“مدينة المئة باب”، “مدينة الشمس”، “مدينة النور”، “مدينة الصولجان”، “طيبة”.. أسماء كثيرة تشير إلى مكان واحد: “الأقصُر”. هنا في هذه المدينة التي تقع جنوب مصر يختلط الزمن، قديمه، حيث المعابد الفرعونية بأعمدتها الشاهقة ونقوش جدرانها الحجرية الأخَّاذة، وحاضره، حيث “المعدِّية” تحمل أهل المدينة يومياً من بر شرقي إلى آخر غربي يفصل ما بينهما نهر النيل. وفي المدينة نفسها يمكنك أن ترى مهرجاناً من بالونات ملوّنة طائرة تسبح في سماء صافية، ترسم لوحة لن تغادر ذاكرة الزائر.
الرحلة إلى الأقصُر مختلفة. فهي مدينة زئبقية متعدِّدة الأوصاف. إذ يمكن لزائرها أن يعدها موقعاً أثرياً فريداً، أو متحفاً مفتوحاً يضم بعض أشهر آثار العالم. لكن في الوقت نفسه من الصعب اختزالها بهذا الطابع السياحي التي تشتهر به مدن عالمية عديدة أخرى. فالأقصر مدينة تتعدَّد فيها مظاهر الحياة اليومية العادية التي تتسم بها مدن صعيد جمهورية مصر العربية، حيث الأسواق الشعبية، والصناعات والحِرَف التقليدية المتنوِّعة. وصارت الأقصُر شبيهة بفسيفساء يجمع الطابع الفرعوني القديم بمظاهر الحياة الحديثة. وأصبحت مبانيها الأثرية المشيدة على البرَّين الشرقي والغربي من نهر النيل وكأنها كائن حي يمتزج مع غيره من العناصر المحيطة به.
حين تتأمل وجوه أهل الأقصر تدرك ذلك جيداً، فهم يتعاملون مع آثارها كما يتعاملون مع بعضهم. فثَمَّة علاقة ود وراحة و”احترام متبادل”، وكأن حالة من الرضا قد سادت الجميع. ولذا، من يزور الأقصر لا يشعر بأي قدر من الاغتراب أو الملل، ولن يكون مُقيداً دائماً بجدول زياراته باعتباره سائحاً، لأن المدينة تمنحه قدراً من “البراح”، وتُشعره بأنه يضرب بقدميه في عصور سحيقة وهو يقف في مكانه وبيده هاتفه الذكي يسجل به كل لحظة يمر بها.
تقع الأقصر، وهو اسم المدينة الذي أطلقه العرب عليها بعد الفتح الإسلامي لمصر بسبب كثرة قصورها، على بعد 670 كم جنوب العاصمة القاهرة على الضفـة الشرقيــة من نهر النيل. ورغم مساحتها الصغيرة نوعاً ما، إذ تمتد نحو 5 كيلومترات من الشمال إلى الجنوب و1.5 كيلومتر من الشرق إلى الغرب، تُعد بالفعل مخزناً للآثار المصرية بالمعنى الحرفي للكلمة.
مدينتان، واحدة للأحياء وأخرى للأموات
تقع الأقصر، وهو اسم المدينة الذي أطلقه العرب عليها بعد الفتح الإسلامي لمصر بسبب كثرة قصورها، على بعد 670 كم جنوب العاصمة القاهرة على الضفة الشرقية من نهر النيل. ورغم مساحتها الصغيرة نوعاً ما، إذ تمتد نحو 5 كيلومترات من الشمال إلى الجنوب و1.5 كيلومتر من الشرق إلى الغرب، تُعد بالفعل مخزناً للآثار المصرية بالمعنى الحرفي للكلمة. ففي الأقصر كمٌ كبير من آثار مصر، وتتوزَّع معابدها الفرعونية التي بني معظمها من الحجر الرملي على ضفتي النيل. فعلى الضفة الشرقية تقع قصور الملوك والمعابد الدينية مثل الكرنك والأقصر، وكانت تسمى هذه المنطقة بمدينة الأحياء، في مقابل مدينة الأموات، حيث المعابد الجنائزية التي توجد على الضفة الغربية من النهر، ومن أبرزها معبد الرامسيوم ومقابر وادي الملوك والمعبد الجنائزي للملكة حتشبسوت.
من الطبيعي إذاً أن يحضر الزائر عرض الصوت والضوء الذي يقام ليلاً في معبد الكرنك، حيث يسمع صوتاً رخيماً يردد: “التحيات لكم يا من حججتم إلى الصعيد، وتطلعتم إلى الأمجاد في الوادي السعيد، هنا يبدأ التاريخ والكون وليد”. فبناء كل هذه المعابد وقصور الملوك في هذه المنطقة تحديداً التي كانت تعرف في مصر القديمة باسم “واسِت” وقد صارت عاصمة لها في واحدة من أزهى فترات تاريخها، يدل كما يشير المؤرخون على قدر كبير من الرخاء كانت تتمتع به، وهو ما كانت عليه أحوالها على سبيل المثال في عصر الملك تحتمس الثالث (1490-1436 ق.م.) كما يوضِّح شيخ الأثريين المصريين أحمد فخري في كتابه “مصر الفرعونية”. أن هذه المنطقة كانت نقطة التقاء حضارات بلاد الشرق القديم في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، حيث كانت تتدفَّق عليها خيرات إفريقيا وآسيا وجزر البحر الأبيض، وكان يفد إليها كل عام رسل كل البلدان يحملون خيرها، وهذا ما تم تسجيله على جدران معابدها ومقابرها.
ويمكن اعتبار الكرنك الذي يقع شمال المدينة، والذي سمَّاه الإغريق “معبد السماء فوق الأرض” لأن أعمدته تكاد تلمس أطراف السماء، مركز معابدها الدينية بتصميمه المميز. فهو في الواقع ليس معبداً واحداً بل يضم مجموعة متنوِّعة من المعابد شارك في بنائها عدد كبير من الملوك على مر العصور القديمة، كما يوضح د. محمد عبدالقادر محمد في كتابه القيم “آثار الأقصر”. وهي معابد شاهقة، تحبس أنفاس من يمر بين أعمدتها انبهاراً من الطبيعة المعمارية الضخمة التي تتميز بها. وثمَّة طريق تمتد على طوله مجموعة من تماثيل الكباش، يربط بين الكرنك ومعبد آخر من معابد “مدينة الأحياء” هو معبد الأقصر الذي يقع جنوب المدينة. وهذا المعبد بناه أمنحتب الثالث (1397-1360 ق.م.)، ثم لحقته إضافات كثيرة أبرزها ما قام به رمسيس الثاني (1290-1223 ق.م.). ويتميز هذا المعبد هو الآخر بتناسق معماري ذي طابع خاص، من حيث تراص أعمدته التي تتيح توزيعاً قياسياً لضوء النهار وأشعة الشمس لحظتي الشروق والغروب.
ولو أردت أن تترك الضفة الشرقية من نهر النيل، حيث تشرق الشمس لتذهب إلى البر الغربي، حيث المغيب والانطفاء المؤقت للحياة، فستجد هناك متحفاً مفتوحاً آخر، له طبيعة جنائزية بالمعني المجازي والحقيقى للكلمة. فهناك توجد المقابر، وادي الملوك ووادي الملكات، وهناك معابد ضخمة بنيت تخليداً لذكرى أشهر فراعنة زمانهم، كمعبد الرامسيوم الذي يحمل اسم رمسيس الثاني بأعمدته ونقوشه التي تروي قصصاً عن مآثره، وخاصة معركة قادش وانتصاره على الحيثيين نحو عام 1274 ق.م.
النيل مركز المدينة
ثَمَّة زوايا أخرى لرؤية مدينة الأقصر تتصل بشكل وثيق مع عناصر المشهد الأثري الغالب عليها وتتكامل معه ولا تكاد تنفصل عنه.
فهذه المدينة لا تتوقف عن الحركة. فهي تعج بالحياة والأنشطة التجارية بإيقاع يماثل تدفق نهر النيل في تلك المنطقة من مجراه. وتتركز هذه الحركة وسط المدينة على طول الكورنيش الذي صار مؤخراً معلماً من معالم المدن الحديثة، إذ تم تطويره بطول يبلغ 2000 متر. ويكفيك أن تقطع هذه المسافة لتكون قد مررت بمعابد الأقصر والكرنك وأيضاً بمتحف التحنيط المخصص لإبراز فن التحنيط لدى المصريين القدماء.
ويلعب النيل دوراً حيوياً في حياة الأقصر، ويعد مركز المدينة التي تنتظم حياتها حوله. فهو معلم سياحي من معالمها، تنتشر على ضفتيه “الفلوكة” “و”اللنش” و”المراكب الشراعية الصغيرة” وكذلك المراكب الأكبر حجماً التي ينشدها السائحون في رحلة تمتد إلى مدينة أسوان. وهو أيضاً شريان حيوي للمدينة، ينتقل عبره أهلها يومياً من منطقة البر الغربي إلى منطقة البر الشرقي في طريقهم إلى أعمالهم، على متن “المعدّية” النهرية بألوانها الزاهية من درجات الأزرق والأصفر التي تنتشر على هيكلها النقوش الفرعونية. وتعدُّ “المعدّية” وسيلة مواصلات أساسية لا يمكن لسكان الأقصر الاستغناء عنها. ويمكن لهذه المعدّية التي يصل طولها إلى 25 متراً وعرضها 15 متراً أن تنقل نحو 300 راكب في الرحلة الواحدة. وثمّة أكثر من معدّية تعمل طوال اليوم لتلبية تدفق السكان المتزايد على استخدامها.
وهكذا يحضر النيل في حياة الأقصريين بشكل جماليّ باعتباره رافداً من الروافد السياحية، يقصده كل من أراد التنزه والاستمتاع بمشهد المدينة من قلب مياهه، لكنه يقوم كذلك بدور خدمي حيوي بربط سكان قطاع مهم من سكان المدينة من العمالة والموظفين والطلاب بمراكز أشغالهم ومدارسهم.
حين تتأمل وجوه أهل الأقصر تدرك ذلك جيداً، فهم يتعاملون مع آثارها كما يتعاملون مع بعضهم. فثَمَّة علاقة ود وراحة و“احترام متبادل”، وكأن حالة من الرضا قد سادت الجميع.
الحِرَف التقليدية.. سر الصنعة
حين تترك نهر النيل، وتنتقل من جديد إلى البر، قد تمر ببعض البيوت فتجد أهلها وقد جلسوا يشاهدون التلفزيون في الخارج سعياً وراء نسمة هواء. وبعد أن تغادرهم، يمكنك أن تتجه إلى واحد من أهم شوارع الأقصر الرئيسة وهو شارع السوق. ففي هذا الشارع تنتشر المحال والمراكز التجارية التي تعرض منتجات تراثية تشتهر بها المدينة، مثل منتجات الخزف والألباستر. وتنتشر ورش تصنيع هذه المنتجات في الأقصر، وهو أمر مفهوم لارتفاع أعداد العاملين في المجال السياحي من أهلها، ومن أهمها نماذج حديثة لتماثيل فرعونية قديمة وعرائس صغيرة وأدوات طبخ وآنية مختلفة الأشكال والأحجام. وكل هذه المنتجات الحرفية هي على درجة عالية من الإتقان بسبب توارثها من جيل إلى آخر مع الحفاظ على طابعها التقليدي. ولو أردت الاستفسار عن السبب في تميز هذه المنتجات، يُجيبك من يعملون في هذه الحِرَف، خصوصاً كبار السن، بكلمة قصيرة للغاية: “سر الصنعة”.
الإطلالة على الأقصر من الأعلى
ولا يمكن أن تكتمل متعة زائر الأقصر في اكتشافاته للمدينة القديمة إلا بمغامرة يخوضها في الجو، حين يستأجر مع غيره مكاناً في المنطاد، أو البالون الطائر، ليطل من الأعلى، ولمدة ساعة تقريباً، على مشهد فاتن ومُبهر يرى فيه المدينة بأكملها تحته بلا حاجز أو حِجَاب. وتبدو الأقصر من هذا المنطاد كقطع تتراص جنباً إلى جنب لتشكِّل “لقطة كبيرة” مُنْقَطِعُة النَّظِير تجمع كل مفاتن المدينة: النيل والحجر والبشر.
وتخضع رحلات البالون الطائر لوزارة الطيران المدني المصرية، ويقود كل بالون أحد الأفراد المدرَّبين على ما يشبه دورات تدريب قادة الطائرات. فهو لا ينطلق إلى الأعلى إلا بعد شرح مجموعة من التعليمات المرتبطة بطبيعة الرحلة وطريقة عمل البالون من حيث الإقلاع والهبوط.
وتنطلق رحلة البالون الطائر عند الفجر بسبب طبيعة الطقس في ذلك الوقت وحركة الرياح التي تُساعد المنطاد على الارتفاع في الجو، ولكي يستمتع راكبه برؤية الصباح وهو يتنفس في ظل أشعة الشمس الرقيقة التي تزداد قوتها تدريجياً لتملأ الأرجاء بنور تبدأ المدينة سباحتها فيه على مهل.
اترك تعليقاً