغلقه حتى لا تمر أي ذرة أُخرى. وإذا رأى ذرة حارة قريبة من الجدار في الجانب الأيسر يتركها تمر إلى الجانب الأيمن بالطريقة نفسها. وهكذا يؤدي عفريت ماكسويل عمله حتى نحصل على صندوق يحتوي على منطقة باردة كلياً وأخرى حارة كلياً من دون بذل أي جهد! وهذا خرق واضح وصريح للقانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على أن الذرات تنحى ناحية أعلى درجات الفوضى. بينما عفريت ماكسويل جعل الأمر يبدوا مقلوباً تماماً! وهذا تحد خطير جداً لطريقة عمل الطبيعة.
يبدو أن عفريت ماكسويل، الذي ربما يتحوَّل لآلة تكنولوجية حقيقية في المستقبل، قادر على خلق آلة الحركة الأبدية، أو على إعادة تركيب كوب قهوتك الذي سقط على الأرض وتهشم من دون بذل أي طاقة! يبدو بأنه يعكس اتجاه الزمن حتى! إن كل ما يريده العفريت فقط معلومات عن حركة الذرات وسيعطيك آلة الحركة الأبدية المجانية.
الإنتروبيا والمعلومات
لكن “المعلومات” نفسها التي يريدها العفريت هي ما قتله! فقد اتضح أن تلك المعادلة المنقوشة على قبر بولتزمان تتجاوز جذورها الديناميكا الحرارية حتى تصل إلى “نظرية المعلومات الحديثة”! فحتى يحصل العفريت على معلومة عن سرعات الذرات ومواقعها، عليه أن يبذل هو نفسه طاقة. وهكذا يصبح الخزان غير مغلق ومفتوحاً على الخارج بواسطة العفريت، فيخضع للقانون الثاني للديناميكا الحرارية. ففي نهاية المطاف لا يوجد شيء مجاني في الكون.
تبدو فكرة “المعلومات” عسيرة على الفهم ومجردة للغاية. ولتسهيل الأمر، يمكن تمثيل المعلومات كحبر على الورق، أو كشفرة تحمل رموزاً معيَّنة مثل شفرة مورس (التي كانت تستخدم لإرسال المعلومات التلغرافية) أو كثقوب على قطعة قماش. لكن في عام 1948م، أدرك أحد علماء الرياضيات التطبيقية العاملين في مختبرات بيل التقنية في الولايات المتحدة الأمريكية، أنه يمكن كتابة أي رسالة بواسطة سلسلة أرقام تحتوي إما على 1 أو 0.
يعرف البعض أن كل صورة أو صوت أو مقطع موسيقي أو نص في الهاتف الذكي ما هو، في نهاية المطاف، إلا سلسلة رقمية من الآحاد والأصفار. كان أول من أدرك ذلك هو عالِم الرياضيات الأمريكي كلاود شانون في عام 1916م، وهو من صنع بحق ثالث أعظم ثورة في القرن العشرين بعد نظريتي الكم والنسبية.
كان شانون في الأربعينيات يعمل مع زملائه على إيجاد طريقة لمعرفة كمية المكالمات الهاتفية التي يمكن أن يستوعبها كابل الهاتف النحاسي أو أي قناة اتصال أُخرى. بالضبط مثلما يحاول مهندسو الطرق حساب عدد السيارات التي يتحملها طريق معيَّن قبل بنائه. كانت فكرة شانون الجبارة متمثلة في أنَّ كل سؤال مهما كان يمكن الإجابة عنه بـ نعم/لا أو صح/خطأ أو بالشكل المعتمد حالياً 0/1. هذا الرمز الوحيد يسمى بت bit. وقد ظهر لأول مرة في الورقة البحثية الكلاسيكية التي نشرها شانون عام 1948م بعنوان “النظرية الرياضية للاتصالات”. ومن هنا تأسست نظرية المعلومات الحديثة، وصارت البت هي الوحدة الأساسية للمعلومات. بهذه الطريقة أمكن قياس الكم المعلوماتي لأية رسالة مرسلة في أي سلك هاتفي أو أي قناة اتصال أُخرى.
المعلومات هي الإنتروبيا
فهم شانون أن كمية المعلومات في رسالة ما ليس لها علاقة بمعناها. فلو حصلنا مثلاً على رسالة تحتوي على 11111111 أو 00000000 فهذا يعني أن هذه الرسالة لا تحمل سوى قدر ضئيل من المعلومات المفيدة التي يمكن ترجمتها إلى نص. أما لو حصلنا على رسالة طويلة وعشوائية من الأصفار والآحاد، فهذا يعني أن هذه الرسالة تحتوي على كم هائل جداً من المعلومات المفيدة التي يصعب التنبؤ بمحتواها. والآن يأتي الرابط العجيب بين إنتروبيا بولتزمان ونظرية شانون في المعلومات: فكلما بدت رسالة الآحاد والأصفار عشوائية قلَّ التنبؤ بها، زادت كمية المعلومات التي تحتويها. إن من يقيس العشوائية هي الإنتروبيا، وبالتالي كلما زادت الإنتروبيا أو العشوائية زادت كمية المعلومات الموجودة في رسالة ما. وعندما وجد شانون معادلته التي تحسب كمية المعلومات التي يمكن أن تستوعبها قناة اتصال كانت متشابهة بشكل لا يُصدق مع معادلة الإنتروبيا التي وضعها بولتزمان! الإنتروبيا هي المعلومات والمعلومات هي الإنتروبيا. والآن إذا أراد عفريت ماكسويل الحصول على معلومات عن مواقع وسرعات الذرات، فسيرفع إنتروبيا الصندوق بمقدار معيَّن مقابل كل معلومة! وكلما أنقص العفريت إنتروبيا الصندوق زادها من جهة أُخرى في الكون بطريقة ما. لا شيء مجاني في الكون، لا توجد آلة الحركة الأبدية. لقد توفي عفريت ماكسويل، وليرقد بولتزمان بسلام.
معلومات مفيدة مع الشكر استاذ يوسف
مشكور أستاذ يوسف دائماً تجعل الفيزياء بسيطةً لغير المختصين