مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2024

الأكل الأخلاقي

مراوغة المصطلح وصعوبة التنفيذ

شيرين أبو النجا

من المألوف ظهور تعبير “الأكل الأخلاقي” في الأدبيات الغربية، لكن ظهوره في البلدان العربية يحوله إلى إحدى الصرعات الصادمة التي استوردتها “الميديا” الحديثة. فالشائع هو أن لكل شخص معاييره الخاصة بالنسبة إلى الطعام، وتُراوح هذه المعايير بين إطلاق العنان للذائقة الشخصية، ومراعاة الاعتبارات الصحية وغيرها، وصولًا إلى عامل التكلفة عند ذوي المداخيل المحدودة. أمَّا السؤال الجديد، فهو: كيف يمكن لهذا الأكل الذي نعرفه أن يكون أخلاقيًا؟

ظهرت بوادر الأكل الأخلاقي، من دون تسميته هكذا، في العالم العربي من خلال مظاهر محددة مثل: المنتجات العضوية، واتباع الأنظمة الغذائية النباتية، وتلافي استخدام البلاستيك قدر الإمكان، وما شابه ذلك؛ وهي مظاهر أقبل عليها البعض من أجل الحفاظ على الصحة. ومثلما يحدث دائمًا، تأتي كل ظاهرة جديدة وهي تسحب معها وسائل المقاومة الموجهة ضدها. فالمنتجات العضوية؛ أي تلك التي لا تُستخدم في زراعتها مواد كيميائية وغير معدلة وراثيًا، ربَّما لا تتمتع بالمصداقية الكافية التي تجعل المستهلك يُقبل عليها، فضلًا عن ارتفاع أثمانها. أمَّا البلاستيك، وخاصة عبوات المياه والعلب والأكياس، فهي أدوات عملية ونافعة في الحياة اليومية لمعظم الناس، وذات تكلفة أقل من تكلفة الزجاج. أمَّا المشكلة، فيرى البعض أنها تكمن في الإفراط في الاستهلاك وغياب الدعم المؤسسي لعملية إعادة التدوير.

تبقى الأنظمة النباتية وهي تسعى للحصول على مكان في الثقافة والقناعات الفكرية، وهو أمر ليس سهلًا دائمًا في مجتمعات تتجذر فيها أهمية اللحم إلى حد قد يحوِّل حياة الشخص النباتي إلى مثار للفكاهة والاستخفاف، فضلًا عن عدم قدرته على التكيف مع ثقافة غير مجهّزة لهذا النظام الغذائي، حتى إنها تربط بينه وبين العوز والاحتياج.

لكل هذه الأسباب وغيرها، يصبح الأكل الأخلاقي إحدى المعضلات التي لا يمكن العمل على حلها بشكل فردي. فاستهلاك الأكل هو أحد القطاعات المؤثرة في النظام الاقتصادي الرأسمالي؛ إذ يتحول الربح والمنافسة إلى عاملين أساسين لقيام المنظومة. وبذلك، فإن الاختيارات الفردية لا تؤثر مطلقًا في صلابة المنظومة الربحية ولا منظومة العرض والطلب.

في سبيل تحقيق أعلى ربح تعمد بعض الشركات الغذائية إلى تقديم صور جذابة لمنتجاتها، مع التأكيد على أنها أفضل منتج للصحة. ولكن الأكل الأخلاقي لا يقتصر على اختيار المنتجات العضوية وما أشبهها، بل يشمل أيضًا الوعي بالآثار البيئية والاجتماعية والصحية لخياراتنا الغذائية، واتخاذ قرارات مستنيرة تعكس قيمنا وتفضيلاتنا. فالغذاء الأخلاقي هو وسيلة لتناول الطعام والطهي تحترم جميع الكائنات الحية.

فعلى سبيل المثال، يتطلب الأكل الأخلاقي ملاحظة ما يُسمَّى “الأميال الغذائية”؛ أي المسافة التي يقطعها الطعام من مكان إنتاجه حتى وصوله إلى المستهلك، وضرورة الوعي بالبصمة الكربونية؛ أي كمية ثاني أكسيد الكربون الذي ينبعث أثناء النقل. يبدو هذا الأمر حيويًا لمن يرغب في فهم جوهر منظومة الأكل الأخلاقي. فالأمر لا يقتصر على نوعية الطعام، بل يأخذ أيضًا في الحسبان تكلفة وصوله إلينا وما تسبب فيه خلال إنتاجه ونقله؛ بما في ذلك أثره على المنتجات المحلية التي تتراجع لحساب السلعة المستوردة مثلًا، وهذا ما يؤدي إلى تراجع مؤشر النمو وتدني دخل المزارع. أمَّا مسألة تلوث البيئة، فهي أمر أخلاقي، أو بالأحرى لا أخلاقي في هذه الحالة.

بوادر الأكل الأخلاقي، من دون تسميته هكذا، بدأت تنتشر في العالم العربي، ومن مظاهرها المنتجات العضوية واتباع الأنظمة الغذائية النباتية. 

تكمن المفارقة في أن السوق تسعى إلى تحقيق ربح عبر النقل أو الاستيراد، وهو ما يزيد من المخاطر البيئية. ومن جهة أخرى، يتحقق هذا الربح على حساب المنتِج المحلي. وكأن هناك علاقة طردية، فكلَّما ازداد السعي إلى الربح ازداد التلوث البيئي. لكن العلاقة عكسية في حالة المزارع، فكلَّما ازداد ربح الشركات المستوردة هبط الدخل المعيشي للمزارع، وتراجع المنتج المحلي وفقَد قيمته بشكل يغيّر الذائقة والثقافة. كما حدث، مثلًا، مع ظاهرة الوجبات الجاهزة التي تشمل أطعمة معدَّة من لحوم وخضار تُنتج بالجملة، لتكون دون غيرها مادة وجبات في بعض المطاعم. وأدى رواجها عالميًا إلى ظهور فئة واسعة من المستهلكين ترى في الوجبات السريعة علامة على الحداثة والرقي الحضاري. وهي تخدم المُنتِج أيضًا، فهي أسرع وأرخص وقادرة على خدمة طبقة عريضة من المستهلكين في وقت قصير.

تندرج كل هذه الإشكاليات تحت مُسمَّى “التجارة العادلة”، وهي حركة عالمية تهدف إلى تحسين الأسعار وظروف العمل وشروط التجارة للمزارعين والعمال في الدول النامية. كما تهدف إلى تعزيز الممارسات التجارية العادلة بين المنتج والمستهلك.

ففي سبيل تحقيق المزيد من الأرباح، قد لا تتوانى التجارة عن الإتيان بأمور تهدِّد صحة الإنسان، مثل التعديل الوراثي لأنواع الخضار والفاكهة، وإنتاجها في غير مواسمها. وإضافة إلى ذلك، قد تُعامل الحيوانات، التي تمدنا باللحم والألبان والبيض، بقسوة تجعلها في حالة توتر دائم وإجهاد، ويُفرض عليها سلوك ليس من طبيعتها، مع شُح الظروف الملائمة للحيوان من ناحية المأكل والمساحة والماء والرعاية في بعض المزارع الضخمة.

وعلى الرغم من أن مفهوم الرفق بالحيوان أصبح منتشرًا ومعروفًا لدى الجميع، ولديه مقاربات مختلفة من جهات متعددة، فإن هذا لا يضمن وجود أي ممارسة عملية وفق هذا المفهوم في كثير من مزارع الحيوانات.

الأكل الأخلاقي سلوك يحتاج إلى وعي متقد وجاد وخيارات واضحة وجذرية، وهما أمران يحتاجان إلى الاستدامة. 

ربَّما يجب أن نتذكر دائمًا أن نتائج هذا الانتهاك المنظَّم للطبيعة والتربة والحيوانات وأجسامنا، هي التدمير التدريجي وغير المحسوس للكوكب. وقد بدأنا نشهد هذا فعليًا في أزمة تغيُّر المناخ وظهور الأوبئة وزيادة معدلات عدم القدرة على الإنجاب في الأجيال الصاعدة وزيادة الأمراض السرطانية والأمراض المناعية.

تنبَّه النقد الأدبي إلى هذا التدمير المُقنَّع مبكرًا، فظهرت مدرسة النقد البيئي (قبل ظهور الدراسات البيئية) منذ عام 1978م، وهو مصطلح أطلقه ويليام روكرت في مقاله الشهير “الأدب والبيئة”. ومنذ تسعينيات القرن الماضي تحوَّل النقد البيئي إلى مقاربة نقدية راسخة تسعى إلى قراءة النص من زاوية العلاقات بين الشخصيات وكل البيئة المحيطة بها. ثم صعد النقد النسوي البيئي (إيكوفيمينزم) بوصفه إطارًا للتفكير في العلاقة بين البشر والبيئة، وهو ما يؤدي إلى إدراك الأصول المشتركة بين الاضطهاد الاجتماعي ودمار البيئة، كما تقول ماريا ميس وفاندانا شيفا في كتابهما المشترك “إيكوفيمينزم” الصادر عام 2014م. ويركِّز هذا النقد عمومًا على العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ومدى الانتهاكات التي يمارسها الإنسان على الطبيعة بوصفها، من وجهة نظره، جمادًا يقع تحت إمرته، ويدخل الأكل في هذه القراءات النقدية باعتبار الطبيعة هي مصدره.

بوجه عام، حدَّد “مجلس أخلاقيات الطعام”، وهو جمعية غير حكومية تأسست عام 1998م في إنجلترا، المعايير الأساسية لقياس مدى التزام الشخص بالطعام الأخلاقي. وتأتي رعاية الحيوان بما يضمن حقوقه على رأس القائمة. فمثلًا، الشخص النباتي الذي لا يأكل اللحم لأنه لا يحب مذاقه لا يعد ملتزمًا، فالاختيارات لا بدَّ من أن تكون مبنية على وعي. وثانيًا، إنقاذ الكوكب من المواد الكيميائية والصناعية التي تؤثر على الحياة الطبيعية والتربة الزراعية بما يمنع الاستدامة. وثالثًا، نظام الأكل الصحي ليحافظ الشخص على صحته وصحة غيره (على الأقل من معدلات السمنة المتزايدة ومرض السكر). وأخيرًا، مبدأ التجارة العادلة التي تضمن ربحًا عادلًا للمزارع وتسمح للمستهلك بالوصول إلى نوعية جيدة من الطعام.

الأكل الأخلاقي هو جزء أصيل من مسألة الحفاظ على البيئة وإنقاذ الكوكب من الأخطار التي تحيط به. وهو سلوك يحتاج إلى وعي متقد وجاد وخيارات واضحة وجذرية، وهما أمران يحتاجان إلى الاستدامة؛ لأن المنفعة التجارية تستهدف تحديدًا توجيه الخيارات لمصلحتها عبر الصور والإعلانات البرّاقة لتحقيق المزيد من الربح ولو كان ذلك على حساب كوكب. كما حدث عام 2018م في سويسرا، حيث صوَّت المواطنون بأغلبية كبيرة ضد مبادرتين شعبيتين تتعلقان بالغذاء العادل والزراعة. جاء ذلك بعد أن عمد بعض رجال الأعمال والمؤسسات على تحريض الناخبين للتصويت ضد المبادرتين بحجة القلق من ارتفاع الأسعار والخيارات المتاحة، فيما استهدفت المبادرتان تحسين نوعية الغذاء المُقدَّم لهم عبر الارتقاء بمستويات الزراعة المحلية والنهوض المستدام بها!


مقالات ذات صلة

المؤلِّف في الصورة.. الكتابة البصرية في الفن المعاصر
تأليف: شرف الدين ماجدولين
الناشر: المركز الثقافي للكتاب، 2024م

دشّن مركز (إثراء) كتاب “الأمثال العربية لجيل الألفية” بالتزامن مع احتفالات اليوم العالمي للغة العربية، حيث نظّمت مكتبة “إثراء” جلسة حوارية بهذه المناسبة.

الصمت في عصر الصخب
تأليف: إيرلنغ كيج
ترجمة: عبدالوهاب المقالح
الناشر: نادي الكتاب، 2024م


0 تعليقات على “الأكل الأخلاقي ”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *