بما ينبغي أن نميز أيام الراحة التي يأخذها الحرفي في الأعياد الدينية، والتي تستغرق عندنا في المغرب عادة سبعة أيام (تسميها الدارجة المغربية “التَّحْريرة”، وفيها يحرر صاحب المحترَف المتعلمين الذين يساعدونه)، عن الإجازة أو العطلة التي ترتبط بالمجتمع الحديث، وتطور طبقته الشغيلة، ودواوينه الإدارية، وحركاته النقابية. ذلك أن الإجازة لم تصبح حقًا من حقوق العامل والموظف إلا منذ عهد غير بعيد. ففي بلد كفرنسا على سبيل المثال، لم تظهر الفترة الزمنية للتوقّف عن أداء العمل إلا سنة 1936م، ولم تكن هذه الفترة لتتجاوز في البداية الأسبوعين في السنة بكاملها.
يحيل اللفظ الفرنسي الذي يدل على العطلة “vacance” إلى الفعل اللاتيني “vacare” الذي يعني: “أن تكون من دون/ أن تكون متفرغًا”، وهو ليس بعيدًا عن معنى اللفظ في اللغة العربية، فالعَطَل “يستعمل في الخلو من الشيء” كما يقول لسان العرب. الغاية من العطلة إذًا توفير وقت فارغ، خال من إكراهات الحياة المهنية وضغوطها المادية والمعنوية، وقت حر يحرر الفرد ويسمح له بأن يتفرغ لـ”ما يحلو له” القيام به.
يأتي معنى التحرر نتيجة لنظرة سلبية طالت مفهوم العمل لزمن غير قصير، إذ كانت تعُدُّه استرقاقًا، أو في الأقل، نوعًا من العناء الذي لا يترتب فحسب عن بذل الجهد، وإنما حتى عن التكرار والرتابة، بل الاستلاب والتشيؤ (وهي أمور جسدها “تشارلي شابلين” في فِلم الأزمنة الحديثة). صحيح أن هذا المعنى السلبي للعمل قد عرف، فلسفيًا، تحولًا كبيرًا ابتداءً من القرن الثامن عشر الأوروبي، حيث اتضح أن العمل “travail” ليس نِيرًا “tripalus” وعناء ومشقة فحسب، وإنما هو أساسًا محرك للتاريخ ومجدد للقيم.
بين الإجازة والكسل
تبرير الإجازة ومعناها يتوقفان إذًا على المعنى الذي نعطيه للعمل. في هذا السياق كتب الفيلسوف إيمانويل كانط في نهاية القرن الثامن عشر، مميزًا الإجازة عن الكسل: “إن أكبر متعة حسية لا يشوبها أي ملل، تمثُل، عندما نكون في صحة جيدة، في أن نأخذ قسطًا من الراحة بعد العمل. أما الميل إلى أخذ الراحة من غير أن نكون قد عملنا ونحن في صحة جيدة، فهو يدعى كسلًا”.
إلى جانب الوجه المشرق للعمل الذي أصبح يفرض نفسه، بدأت النظرة إلى العطل على أنها حق ومكسب يتيح للفرد تجديد نفسه لاستئناف عمله تأخذ مكانها. لذا بذلت الحركات النقابية جهدها من أجل توسيع المدة الزمنية المؤدى عنها حتى ناهزت في بعض المناطق خمسة أسابيع في السنة.
عطلة أم عطالة
ربما ينبغي أن نميز في هذا السياق العطلة عن العطالة. فالعطالة، أو ما يسمى بـ”القصور الذاتي”، هي ما يدعوه الفيزيائيون “المبدأ الأساس لعلم الحركة”، وبمقتضاه يكون الجسم قاصرًا عاجزًا عن تغيير حركته وسكونه، ما لم تتدخل قوة خارجية تؤثر عليه؛ فالجسم هنا ليس مبدأ حركته، إنما هو قاصر عاطل. على هذا النحو، يظهر أن أولئك الذين يعنيهم “كانط” هم الذين لا يفرِّقون بين العطلة والعطالة، فيعيشون العطلة على أنها عطالة وهجر للعمل وارتخاء. فكأنهم يتبنون المفهوم الحديث للعطلة، مع احتفاظهم بالمفهوم التقليدي عن العمل، فلا ينظرون إلى العطلة في ارتباطها بالعمل، وإنما في ابتعادها عنه وتحررها منه، والحال أن العطلة لم تتخذ معناها، ولا يمكن أن تتخذه إلا في مجتمع حديث يمجد العمل.
قوى التغيير
كما أشرنا، لم تبدأ هذه النظرة الإيجابية للعمل بالتبلور إلا في أواسط القرن الثامن عشر الأوروبي. بل إن العمل لم يفرض فلسفته الجديدة إلا مع ظهور الفلسفات الجدلية على امتداد القرن التاسع عشر. تقوم هذه الفلسفات على الإعلاء من مفهوم السلب. وهنا يظهر مفهوم أساس يصادم المفهوم الأرسطي عن الطبيعة القائل: “إن الكائن ينطوي على مبدأ حركته”، إذ سينظر إليه على أنه مجموعة ممكنات (Potentialités). فالكائن نفي وسلب، و”هو ما ليس هو”. هذه العبارة سيطبقها “جول لوكيي” (J. Lequier) في القرن العشرين حتى على الكائن البشري، في تعبير كان يحلو لـ”جون بول سارتر” أيضًا أن يردده: “إن الإنسان ليس ما هو عليه، وهو ما ليس هو”. سيحدد هذا المفهوم الكائن على أنه نفي، وسيفتحه على ممكنات، إلا أنها ليست ممكنات تعتمد على نفسها للخروج إلى الفعل، إذ لا يتوقف تحققها على مبدأ ذاتي، وإنما على قوى خارجية، هي ما ستدعى “قوى التغيير”. من هنا سيتخذ العمل جدواه وفعاليته من حيث هو أداة هذا التغيير، وسعي دؤوب نحو تحقيق الممكن. ولن يظل نِيرًا يسبب العناء مثلما يسبب للثور آلام العنق، وإنما سيُصبح أداة لتحويل الكائن، ومبدأ للحركة التاريخية.
“الكوجيتو” المعاصر
هذا التأسيس الأنثلوجي للعمل، سيحول دون فصل ماهية الإنسان عما يبذله من جهد فكري وعضلي قصد تحويل الطبيعة والفعل في حركة التاريخ. العمل هو ما يحقق به الإنسان ذاته، إلى حد أن هناك من الفلاسفة من استعاض عن “الكوجيتو” التقليدي (أنا أفكر، إذًا أنا موجود) بآخر معاصر يقول: “أنا أعمل، إذًا أنا موجود”.
بهذا المعنى لن يكون من الممكن الحديث عن الوضع البشري إلا في علاقته بالعمل، وحتى مفهوم الإجازة نفسه لا يمكن أن يُحدَّد إلا نسبة إلى العمل وبدلالته، وليس مطلقًا بمعزل عنه. وإلا غدت إجازة غير مستحقة! إذ لا معنى للإجازة في مجتمع لا يمجد العمل. ذلك أن الإجازة والعطلة ليست عطالة وقصورًا عن تبديل الأحوال الروحية والجسدية، وهي ليست غيابًا لكل نشاط وفعالية. يتضح لنا هذا أشد الوضوح إذا انتبهنا إلى ما آلت إليه اليوم العلاقة التي تربط الإجازة بالعمل، حيث أصبحنا نلاحظ أن إنسان المجتمعات المعاصرة لم يعد يأخذ قسطًا من الراحة كي يواصل العمل، وإنما غدا يعمل ويكد من أجل توفير قسط من الراحة. فكأنه لا يأخذ إجازة كي يعمل، وإنما يعمل من أجل الإجازة!
الهم المضاف
نتفهم ذلك إن أخذنا بعين الاعتبار الكلفة التي تطلبها الإجازة اليوم، والإغراءات التي يوفرها مجتمع الاستهلاك، وتقدمها وكالات الأسفار، وكل المصانع التي تسهر على منتجات الإجازات وتنظيم السياحة الجماعية. ذلك أن تعقُّد الحياة المعاصرة، ودخول الفعالية البشرية دوامة الإنتاج والاستهلاك، جعلا الفرد مضطرًا إلى أن يضحي بشيء من راحته لكي يرتاح، ويخطط لأيام إجازته اقتصادًا وجغرافية. وقد غدت الإجازات أمرًا لا يخلو من عسر، فبالإضافة إلى أنها أصبحت مكلفة، صار لازمًا على المرء أن يخطط لها ويضرب لها ألف حساب، فصارت بذلك همًا يُضاف إلى باقي همومه. إسهامًا في هذا التخطيط، ظهرت وكالات تأخذ على عاتقها تقديم منتجات ترفيهية وسياحية، منتجات قابلة للاستهلاك تخضع، مثلها مثل باقي المنتجات، لقوانين السوق ومسلسلات الدعاية والإشهار، بهدف توفير خدمات لإشباع حاجات الأسر المرتبطة بأوقات الفراغ، بل لخلق حاجات جديدة، وعرض منتجات مغرية لا تنفك تجدد طراوتها.
من هنا غدت الإجازات صناعة منظمة، أي أنها أصبحت داخلة ضمن برامج ومخططات تستهدف الأخذ باهتمام الاستهلاك الجماهيري. لا تتوجه هذه الصناعة إلى أفراد يودون القيام بـ “ما يحلو لهم”، أفراد لهم رغبات تتميز من فرد إلى آخر، ومن ظرف إلى ظرف، رغبات يودون إشباعها، وحاجات يريدون تلبيتها، وإنما إلى مجموعات، بل قطعان بشرية تريد ملء أوقات فراغها، فتقبل الخضوع لبرامج سطرتها الوكالات المنظمة للأسفار. لن تعود “أوقات الفراغ” هنا، الأوقات التي يتفرغ فيها الفرد لنفسه ويتحرر من إكراهات العمل، لن تعود هي الوقت الحر.
لفظ “loisir”، المقابل الفرنسي للفظ الفراغ العربي، يحيل إلى الفعل اللاتيني”licere” الذي يعني “كون الأمر مباحًا مسموحًا به”، فهو إذَا يُردّ في الأصل إلى معنى التحرر من العمل. أما اليوم، فلأوقات الفراغ هذه تسمية دالة تحيل هي كذلك إلى سيادة التقنية وإلى الحساب والتنظيم والبرمجة والتخطيط، وهي عبارة “الوقت الثالث”. الوقت الثالث هو ما يتبقى من اليوم إذا خصمنا منه الوقت الأول، الذي هو وقت العمل، ثم الوقت الثاني الذي هو وقت النوم. الوقت الثالث وقت “عمومي” لا يتوقف على الأفراد ولا يتنوع بتنوعهم. إنه الوقت المتبقي.
الصناعة الثقافية
تتشابك صناعة الإجازات هذه بصناعة أخرى هي ما يمكن أن نطلق عليه “الصناعة الثقافية”. نعلم أن هذه الصناعة يمكنها أن تستهدف إعطاء الثقافة دورًا مهمًا كي تغدو أداة إنتاج وابتكار لغرس قيم سامية، إلا أنها ما زالت في كثير من “مجتمعات الفرجة” تتوجّه إلى الجماهير بهدف “ملء أوقات فراغها”، بحيث لا تبالي كثيرًا بإبداع قيم سامية. ما يهمّها أساسًا هو إنتاج موضوعات تهلك باستهلاكها، وترويج موضات ثقافية بدل بثّ قيم الثقافة والعمل على نشرها. ليس غريبًا إذًا أن تتلبّس صناعة الثّقافة، حينما تتخذ هذا الشكل، بصناعة الإجازات، ويصطبغ الثّقافي بالسّياحي، ويَشيع الحديث عن “سياحة ثقافية”. حينئذ يغدو كلاهما من الطّينة نفسها، كلاهما يتولّد عن صناعة، ويدخل ضمن مخطّطات استهلاكية تُحوّل الغابات إلى “مناطق خضراء”، والذاكرة الجماعية إلى “معلمات سياحية”. حينئذ يكون مرمى الصناعتين هو: خلق رغبات ما تنفكّ تتجدّد، وملء أوقات الفراغ، وتحويل التفرّغ إلى فراغ، والتّثقيف إلى ملء للوقت، والمتعة إلى “لهو” وتسلية، والإجازات إلى “تحرُّر” من العمل.
اترك تعليقاً