هي شرايين الحياة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
صغيرها قد يكون حاضنة لقرية صغيرة، وكبيرها قد يكون مهد حضارة كاملة. وفي هذا لا فرق بين ما هو دائم الجريان منها وما هو موسمي، إذ تشاركت كلها في رسم خريطة العالم الذي نعرفه اليوم.
فعلى ضفاف الأنهار قامت المستوطنات البشرية الأولى منذ ما قبل العصر الحجري القديم. وحتى اليوم، لا تزال هذه الضفاف من أبرز مقوّمات الحياة في معظم عواصم العالم وأحدث مدنه.
للشرب، للصيد، للزرع، للسفر، للبناء، للصناعة.. لم يكن هناك بديل عن الأنهار، ولن يكون.
ولذا، لا غرابة في أن تتوطد علاقة الإنسان بالنهر أكثر من أي مكوّن آخر من مكوّنات الطبيعة. وأن تترسخ هذه العلاقة في كافة الثقافات، وأن تتجلى في آدابها وفنونها.
عبود طلعت عطية يصطحبنــا في هذا الملـف، إلى ضفاف حفنة من الأنهار، لنستطلع بعض ما تفضلت به على الإنسان في تاريخه، وكيف ردّ الإنسان جميلها إن كان يصح القول إنه ردّ الجميل.
بقيت أحواض الأنهار تحتضن الغالبية العظمى من مدن العالم الكبيرة والصغيرة. ولذا لا غرو في أن تكون الأنهار حاضرة دائماً في الوجدان الثقافي والاجتماعي، وأيضاً في صميم الحياة الاقتصادية والسياسية.
ورد في القرآن الكريم مرّات ومرّات وصف الجنَّات في الآخرة بأنها “جنّاتٍ تَجري من تحتِها الأنهارُ”، وفي هذا أبلغ تعبير عن مكانة الأنهار في الوجدان الإنساني كمكوّن ثابت من مكوّنات الجنة.
فمن يَرِد ضفة أي نهر مهما صَغُر، يتلمس فوراً عالماً ينبض بالحياة ينثرها الماء الجاري على جانبيه، سواء أكان ذلك في النبات النامي على ضفتيه، أو الأسماك في مياهه، أو الطيور التي تسبح على صفحته وحتى الحشرات الطائرة والزاحفة والبرمائية في الجوار. ومن يتطلع إلى صور الأنهار الكبرى كما تبدو من الأقمار الاصطناعية أو على الخرائط الجغرافية، يراها في تعرجاتها وتشابكها مع روافدها أشبه بشبكات الشرايين، تحيط بها دائماً مساحات خضراء، تقول: “هنا توجد حياة”.
غالباً ما تفيض الأنهار، فتدمِّر المحاصيل التي كانت قد نمت بفضلها، وقد تقضي على كثيرين ممن يعتمدون عليها للعيش، ولكن الناس يعودون إلى جوارها، بلا عتاب ولا حساب. فهكذا هو النهر، وهكذا هي طباعه.
لم يبتعد الإنسان في تاريخه يوماً عن الأنهار. وحتى عندما وفّر التطور وسائل جرّ المياه إلى أماكن بعيدة عن الأنهار، لم يتحرَّر الإنسان من ارتباطه بالنهر إلَّا قليلاً. فبقيت أحواض الأنهار تحتضن الغالبية العظمى من مدن العالم الكبيرة والصغيرة. ولذا، لا غرو في أن تكون الأنهار حاضرة دائماً في الوجدان الثقافي والاجتماعي، وأيضاً في صميم الحياة الاقتصادية والسياسية.
يتعذَّر إحصاء عدد الأنهار في العالم. فالمصادر المعروفة تتحدَّث عن وجود ما بين 165 و170 نهراً عظيماً، أي يمكن الإبحار على صفحته. ولكن هذا لا يقلل من شأن مئات آلاف الأنهار الأصغر حجماً، التي مكّنت الحياة من أن تنتشر على أكثر من 170 رقعة جغرافية.
وتختلف تصنيفات الأنهار باختلاف زوايا التطلع إليها: فهناك الأنهار المحلية التي تنبع وتصب ضمن الدولة الواحدة مثل نهر المسيسيبي في الولايات المتحدة، وهناك الأنهار الدولية، أي العابرة لحدود أكثر من دولة مثل نهر النيل.
وجغرافياً، هناك الأنهار الدائمة، أي التي لا تتوقف عن الجريان، وهناك الأنهار الموسمية التي تجري في مواسم الأمطار فقط. وإليها تضاف الأنهار الجليدية التي بدأت تستقطب اهتماماً علمياً وإعلامياً في السنوات الأخيرة أكثر من أي وقت مضى، بفعل متابعة الاحتباس الحراري وآثاره عليه.
وفي جولة سريعة على حفنة محدودة العدد من الأنهار العظمى التي يتميَّز كلُّ منها بشخصية مختلفة، يمكننا أن نتلَّمس الدور الذي لعبته في تاريخ الإنسانية، وفي رسم خريطة العالم المعاصر.
خمسة أنهار عظمى
النيل
يتنازع نهرا النيل والأمازون لقب أطول نهر في العالم، بفارق كيلومترات قليلة تعود إلى طرق احتساب التعرجات وأبعد منبع لروافده عن المصب.
يبلغ طول النيل نحو 6670 كيلومتراً. وهو يتألَّف كما هو معروف من رافدين أساسيين هما النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فيكتوريا، والنيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا. ويلتقي هذان الرافدان العظيمان بالقرب من العاصمة السودانية الخرطوم، ويتابع النيل الموحّد مجراه حتى البحر المتوسط، حيث يشكِّل بالقرب من الساحل دلتا في غاية الأهمية الاقتصادية والبشرية.
منذ العصر الحجري، كان النيل عصب الحياة الرئيس في السودان وجنوب مصر، وتجمعت المستوطنات البشرية الأولى على ضفافه، وتركَّزت بشكل خاص شمالي أسوان. وذلك لأن مجرى النيل كان ينعطف في مكان قريب من أسيوط صوب الغرب، ليصب في خليج سدرة في ليبيا. غير أنه في أواخر أحدث عصر جليدي (10000 سنة ق.م.)، أدَّى ارتفاع مستوى البحار إلى تعزيز المجرى الفرعي في أسيوط باتجاه الشمال، ليصبح في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد مجرى النيل الحالي، وعلى ضفاف المجرى الجديد نمت الحضارة الفرعونية وتوسعت، ونشأت معظم المدن المصرية الكبرى.
ويعزو المؤرِّخون إلى فيضان النيل وحاجة الناس إلى السيطرة عليه سبب التفاف الناس حول سلطة مركزية قوية، كانت نواة نشوء باكورة الأنظمة السياسية المطلقة في العالم.
وأن تكون مصر اليوم “هبة النيل” كما كانت عندما وصفها بذلك المؤرِّخ الإغريقي هيرودوت، فهذا لا يعني أنها الوحيدة في ذلك. فحوض النيل يتوزَّع على ثمانية بلدان غير مصر والسودان، وهي: جنوب السودان، إثيوبيا، أوغندا، كينيا، تانزانيا، رواندا، بوروندي، وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
ونتيجة لأهمية النهر بالنسبة لاقتصادات هذه الدول وللحياة فيها، وللاضطراب السياسي الذي تسببت به أكثر من مرة مشروعات إقامة سدود عليه، تم توقيع اتفاقية دولية في عام 1999م، عرفت باسم “مبادرة حوض النيل”، لدعم التعاون بين هذه الدول واستغلال النهر بشكل عادل ومتوازن في ما بينها.
الشرب من النهر
بات من الماضيمنذ بداية العصر الصناعي في القرن الثامن عشر وحتى الربع الأخير من القرن العشرين، تعاملت مختلف الدول والمجتمعات مع الأنهار باستهتار مثير للاستفزاز. إذ وجدت في هذه المسطحات المائية الجارية مجالاً للتخلص من كل أنواع القاذورات والمخلفات والنفايات البشرية والحيوانية والصناعية، لتنقلها الأنهار إلى أماكن أخرى. فتدهورت أحوال معظمها. حتى أن معظم الأنهار الأوروبية على سبيل المثال، كان قد أصبح في أواسط القرن الماضي غير صالح للاستحمام البشري فيه.
مع ظهور الوعي البيئي وتنامي نفوذه السياسي، يمكن القول إن تدهور أحوال الأنهار قد تباطأ. فسنّت قوانين كثيرة في معظم بلدان العالم لحماية أنهارها، وفي البلدان التي للوعي البيئي فيها قوة سياسية ملحوظة، تحسّنت أحوال بعض الأنهار. فالدراسات تشير إلى أن نهر التيمز الذي يخترق العاصمة البريطانية لندن بات اليوم أنظف مما كان عليه في النصف الأول من القرن العشرين. الأمر نفسه ينطبق على نهر السين في فرنسا، وإن كان صيد أسماكه وتناولها لا يزال ممنوعاً بسبب مستويات التلوث فيه.
وفي الصين يُعـدُّ تلوث الأنهار أحد أكبر القضايــا الوطنيــة. فنهر هيه الذي يمر بالعاصمـة بايجينـغ ومدينة تيانجين ملوّث إلى درجـة تجعــل مياهه لا تصلح لشيء. أما النهر الأصفر فنحو ثلث مياهه لا يصلح لا للري ولا للصناعة.
الأمر نفسه ينطبق على معظم أنهار العالم بنسب مختلفة. فشرب الماء من النهر مباشرة بات أمراً من الماضي. وفي أحسن الأحوال، على مياه النهر أن تمر بمعامل التكرير لكي تصبح صالحة للشرب.
الأمازون
ليس تاريخ الأمازون هو ما يستدعينا إلى التوقف أمامه هنا، بل حاضره.
ثمة خلافات حول طول هذا النهر. فبعض الحسابات تقول إنه نحو 6400 كيلومتر، أي أقصر بقليل من النيل، وبعض الحسابات الأخرى تعطيه نحو 500 كيلومتر إضافية ليصبح أطول من النيل. ولكن أياً كان طول هذا النهر، فلا مثيل له في العالم بضخامة تدفّقه البالغ 209,000 متر مكعب في الثانية، أي أكثر بنحو خمسة أضعاف من ثاني أغزر نهر في العالم، وهو نهر الكونغو الذي يبلغ تدفّقه 41,000 متر مكعب في الثانية. ويمكن أن يصل تدفق الأمازون إلى 340,000 في موسم الأمطار. أما مساحة حوضه فتبلغ نحو 7 ملايين كيلومتر مربع، القسم الأكبر منها في البرازيل، ويتوزع الباقي على البيرو وكولومبيا والإكوادور وبوليفيا وفنزويلا. ويحتضن هذا الحوض أكبر غابة مدارية في العالم، تعيش فيها ثلث أنواع الكائنات الحية المعروفة في العالم. ومنها على سبيل المثال 3000 نوع من الأسماك فقط. وفيها يُسجّل سنوياً اكتشاف أنواع جديدة من الحياة الفطرية غير المعروفة سابقاً.
ومنذ سبعينيات القرن العشرين، أصبح وضع حوض الأمازون شأناً عالمياً، بفعل تزامن أمرين متناقضين تماماً: ازدياد الوعي البيئي في العالم من جهة، ومشروعات الحكومة البرازيلية للإسكــان في حوض الأمازون واستغــلال موارده الطبيعية، ومنها شق ثلاث طرق سريعة عبر الغابة المطيرة. وفيما تلقى هذه المشروعات قبولاً عند الرأي العـام البرازيلي لما لها من عوائد اقتصادية على البلاد، فإنها تثير حفيظة البيئيين، خاصة بعد تكاثر الدراسات التي تؤكد أثر هذه الغابة المطرية على حال المنـاخ العالمي. ومن المرجَّح أن تستمر المواجهة بين البيئيين والمطوّرين في حوض الأمازون لسنوات عديدة مقبلة، لأن اقتحام الغابة لا يزال قائماً على قدم وساق، خاصة من جهتها الجنوبية، للإسكان، والتعدين، والاتجار بأخشاب أشجارها.
النهر الأصفر
ليس أطول أنهار الصين (طوله 5464 كيلومتراً مقابـل 6300 كيلومتر لنهر يانغتسي)، ولكنه الأهم لجهة الدور الذي لعبه في نشوء الحضارة الصينية. فهو الذي صاغ تاريخ الصين وحاضرها، كما أنه مصدر قوتها الاقتصادية وأيضاً مصدر أكبر مشكلاتها.
ينبع هذا النهر من هضبة التيبت ويصب في بحر بوهاي بشمال شرق الصين. وقد شهد القسم الأوسط من حوضه قيام أقدم الحضارات البشرية في الصين بين عامي 12000 و10000 ق.م. وثبت أن المستوطنين هناك عرفوا الزراعة منذ الألف السابع قبل الميلاد، ومن هؤلاء المزارعين ظهرت أولى الممالك الصينية المعروفة باسم “الباليغانغ”. ومنذ ذلك الزمن الغابر وحتى اليوم، بقي النهر الأصفر عصب الحياة الزراعية والصناعية، غير أن فيضاناته التي تأتي للأراضي الزراعية بالغرين والطمي المخصّب (34 كلغ في المتر المكعب من المياه، مقابل كيلوغرام واحد في النيل)، تسببت أيضاً في وقـوع عدد من أكبر الكوارث الطبيعيـة المسجّلـة في تاريخ البشرية.
فما بين العامين 595 ق.م. و1946م، فاض النهر الأصفر 1593 مرة. وأكبر هذه الفيضانات على الإطلاق كان فيضان عام 1332-1333م، الذي تسبَّب بمقتل 7 ملايين نسمة. وفي عام 1344م، أدَّى فيضان إلى تغير مجرى النهر عند جنوبي مقاطعة شاندونغ، ونتجت عن ذلك ظروف اقتصادية وأمنية رهيبة أدت إلى زوال حكم سلالة يوان، وبروز سلالة مينغ. وحتى في العصر الحديث، فقد أدَّى فيضان هذا النهر في عام 1931م إلى مقتل ما يُراوح بين المليون والأربعة ملايين نسمة.
وتحضر فيضانات النهر الأصفر في الآداب والفنون الصينية بما لا يستحيل حصره. وكتبت حولها آلاف الروايات والقصص والقصائد، وظهرت في ما لا يُعدّ من الأعمال الفنية.
وفي العصر الحديث، وبهدف كبح جماح هذه الفيضانات المدمرة، بنت الصين مجموعة من السدود العملاقة على هذا النهر، وصل عددها إلى 16 سداً. ولكن هذه السدود تسبَّبت بظهور مشكلات من أنواع أخرى.
وادي حنيفة
لا تقل الأنهار الموسمية شأناً عن الأنهار الدائمة الجريان. وأحياناً يؤدي النهر الموسمي دور الحاضنة لنشوء حضارة أو مدنية ما، ولكن دوره قد ينكسف بسبب نمو البيئة الحضرية التي أنجبها، فتعتمد على غيره للاستمرار في التطور والنمو، وفي وادي حنيفة القريب إلينا خير مثال على ذلك.
يُعدُّ هذا الوادي الذي كان يسمى سابقاً “وادي العارض”، أكبر مجرى مائي في شمال ووسط جبال طويق التي تحدّه من جهة الغرب، وينساب مجراه الرئيس من قمة قوس جبال طويق باتجاه الشرق، ومن ثم ينعطف جنوباً بشكل مفاجئ، وينضم إليه 300 رافد. وقديماً، كان مجراه الرئيس يلتقي في مكان قريب من الخرج بمجرى آخر هو وادي السهباء الذي كان في عصر جيولوجي قديم يتجه شرقاً إلى الخليج العربي، وقامت على جنباته لاحقاً الطرق التجارية.
شكَّل وادي حنيفة عبر العصور حافزاً طبيعياً للاستيطان، ولقيام سلسلة من البلدات الزراعية على امتداد ضفافه. فقد كان فيضانه خلال موسم الأمطار -الذي غالباً ما يكون في نهاية فصلي الخريف والشتاء وبداية الربيع- مصدراً للمياه الوفيرة وسبباً لترسب كميات من التربة الزراعية والطمي في الفيضات والروضات على جنباته، ما جعل الظروف مواتية لقيام بساتين النخيل وحقول القمح، كما وفّر المواد اللازمة للعمارة الطينية.
وعلى ضفاف هذا الوادي الكبير قامت بلدات ومدن عديدة، من أشهرها على الإطلاق الدرعية التي قامت على ضفتي مجراه الرئيس ونمت في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي)، لتصبح عاصمة الدولة السعودية الأولى، أما على ضفة رافده وادي البطحاء، فقد قامت مدينة حجر القديمة التي أصبحت لاحقاً الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية الحديثة.
الغانج
بطوله البالغ 2525 كيلومتراً فقط، يحتل هذا النهر المرتبة الخامسة عشرة في آسيا والتاسعة والثلاثين في العالم، غير أن أهميته التاريخية والحضارية تضعه في مرتبة أكثر تقدّماً من ذلك بكثير.
ينبع هذا النهر من ولاية أوتاراخاند في شمال الهند، وفي اتجاهه شرقاً تنضم إليه روافد ضخمة مثل كانداكي وكوشي اللذين ينبعان من النيبال وغيرهما الكثير، مما يرفع معدل تدفّقه إلى نحو 15,000 متر مكعب في الثانية، ويمكن لهذا المعدل أن يتضاعف في مواسم الأمطار الصيفية. وقبل مصبه في خليج البنغال، ينقسم الغانج إلى نهرين، يصب أحدهما في هذا الخليج عند ساحل ولاية البنغال الغربية، والثاني يخترق بنغلادش وصولاً إلى دكا، حيث يصب في الخليج نفسه.
تبلغ مساحة المسطح المائي لنهر الغانج مع روافده نحو 350,000 كيلومتر مربع، ومساحة الحوض الذي يرويه نحو مليون كيلومتر مربع، ويعيش في هذا الحوض نحو 400 مليون نسمة (أي نحو 5 في المئة من مجمل سكان العالم) يعتمدون في عيشهم على الغانج بشكل أو بآخر.
بدأ الاستيطان في حوض الغانج في بدايات الألف الثاني قبل الميلاد، عند انهيار حضارة الهارابان التي قامت أولاً في حوض نهر السند، وهجرة بقاياها شرقاً للاستيطان على ضفاف الغانج الجنوبية والغربية من دون اجتيازه. وثمة أساطير وروايات وأعمال أدبية كثير تدور حول تلك الهجرة، أسهمت في اعتبار الغانج رحم الحضارة الهندية. وتعزَّزت مكانة هذا النهر لاحقاً عندما رفعته الديانة الهندوسية إلى مرتبة القداسة. وبذلك اكتسب هذا النهر مكانة دينية عند الهندوس لا تزال قائمة حتىى اليوم، مما جعله واحداً من أهم أركان الثقافة الهندية بكل ما فيها من فنون وآداب ومعتقدات. غير أن “قداسة” الغانج، لم تحمه من التلوث، إذ إنه يُعدّ اليوم واحداً من أكثر الأنهار تلوثاً في العالم بالنفايات الصناعية، ومعدل البكتيريا الناجمة عن مجاري الصرف الصحي فيه تبلغ مئة مرة الحد المسموح به. وكل مساعي حمايته باءت بالفشل.
دجلة والفرات وما بينهما
ينبع نهر دجلة من جبال طوروس في تركيا، ويبلغ طول مجراه نحو 1718 كيلومتراً، معظمها في الأراضي العراقية. أما الفرات الذي ينبع من جبال طوروس نفسها، فهو ثاني أكبر نهر عربي بعد النيل، ويبلغ طوله 2800 كيلومتر، وتدفُّقه 356 متراً مكعباً في الثانية. وبعد أن يجري الفرات في شمال شرق سوريا يدخل العراق، حيث يلتقي بدجلة بالقرب من مدينة القرنة ليشكلا شط العرب الذي يجري لمسافة 120 كيلومتراً قبل أن يصب في الخليج العربي. وما بين هذين النهرين وعلى ضفافهما قامت أولى الحضارات الإنسانية بالمفهوم الذي نعرفه في العصر الحديث، وهي حضارات سومر وأكاد وبابل وأشور وكلدان.
ففي هذه المنطقة قامت القرى الزراعية المسوّرة منذ الألف السادس قبل الميلاد. وقبل أن يحل الألف الرابع قبل الميلاد، كانت هذه القرى قد أصبحت مدناً وممالك ابتكرت الكتابة المسمارية، وطورت علوم الطب والفلك والرياضيات، ووضعت التشريعات القانونية، وازدهرت فيها كافة أشكال الفنون، حتى أصبحت عبارة “بلاد ما بين النهرين” مرادفاً للقول “نشوء الحضارات”.
السدود على الأنهار .. ما لها وما عليها
للبيئيين أكثر من 800,000 عدو لا مجال للصلح معهم: إنه عدد السدود من مختلف المقاييس التي كانت قائمة فوق الأنهار في العالم عند مطلع الألفية الجديدة. ومن ضمن هذا العدد الكبير، هناك 57,000 سد كبير. ويحدد السد الكبير على أنه السد الذي يزيد ارتفاعه على 15 متراً (ما يعادل ارتفاع مبنى من أربعة طوابق). ومن ضمن فئة السدود الكبيرة هناك 300 سد عملاق يزيد ارتفاع الواحد منها على 150 متراً على الأقل.
والسد هو نقيض النهر في كل شيء. فالنهر هو الحركة، والماء المحتجز خلف السد هو السكون. والنهر يكون قد شق مجراه عبر آلاف وملايين السنين، أما بحيرة السد فهي في مكان لم يكن يوماً لها. وما يراه البعض تطويعاً للطبيعة، يراه البعض الآخر اعتداءً مدمراً عليها.طفرتها في القرن العشرين
ثمَّة دولتان عربيتان تتنازعان لقب موطن أقدم سد في العالم: الأردن، حيث أنشىء “سد جوى” على نهر الأردن قرابة العام 3000 ق.م. ومصر، حيث أنشئ سد على مسافة قريبة من القاهرة، لحماية مدينة “ممفيس” من الفيضانات قرابة العام 2900 ق. م. أما أقدم سد لا يزال يؤدِّي وظيفته حتى اليوم، فهو سد كلّاناي في ولاية تاميل نادو الهندية، الذي بني في القرن الثاني بعد الميلاد.
طوال النصف الأول من القرن العشرين، ظل عدد السدود يتصاعد بوتيرة صاروخية حتى بداية الستينيات تقريباً، بفعل التقنيات الهندسية الحديثة ورواج صناعة الإسمنت. ولكن الوعي البيئي الذي راح ينمو في النصف الثاني من القرن الماضي، كبح هذه الطفرة، وإن لم يوقفها تماماً. وصارت الحكومات تحسب ألف حساب قبل إقدامها على مشروع بناء سد جديد، خشية خسارة الرأي العام.
ولأن قضية إنشاء السدود هي دائماً موضع مشادات لا تنتهي بين البيئيين والحكومات، من الصعب جداً الحصول على أرقام دقيقة تتعلق بمفاعيل إنشاء السدود على المستوى البيئي. فالحكومات غالباً ما تسعى إلى تخفيض حجم الأضرار، في حين أن البيئيين يميلون إلى تضخيم مأساويتها. وعلى سبيل المثال، خلال البحث عن عدد الناس الذين تم نقلهم من مواطنهم في الصين والهند بفعل بناء السدود، وجدنا أرقاماً تراوح ما بين 40 و80 مليون نسمة، حسب المصدر المتحدث. فما حسنات السدود وسيئاتها التي يمكن يمكن القول إنها لم تعد موضع خلافات؟حسنات السدود
• تبنى السدود أساساً لتوفير المياه للزراعة في مناطق لا يصلها ماء النهر الجاري، ويمكنها في مواضع كثيرة أن تضاعف المساحات الزراعية عدة أضعاف. وهذا ما يفسِّر كثرة السدود في الصين التي تواجه تحدياً كبيراً لتأمين الغذاء اللازم ليرافق نموها السكاني، فوصل عدد السدود فيها إلى نحو 23 ألف سداً كبيراً.
• يشكِّل توليد الكهرباء الدافع الثاني لإنشاء السدود، وآخرها في هذا الإطار على سبيل المثال مشروع سد النهضة في إثيوبيا، حيث الحاجة إلى الكهرباء أصبحت أكثر من مُلحّة. ونحو خُمس إنتاج الكهرباء في العالم مصدره السدود.
• من خلال ضبط التدفق، تحمي السدود المناطق الآهلة بجوار الأنهار من الفيضانات وما تتسبَّب به من خسائر بشرية ومادية. ففيضانات مثل التي حصلت في الصين وتسبب بها النهر الأصفر وحده بمقتل ما بين مليون ومليوني نسمة عام 1887م، وما بين مليون وأربعة ملايين نسمة في فيضان عام 1931م، لم تُعد واردة بفعل السدود التي ضبطت كثيراً من تدفُّقه.
• توفر السدود كميات كبيرة من المياه العذبة التي تصبح بعد تكريرها صالحة للاستهلاك البشري والحيواني، وبشكل خاص لقيام صناعات ما كان يمكنها أن تقوم من دون توفر مصدر مورد منتظم للمياه.أما سيئاتها..
يرى البيئيون أن إنشاء أي سد يؤدِّي إلى تغير النظام البيئي الذي يكون قد قام وتوازن عبر آلاف السنين في حوض النهر، خلف السد وفي مجراه السفلي. ومن أهم هذه المتغيرات ما يأتي:
• تآكل اليابسة، فالسد يحتجز الطمي الذي يحمله النهر عادة ويخصّب به الأراضي الزراعية. وهذا يؤدي بدوره إلى حرمان المصب وضفاف القسم السفلي من هذا الطمي الذي يعزِّز اليابسة من جهة، ومن جهة أخرى تكون المياه الخالية من الطمي أقدر على نحت حواف المجرى وتعميقه ما يهدِّد الزراعات والحياة البرية في حوضه. في حين تتولى أمواج البحر عند المصب افتراس اليابسة شيئاً فشيئاً، إذ تصبح الشواطئ غير قادرة على تجديد نفسها.
• حرمان الأراضي الزراعية في المجرى السفلي من المخصبات الطبيعية، الأمر الذي يؤدِّي إلى الاعتماد بشكل أساسي على الأسمدة الكيميائية غير المرغوبة.
• لمنع الفيضانات سلبياته، إن كان منع الفيضانات من الأسباب الرئيسة لإنشاء السدود فيجب التنبه إلى أن الأنظمة الحيوية في أحواض الأنهار تكون قد قامت وتوازنت عبرالزمن على أساس حصول هذه الفيضانات. فهناك أنواع حيوانية ونباتية تتكاثر وتنمو بفعل الفيضانات. وحرمانها من هذه الدورة الطبيعية السنوية يؤدِّي حتماً إلى اختلال هذا التوازن، ولربما قاد ذلك إلى انقراض بعض الأنواع أو هجرتها.
• تطمر البحيرات الاصطناعية التي تنشأ خلف السدود مساحات كبيرة من اليابسة، وتؤدِّي إلى غرق كل ما يكون قائماً حول المجرى القديم، بما في ذلك الأماكن الآهلة، الأمر الذي يؤدِّي إلى عمليات تهجير كبيرة (طالت فعلاً عشرات ملايين العائلات عبر العالم)، مع ما ينطوي عليه ذلك من متاعب اجتماعية واقتصادية.
• يمكن للبحيرات الاصطناعية أن تغرق مواقع أثرية وتراثية كانت قائمة على ضفة النهر، وهذا ما حصل فعلاً خلال إنشاء كثير من السدود الكبرى.
• يرى البيئيون أن خزن المياه لا يعني بالضرورة حمايتها من الهدر. فسطح البحيرات خلف السدود هو أوسع مساحة بكثير من مساحة المجرى، وبالتالي فهي تخسر بالتبخر أكثر مما يخسره سطح النهر. ويذهب هؤلاء إلى تقدير حجم هذه الخسارة بما يصل إلى عمق مترين في بعض المناطق الحارة.
• إن المياه الراكدة في البحيرات الاصطناعية تشكِّل عند أطرافها مستنقعات وأراضي رطبة يتكاثر فيها البعوض والذباب وحشرات أخرى تُعدُّ من ناقلات الأمراض، وبشكل خاص الملاريا وعمى الأنهار.
• على القول إن السدود تولد طاقة كهربائية نظيفة، يردّ البيئيون بأن الخزانات (البحيرات الاصطناعية خلف السدود) هي مصدر كبير لغاز الميثان، وبشكل خاص في المناطق الحارة. ويمكن في بعض الخزانات الكبيرة أن تصل نسبة انبعاثات الميثان إلى تلوث يفوق بنحو ثلاث مرات توليد كمية الطاقة الكهربائية نفسها بحرق الوقود الأحفوري.
النهر في الشعر العربي
في عام 1888م، عثر السير ولسون بدج على نص شعري نظمه أمنموبي الحكيم الذي عاش في مصر الفرعونية في وقت ما قريب من بداية الألفية الأولى قبل الميلاد، وجاء فيه:
“لا تمنعن أناساً من عبور النهر
عندما يكون في قاربك مكان
لا تصنعن لنفسك معبراً في النهر
ثم تجاهد بعد ذلك لتجمع أجره”من النادر أن نقع على شاعر عربي لم يتغنّ بشكل أو بآخر بنهر ما، تارة من باب وصف جماله فقط، وتارة كرمز للحياة الحلوة وهناء العيش، وتارة بوصف النهر موطناً أو مختصر وطن بكامله.
ففي التغني بمحاسن الأنهر والعيش بجوارها، يمكننا أن نجد في الشعر الأندلسي أرق الأبيات. وخير من عبرّ عن ذلك ابن خفاجة بقوله:
يا أهلَ أندلس للَّه دَرُّكُمُ
ماءٌ وَظِلٌّ وَأَنهارٌ وَأَشجارُ
ما جَنَّةُ الخلدِ إِلّا في ديارِكُمُ
وَلَو تخيَّرتُ هَذا كنت أَختارُوللشاعر الإشبيلي ابن زهر الحفيد نظرة مشابهة للنهر، تتجلى في موشحه الشهير “ما للمولّه” حيث يقول:
هَل تُستَعادُ أَيّامُنا بِالخَليج وَلَيالينا
إِذ يستَفادُ مِنَ النَسيم الأَريج مِسكَ دارينا
وَإِذ يَكادُ حُسنُ المَكانِ البَهيج أَن يُحيينا
نَهرٌ أَظَلَّهُ دوحٌ عَلَيهِ أَنيق مورِق الأَفنان
وَالماءُ يَجري وَعائِمٌ وَغَريق مِن جَنى الرَيحانولكن اللافت أن الأنهار في مثل هذه القصائد هي مجهولة الهوية، ولا أسماء لها، ويمكننا أن نتخيل أنها كانت أقرب إلى الجداول التي تخترق الحدائق الغنّاء. أما في ما يتعلق بالأنهر الكبيرة، فيختلف الأمر، وقد يصبح النهر محور القصيدة بكاملها.
النيل أولاً؟
طبعاً، كانت للنيل حصة الأسد من هذا الشعر. فالأمير الشعراء أحمد شوقي وحده عدة قصائد في النيل، أشهرها قافيّته:
من أي عهدٍ في القرى تتدفقُ
وبأي كفٍ في المدائن تغدقُ
ومن السماء نزلتَ أم فجّرتَ
من عليا الجنان جداولاً تترقرقُولكن شوقي الذي أنشد أيضاً من جملة ما أنشد:
النيلُ العَذبُ هُوَ الكَوثَر
وَالجَنَّةُ شاطِئُهُ الأَخضَر
رَيّانُ الصَفحَةِ وَالمَنظَر
ما أَبهى الخُلدَ وَما أَنضَرليس هو “شاعر النيل”، فصاحب هذا اللقب هو حافظ إبراهيم الذي وإن كان شعره في النيل ليس وحده وراء هذا اللقب، فإن ما قاله في هذا النهر العظيم لا يقل عما قاله صديقه ومنافسه شوقي. وفي مناظرة معروفة بين الاثنين قال شوقي:
يا ساكني مصر إنا لا نزال على
عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينا
هلا بعثتم لنا من ماء نهركم شيئاً
نبل به أحشاء صادينا
كل المناهل بعد النيل آسنة
ما أبعد النيل إلا عن أمانينافأجابه حافظ بهذه الأبيات:
عجبتُ للنيل يدرى أن بلبلَهُ
صادَ ويسقى ربا مصر ويسقينا
والله ما طابَ للأصحاب موردهُ
ولا ارتضوا بعدكم من عيشهم لينا
لم ننأ عنه وإن فارقت شاطئهُ
وقد نأينا وإن كنا مقيميناوالواقع أن فن الغناء في مصر أسهم في نشر كثير مما قيل في النيل من شعر على أوسع نطاق. فكما غنَّت أم كلثوم بعض أبيات قافية شوقي، كان لغناء محمد عبدالوهاب “النهر الخالد” دوره في شهرة شاعرها محمود حسن إسماعيل على المستوى الشعبي.
ولأن النيل ليس لمصر وحدها، بل أيضاً للسودان، فكان من الطبيعي أن تكون له مكانته في الشعر السوداني، حيث نقرأ على سبيل المثال للشاعر السوداني إدريس جماع:
وادٍ من السحرِ أم ماءٌ وشطآنُ
أم جنةٌ زفها للناس رضوانُ
كل الحياةِ ربيعٌ مشرقٌ نضرٌ
في جانبيهِ وكلُ العمرِ ريعانُدجلة والفرات؟
ولكننا عندما نرى ما قيل من الشعر في دجلة والفرات، فإننا قد نتراجع عن الجزم بأن حصة الأسد كانت من نصيب النيل.إذ لا غرابة أن تكون أنهار المشرق العربي موضع اهتمام ألمع الشعراء الذين شربوا من مياهها خلال القرون الطويلة التي كان فيها هذا المشرق قلب الحضارة العربية الإسلامية. وقائمة الشعراء الذين تغنَّوا بدجلة والفرات على سبيل المثال تمتد من أبي الطيب المتنبي إلى محمد مهدي الجواهري.
فقد جاء في إحدى الدراسات أن ذكر الفرات ورد ست مرات على الأقل في ديوان المتنبي، ومنها قوله:
شوقي إليك نفى لذيذَ هجوعي
فأرّقني وأقامَ بين ضلوعي
أو ما وجدتم في الصراة ملوحةً
مما أرقرقُ في الفرات دموعيولكن من أبرز القصائد التي تعبّر عن التحوّل الذي طرأ في العصر الحديث على الحياة في حوض دجلة والفرات، هو ما قاله معروف الرصافي في قصيدة عنوانها “سوء المنقلب”:
لا دجلة يا للرزية دجلة
بعد الرشيد ولا الفرات فراتُ
كان الفرات يمد دجلةَ ماؤه
بجداول تُسقى بها الجناتُ
إذ بين دجلة والفرات مصانع
تفترُ عن شنب بها السنواتُولكن للرصافي نفسه قصيدة أخرى يمتدح فيها “السد في بغداد”، فيقول:
نجّيتَ بالسد بغداداً من الغرقِ
فعمّها الأمنُ بعد الخوف والقلقِ
إلى أن يقول:
ويح الفرات فلو كانت زواخره
تدري بعزمك لم تطفح على الطرقِوفي مدح فيضان الفرات، يمكننا أن نقرأ في قصيدة لمحمد مهدي الجواهري بعنوان “الفرات الطاغي” نظمها في ثلاثينيات القرن الماضي:
طغى فضوعِفَ منه الحسنُ والخطرُ
وفاضَ فالأرضُ والأشجار تنعمرُ
فما الفراتُ بمستطاعٍ فمحتضدٍ
ولا بمستعبدٍ بالعنفِ ينكسرُ
كم من معارك شن الفنُ غارتها
على الفرات ولكن كان ينكسرُوالشعراء المشرقيون لم يكونوا وحدهم الذين تغنَّوا بدجلة والفرات، فلأحمد شوقي نفسه قصيدة شهيرة بعنوان “دجلة”، مطلعها:
يا شراعاً وراء دجلةِ يجري
في دموعي تجنَبتك العَواديوشعر كبير في أنهار صغيرة
ويمكن في حالات كثيرة أن يكون النهر ذا دلالات رمزية تتجاوز في أهميتها ضخامته وأهميته الحيوية أو حتى حسن ضفافه، كما هو حال نهر بَرَدى مثلاً. فهذا النهر الذي يخترق مدينة دمشق، هو صغير نسبياً، حتى إنه شارف على الجفاف صيفاً، وبات أقرب إلى جدول اصطناعي. ومع ذلك..
في عددها ليوم 12 ديسمبر 2004م، نشرت جريدة “اليوم” تقريراً طويلاً بعنوان “بردى في الشعر العربي” يدهش القارئَ بعدد الشعراء الذين ورد ذكر هذا النهر عندهم، بدءاً بحسان بن ثابت الأنصاري-رضي الله عنه-، الذي قال:
يسقون من ورد البريص عليهم
بردى يصفق بالرحيق السلسلوصولاً إلى أحمد شوقي الذي نظم قصيدته الشهيرة “نكبة دمشق” في عام 1926م، لمواساة المدينة التي سقطت تحت نير الاستعمار، ومطلعها الذي يعرفه الجميع يقول:
سلامٌ من صبا بَردى أرقُ
ودمعٌ لا يكفكفُ يا دمشقُوما بين هذا وذاك، نجد أن قائمة الشعراء الذين تناولوا نهر بردى في قصائدهم تضم: جرير، وأبو عبدالله الأصبهاني، وأبو المطاع بن حمدان، وبدوي الجبل، ومحمد مهدي الجواهري، وجورج صيدح، والأخطل الصغير، وسعيد عقل، وكثير غيرهم.
والأمر نفسه ينطبق على نهر صغير آخر على سبيل المثال أيضاً، هو نهر قويق الذي يخترق مدينة حلب. فهذا النهر الذي جفّ تماماً في خمسينيات القرن الماضي، بعد إقامة سد على مجراه في تركيا، صار يُغذّى اليوم من نهر الفرات بواسطة ترعة اصطناعية ترفده بخمسة أمتار مكعبة من المياه في الثانية. ولكنه عندما كان جارياً بشكل دائم في ما مضى، نراه قد حظي بقصائد وأبيات تمتدحه من البحتري وأبي العلاء المعرّي وحتى المتنبي.
النهر كما رآه الفنَّانون شرقاً وغرباً
لا غرابة في أن يأسر النهر اهتمام الفنَّانين في مختلف الثقافات والحضارات، فكان يحضر في أعمالهم بأساليب مختلفة ولغايات شديدة التلوّن والتنوُّع. وإن كنا لا نعرف ما هو أقدم عمل فني يمثل نهراً، فمن المؤكد أن تمثيل النهر في الفن كان حاضراً بقوة في الفن الفرعوني. ووصلتنا من الألف الثاني قبل الميلاد رسوم جدارية عديدة تمثل مشاهد من الحياة على ضفاف نهر النيل، وفوق صفحته، وحتى الأسماك في أعماقه.
واحد من هذه الأعمال النموذجية لوحة جدارية تمثل مشهد صيد على نهر النيل، تم اكتشافها في مدفن مينا الذي يعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد. ونرى في اللوحة أناساً في زورقين، ويقوم رجلان باصطياد الأسماك بواسطة الحراب من النهر المرسوم بشكل مؤسلب من خطوط متكسرة ومتوازية، الذي يحتوي على أنواع مختلفة من الأسماك وتمساح وعلى صفحته عدد من طيور البط وغيره وفوقه نبات البابيروس النهري. وأسلوب رسم النهر هذا، ظل هو نفسه لنحوألفي عام، وإن تشكَّل أحياناً من خطوط متوازية أو متقطعة أو متعرِّجة كأسنان المنشار، ولكنها دائماً باللون الأزرق، ودائماً تتخلل هذه الخطوط بعض الأسماك للدلالة على أننا أمام نهر يعج بالحياة.
الأسلوب نفسه تقريباً نراه بعد أكثر من 2500 سنة في بعض المنمنمات الإسلامية، كما هو الحال في المنمنمات التي رسمها يحيى بن محمود الواسطي في عام 1237م، لتزيين كتاب مقامات الحريري، وتحديداً المقامة الفراتية، حيث نرى في إحداها النهر (الفرات) على هيئة مستطيل أزرق مستدير الحواف وفي داخله أربع سمكات.
أما في المنمنمات التي رُسمت في الهند المغولية، وبناءً على طلب أباطرة المغول، حيث بلغت الحياة ذروة الترف، لم يعد محتوى الأنهار من الأسماك مهماً، فظهرت على شكل خطوط متعرِّجة زرقاء تخترق الحدائق الغنَّاء، وجداول تنساب بين القصور.في الفن التشكيلي الغربي
لم يظهر النهر في اللوحة الأوروبية قبل عصر النهضة إلا لماماً، وفي صيغ لا تستحق الذكر. وحتى خلال العقود الأولى من القرن السادس عشر، ظل ظهور النهر محصوراً ضمن الخلفية الطبيعية في صورة تمثل موضوعاً مختلفاً، كما هو الحال في النهر الذي يخترق طبيعة موحشة خلف صورة المرأة في لوحة “الموناليزا” الشهيرة. ولكن الأمر لم يطل كثيراً حتى ظهر النهر كعنصر رئيس في المشهد الطبيعي، وكانت بداية الأمر في أواسط القرن السادس عشر في بلاد الفلاندر (هولندا وبلجيكا)، وعلى يدي الفنان الكبير بيتر بروغيل بشكل خاص، الذي رسم الأنهار الجارية والأنهار المتجمدة في لوحات تمثل مشاهد من الحياة اليومية في حضن الطبيعة.وفي القرن السابع عشر الميلادي، ودائماً في بلاد الفلاندر، بلغ حضور النهر ذروته في لوحات اقتصرت على تصوير مشاهد من الغابات تخترقها الأنهار، من دون أي حضور للإنسان ولا للعمران أو أي موضـوع آخر. ومن أبرز روَّاد هذا الاتجاه الرسام جاكوب فان رويسدايل الذي رسم عشرات اللوحات على هذا المنوال.
وفي الوقت الذي كان رويسدايل وأتباعه يرسمون الأنهار في طبيعة متوحشة، كان الفنَّانون الفرنسيون والإيطاليون يرسمون أنهاراً تخترق طبيعة مثالية غير واقعية، تضم أشجاراً رائعة وتضاريس أروع، وبضعة أناس صغار الحجم يبرِّرون إعطاء اللوحة اسماً مستوحى من الأدب والأساطير والتراث، فجاء النهر في لوحات المدرسة الكلاسيكية هذه مثالي الشكل، وغالباً ما توسطها، وكأن مثالية الطبيعة لا يمكنها أن تكتمل إلا بحضور النهر كما نرى على سبيل المثال في لوحات الفرنسي كلود لورين.وبلغ حضور النهر في فن الرسم الأوروبي ذروته خلال القرن التاسع عشر. ففي زمن واحد تقريباً، ظهرت في فرنسا “مدرسة باربيزون” التي نشطت بين عامي 1830 و1870م، وضمت عشرات الفنَّانين ممن انصرفوا إلى رسم المناظر الطبيعية، بعيداً عن صخب المدن وعوالم الحداثة والصناعة، واحتلت الأنهار والجداول مساحات كبيرة على عدد لا يحصى من لوحات هذه المدرسة. وفوراً، تلى ذلك ظهور الانطباعية، التي غرق أساتذتها في رسم تلاعب الألوان بتغير الضوء، وبشكل خاص على صفحة الماء. فظهر نهر السين وغيره من الأنهر الفرنسية في عشرات اللوحات عند كلود مونيه وإدوار مانيه ورينوار وسورا وغيرهم. وفي الوقت نفسه كان عشرات الفنَّانين المستشرقين يجوبون مصر والهند، ويرسمون النيل والغانج في لوحات لاحصر لها في تنوُّع أساليبها الفنية وموضوعاتها وخطاباتها.
وفي الفن المعاصر، انكسف حضور النهر في الفن التشكيلي بانحسار رسم المناظر الطبيعية أمام التجريد والتركيب وباقي التيارات المعاصرة، ولكنه لم يغب تماماً. فخلال العام الجاري 2018م، على سبيل المثال، أقام متحف الفن البحري في الولايات المتحدة معرضاً للفنَّان توماس باكيت بعنوان “إعادة اكتشاف نهر أمريكا، لوحات عن نهر المسيسيبي من النبع إلى الخليج”، وضم المعرض حصيلة عمل الفنان على رسم مشاهد من ضفاف المسيسيبي على مدى ثلاث سنوات.مدرسة نهر الهدسون
هي حركة فنية نشأت في الولايات المتحدة خلال أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وضمت جيلين من أساتذة رسم المناظر الطبيعية، وتركزت أعمال الجيل الأول على رسم المناظر المستوحاة من نهر الهدسون وطبيعة حوضه، في حين أن الجيل الثاني وسع دائرته الجغرافية لتشمل مناطق أخرى في أمريكا الشمالية، وصولاً إلى أمريكا الوسطى والجنوبية.
تميَّزت أعمال هذا التيار الفني بنفحة رومنطيقية وغنائية، ودارت في معظمها حول ثلاث تيمات رئيسة: الاكتشاف والاستكشاف والاستيطان. وتظهر الطبيعة في هذه الأعمال بكل تفاصيلها الواقعية، وأحياناً على شيء من المثالية. كما أن بعضها جمع لمسات من مشاهد الأراضي الزراعية إلى ما كان قد تبقى من البراري التي اختفت من وادي الهدسون. ويُعدُّ الفنَّان توماس كول مؤسس هذه المدرسة وفريدريك إدوين تشيرش أشهر أساتذتها. وهذا الأخير هو صاحب لوحة “قلب الأنديز”، التي تُعدُّ أفضل لوحة تمثل منظراً طبيعياً رسمت في أمريكا خلال القن التاسع عشر.أغلى كنوز الصين
تمتلك الحكومة الصينية ما يمكن وصفه بأنه من أغلى كنوزها الفنية على الإطلاق، ولا تعرضه على الملأ إلا في المناسبات الوطنية الكبرى مثلما حدث في عام 2007م، عندما عرضته في هونغ كونغ لمناسبة مرور عشر سنوات على استعادتها، وفي عام 2012م في طوكيو لمناسبة مرور 40 سنة على تطبيع العلاقات السياسية بين الصين واليابان. وفي كل مرة، كان يقال إن نقل هذا الكنز الصغير من مكانه يكلف ملايين الدولارات، عدا قيمة التأمين الفلكية.
هذا الكنز هو لوحة على شكل لفافة يبلغ طولها 525 سنتيمتراً، وعرضها 25,5 سنتيمتر، بعنوان “على طول النهر خلال مهرجان كينغمينغ”، رسمها الفنَّان تسانغ تسيدوان على عهد الأسرة سونغ (1085-1145م)، وتتضمَّن سلسلة طويلة من مشاهد الحياة اليومية في العاصمة بيانجينغ ( مدينة كايفينغ حالياً)، وتعبِّر عن اختلاف المستويات الاجتماعية في المدينة من الفقر إلى الغنى على ضفتي النهر، وعن النشاطات الاقتصادية فيها وفي المناطق الريفية المجاورة، كما أنها تسجّل بشكل شبه وثائقي ما كانت عليه الأزياء والعمارة آنذاك.تتضمَّن هذه اللوحة صور 814 شخصاً، و28 زورقاً نهرياً و20 عربة و30 مبنى و170 شجرة. ولا يظهر في النسخة الأصلية غير 20 امرأة من الطبقة الاجتماعية الدنيا خارج منازلهن، ودائماً بصحبة رجال، وعلى امتدادها هناك النهر شريان كل هذه الحياة.
حظيت هذه التحفة بتقدير لا مثيل له في تاريخ الفن الصيني، فنسخها عدة فنَّانين، وأصبحت بحد ذاتها مدرسة فنية عمل على استيحاء تركيبها العام العشرات من كبار فنَّاني الأسر المالكة لاحقاً وخاصة على عهد الأسرة كينغ. كما نظم فيها الشعراء قصائد عديدة. وحظيت هذه اللوحة بعناية فائقة من كل من اقتناها وكان من أواخرهم الإمبراطور بويي، آخر أباطرة الصين الذي أخذها معه عندما غادر بكين، إلى أن اشترتها الحكومة الصينية في عام 1945م، واحتفظت بها في متحف القصر في “المدينة المحرمة”، في حين استقرت النسخ التي أنجزت على عهد الأسرة كينج في متاحف القصور في تايبيه.
وخلال المعرض العالمي “إكسبو 2010″، كان أبرز ما في الجناح الصيني، تمثيل ثلاثي الأبعاد بالصوت والضوء لهذه اللوحة بعنوان “نهر الحكمة”، وبمقاييس بلغت 30 مرة مقاييس النسخة الأصلية.
قالوا في النهر
“إني أفتقد بعض أوجه الحياة في العالم العربي، سكينة تلك المدن ذات الأنهار الكبرى. فسواء أكنتَ في بغداد أو القاهرة، يمكنك أن تجلس هناك وتفكر أن هذه الأنهار تجري هنا منذ ملايين السنين. ثمَّة لحظات سحرية في هذه الأماكن”.
المهندسة المعمارية زها حديد
“لقد نشأت في المدينة، ولكن شعري وُلد ما بين التلة والنهر”.
الشاعر بابلو نيرودا
“أنا شخص بسيط فعلاً.. أزرع الزهور وأراقبها تنمو، وأبقى في البيت أتأمل النهر”.
المغني جورج هاريسون
“ردة الفعل هي مثل زورق يذهب عكس التيار، ولكنه لا يوقف النهر عن التدفق”.
الشاعر فيكتور هوغو
“لو أنني مشيت ذات صباح على صفحة مياه نهر البوتوماك، لكانت عناوين الصحف المسائية: الرئيس لا يحسن السباحة”.
الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون
“أنت لا تغرق عندما تسقط في النهر، بل عندما تبقى مغموراً بمياهه”.
الروائي باولو كويلو
“لو أصغت الطبيعة إلى مواعظنا في القناعة، لما جرى فيها نهر إلى البحر”.
جبران خليل جبران
“من يؤجل عيش حياته مليئاً يشبه من ينتظر جفاف النهر ليعبره”.
الشاعر الروماني هوراشيو
“لقد جلسنا طويلاً على ضفة النهر نصطاد سمك السلّور بالصنارة، وآن الأوان لأن نذهب إلى صيد الحيتان بالرماح”.
المربي جون هوب
“إن نهر يانغتسي مهم جداً بالنسبة للصين، مثل النيل في مصر والراين في ألمانيا. فعدّة شركات تحمل اسمه”.
الصحافية الأمريكية ربيكا ماكينون
الحياة النهرية
عندما يكون في حوض الأمازون وحدة نحو ثلاثة آلاف نوع من السمك، يصبح من المستحيل حصر الأنواع الحية التي تعيش في أنهار العالم وأحواضه.
فالأنواع الحية فالأنهار وأحواضها قد لا تتمكَّن من العيش بعيداً عن بيئتها، ولكن كل الأنواع الأخرى، حتى الصحراوية منها، يمكنها أن تعيش جيداً على ضفاف الأنهار.
اترك تعليقاً