مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

الأسر المنتجة

الإبداع في زوايا البيوت

فريق التحرير وشروق المرزوق تصوير: عبدالله الشيخ

أعلنت وزارة الثقافة في المملكة تسمية العام الحالي 2025م “عام الحِرف اليدوية”، تعزيزًا لهذا القطاع لما له من أهمية على المستويين الثقافي والاقتصادي. وكما هو معلوم، تتميَّز الحِرف اليدوية عن غيرها من المنتجات بأنها ثمار عمل على مستوى الأسرة، يختمر بهدوء في زوايا البيوت، ويعتمد في الإنتاج على ممارسات مستدامة، ونقل المهارات الحرفية عبر الأجيال. ويمكن للحِرف اليدوية أن تـنتعش أو أن تـكبو في ظروف وأماكن معيّنة، ولكن من المتفق عليه ثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا أنها تستحق التنمية.


“الأسر المنتجة” مصطلح يُطلق على الأسر التي تسعى إلى توفير جزء من احتياجاتها الخاصة من خلال الاعتماد على المهارات التي تملكها، فتنتج وتبيع ما تصنعه في المنزل بهدف زيادة دخلها ورفع مستوى معيشتها، وهو ما يُبعد عنها شبح العوز، أو الاعتماد على الدخل المحدود لفرد واحد من الأسرة. ويشتمل هذا المفهوم على أنشطة مختلفة، مثل: الحرف اليدوية، والأطعمة، والمشغولات الفنية الأخرى.

وينتشر مصطلح “الأسر المنتجة” أكثر ما ينتشر في بلدان الشرق الأوسط مقارنة بمصطلح “الأعمال المنزلية”، الذي يُستخدم عادةً في مناطق أخرى من العالم. وقد شهد مفهوم الأسر المنتجة في منطقة الخليج العربي تطورًا ملحوظًا على مدى العقود القليلة الماضية، وهو ما يعكس التحوُّلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الأوسع في المنطقة. وتبلور هذا التطور بالتحوُّلات والتدابير الاقتصادية والسياسات الحكومية التي تهدف إلى تمكين الأسر، وخاصة النساء.

تاريخيًا، عملت الأسر، في المقام الأول، بوصفها وحدات ممتدة تعمل في الزراعة أو الحرف اليدوية. وكانت تُسهم في الاقتصادات المحلية من خلال العمل الجماعي. ومع ذلك، أدى التوسع الحضري السريع، منذ أواخر القرن العشرين، إلى الانتقال نحو هياكل الأسرة النووية. وصاحب هذا التحوُّل تغييرات في الأدوار الاقتصادية؛ إذ صارت الأسر تسعى بشكل متزايد إلى مصادر دخل بديلة تتجاوز الوسائل التقليدية.

في السنوات الأخيرة، أدرك كثير من الحكومات في الخليج العربي، ولا سيَّما في المملكة، أهمية الأسر المنتجة في التنمية الاقتصادية، وأولت اهتمامًا خاصًا بهذه الأسر لتشجيعها وتحفيزها وتعزيز إسهاماتها الاقتصادية؛ فكان لها مكانها في “رؤية السعودية 2030” ، التي حددت من بين أهدافها زيادة مساهمة المنشآت الصغيرة والمتوسطة، ومنها الأسر المنتجة، في إجمالي الناتج المحلي من 20% إلى 35%.

 ومن الخطوات البارزة التي اتخذتها الجهات الحكومية في هذا المجال، نقل برنامج الأسر المنتجة وبرنامج التدريب المهني والحرفي للنساء، من وكالة وزارة العمل والتنمية الاجتماعية للضمان الاجتماعي إلى بنك التنمية الاجتماعية، وتخصيص نحو 240 مليون ريال سنويًا لبرنامج الأسر المنتجة، و50 مليون ريال سنويًا لبرنامج التدريب المهني والحرفي، وتأسيس “المركز الوطني للمنشآت العائلية” لبناء منظومة متكاملة لاستدامة المنشآت العائلية وتنميتها، ودعم ما يقارب 165 أسرة مستفيدة، تسترد كل منها نحو 50 ألف ريال من خلال وسطاء التمويل خلال ثلاثة أعوام. وإضافة إلى الدعم الحكومي، اعتمدت شركات ومؤسسات خاصة عدة خيارات لتحفيز الأسر المنتجة.

لا ترتبط أعمال الأسر المنتجة بناطحات السحاب الشاهقة، ولا بالمجمعات التجارية مترامية الأطراف، بل عادةً ما تُنجِز أعمالها في المنازل، بمشاركة من أفراد العائلة، وخاصة النساء، والشباب ذوي المؤهلات التعليمية المتوسطة والمنخفضة، الذين قد يواجهون تحديات في دخول سوق العمل. وغالبًا ما تقود النساء أعمال هذه الأسر، مستغلات مهاراتهن في الحرف اليدوية أو الطبخ لتوليد الدخل مع موازنة المسؤوليات الأسرية.

ونتيجة لذلك، تؤدي هذه المنتجات دورًا مهمًا في تمكين المرأة اقتصاديًا واجتماعيًا؛ إذ توفر لها فرصًا للعمل من المنزل أو في ورش عمل صغيرة، وهو ما يتيح لها التوفيق بين متطلبات الأسرة والعمل. ومع نمو مشاريع الأسر المنتجة، فإنها تخلق فرص عمل للآخرين في مجتمعاتها؛ إذ كثيرًا ما تتطلب أعمال الأسرة الواحدة عمالة إضافية، وهو ما قد يقلل بنسبة مهمة من معدلات البطالة، ويُسهم في خلق سوق عمل أكثر ديناميكية من خلال توفير خيارات عمل مرنة تتوافق مع احتياجات السكان المحليين.

من جهة أخرى، يمتد تأثير ما تنتجه هذه الأسر إلى أبعد من دائرتها المباشرة لتعزز التنمية الاقتصادية المحلية؛ لأنها تحصل على المواد محليًا، وتلبِّي احتياجات الأسواق المحلية. فمن خلال شراء المواد الأساسية من المنتجين القريبين وبيع منتجاتها داخل المجتمع، تحافظ هذه الأسر على تداول الأموال محليًا، فتعمل هذه الممارسة على تعزيز المرونة الاقتصادية وتقليل الاعتماد على الأسواق الخارجية. وعلى سبيل المثال، تعتمد جميع العائلات التي تنتج الحرف اليدوية من الفخار المصنوع يدويًا على توريد الطين من المصنّعين المحليين، ومن ثَمَّ، تعزيز كل من الحرف اليدوية المحلية والاستدامة الاقتصادية. كما تشارك الكثير من الأعمال العائلية الصغيرة في إنتاج الأطعمة والحلويات، بما يدعم المزارعين المحليين والممارسات الزراعية بشكل مباشر. ففي المملكة، تُسهم الأسر المصنِّعة لمنتجات التمور، مثل عصير التمر أو التمور المحشوة، في الحفاظ على الممارسات الزراعية التقليدية مع تعزيز الزراعة المحلية. ولمَّا كانت صناعة التمور تعدُّ حيوية لاقتصاد المملكة، تساعد الأسر العاملة في استدامة هذا القطاع من خلال ضمان زراعة الأصناف التقليدية وتسويقها بشكل فعَّال.

وما تنتجه هذه الأسر من حِرف ومشغولات يدوية عادةً ما يحمل معه قصة شخصية أو مجموعة من المشاعر، ويكون مصنوعًا باهتمام ودقة أكبر؛ فيؤدي إلى تعزيز مكانتها وقدرتها على التميُّز. ومن خلال التركيز على الجودة بدلًا من الكمية، يمكن لهذه الأسر إنشاء أسواق متخصصة لمنتجاتها، التي غالبًا ما تُقدَّر لأصالتها وارتباطها بالتراث الثقافي. وهذا الجانب الاقتصادي حيوي؛ لأنه يشجِّع على استمرار الممارسات التقليدية مع توفير سبل العيش لأفراد تلك الأسر.

الأسر المنتجة مثال حي على ريادة الأعمال، تعمل بهدوء في المنازل، وتعزِّز الاقتصاد المحلي، وتضمن استدامة تقاليد حرفية عريقة.

عندما نتطلع إلى إسهام الأسر المنتجة في المحافظة على التراث الثقافي، نلحظ في الدرجة الأولى أن أكثر ما تشمله نشاطات هذه الأسر هو صناعة الحلويات والأطعمة، ولكنها تتضمن أيضًا أعمال الحياكة والغزل ونسج الصوف، والرسم على القماش، ونقش الحناء، والنحت على الخشب، وصناعة الأدوية العشبية، والبخور والعطور، وصناعة الإكسسوارات المنزلية، وتلوين المرايا الزجاجية، والرسم بأنواعه، وتصميم الأشكال والمجسمات، وتلوين الفخار، والصناديق الخشبية التراثية، وتنسيق الزهور، إضافة إلى الخزفيات والأواني النحاسية.

ونظرًا لأن معظم هذه المنتجات تنضوي تحت الحِرف التقليدية، فغالبًا ما تعمل هذه الوحدات العائلية الصغيرة بوصفها أوصياء على هذه الحِرف والممارسات التقليدية؛ فتحافظ على المهارات والمعرفة التي تنتقل عبر الأجيال. وفي المملكة، يصنع الحرفيون المهرة، في بعض الأسر، سلعًا يدوية تجسد تقنيات وأساليب عمرها قرون. ففي مجال حياكة السدو، وهي حرفة كانت تمارسها في المقام الأول نساء البدو، يكون النتاج منسوجات معقدة تُستخدم لأغراض مختلفة، من العناصر الزخرفية إلى القطع الوظيفية مثل الخيام والوسائد، وهي غالبًا ما تتميز بأنماط هندسية تحكي قصصًا عن البيئة الصحراوية والحياة البدوية. ويمكن لبعض المنتجات من السدو التقليدي أن ترتقي إلى مستوى التحف الفنية التي يدفع الهواة أثمانًا باهظة للاستحواذ عليها.

ومن جهة أخرى، يُعدُّ الطعام جانبًا أساسًا آخر للهوية الثقافية التي تحافظ عليها المؤسسات العائلية الصغيرة. وثمَّة عائلات عديدة متخصصة في المطبخ السعودي التقليدي، وتُقدِّم أطباقًا تقليدية مثل: الكبسة والجريش والحلويات المختلفة المصنوعة من التمور. وتتجذَّر هذه الممارسات في فن الطبخ بعمق في العادات المحلية، وتعكس وفرة الزراعة في المنطقة.

ولأن هذه الأسر تُسهم في إبقاء السرديات الثقافية حية، إضافة إلى دورها المركزي في التمكين الاقتصادي لمجتمعاتها المحلية، ولأن من بين أبرز التحديات التي تواجهها إيجاد أسواق لتصريف أعمالها، استُحدث كثيرٌ من الأنشطة والفعاليات التي تعمل على دعمها وإيجاد أسواق لتساعدها على تصريف منتجاتها. ومن هذه الفعاليات في المملكة، تحويل سوق المواشي في مدينة النعيرية، التي تبعد عن الدمام قرابة 200 كيلومتر، منذ حوالي ثلاثة عقود، إلى سوق للأسر المنتجة لبيع المشغولات اليدوية والسمن البري والأقط، وقد أُطلِق عليه، أخيرًا، اسم “سوق الأسر المنتجة”. كما أُدخلت عليه بعض التنظيمات الحديثة، ليصبح مقصدًا لأكثر من مائـة سيدة، بعضهن تجاوزن الستين من العمر. وتزداد مبيعاتهن خلال فترات الربيع والشتاء، وكذلك خلال مهرجان النعيرية الصيفي السنوي.

وإلى ذلك، هناك معرض “صنعتي”، الذي يُنظَّم سنويًا في المنطقة الشرقية من المملكة، ويُعدُّ منصة مثالية لعرض المنتجات المحلية وإبراز جوانب من التراث الثقافي السعودي؛ إذ يُسهم في تعزيز الهوية الوطنية ويعكس التنوع الثقافي للبلاد. أمَّا هدفه الأساس، فهو تطوير الأسر المنتجة وأصحاب الحرف اليدوية وتأهيلهم من خلال توفير فرص تسويقية لهم، وتعريف الجمهور بمنتجاتهم. كما يسعى إلى تشجيع هذه الأسر على تأسيس مشاريعها الخاصة وتحقيق دخل مستدام. ويشكِّل هذا المعرض منصة للتواصل المباشر بين المنتجين والجمهور، وهو ما يساعد على استمرارية أعمالهم. وخلال عام 2023م، شارك في المعرض نحو 300 أسرة منتجة و25 جمعية أهلية، وهو ما يدل على التنوُّع الكبير في المنتجات المعروضة التي شملت الحرف اليدوية، والأزياء، والعطور، والمشروبات التقليدية.

ومن ناحية الجهات غير الرسمية، فتجدر الإشارة إلى شركة “المائة الأولى” (Top100)، وهي شركة متخصصة لأنشطة الأسر المنتجة، أنشئت عام 2020م، وذات مهمة اجتماعية واضحة، تهتم بالأسر التي تبيع المأكولات والأعمال الإبداعية، إلى جانب حماية كثير من العادات والمهارات والتحف الفنية. وقد تأسَّست هذه الشركة انطلاقًا من تلمّس الاحتياجات، وأهمية الاستثمار في الموارد المتاحة بالمملكة، ودمجه بالتقنية وتفعيل التطبيقات الإلكترونية لتيسير عمليات الإنتاج وتمكينها. وتهدف أيضًا إلى بناء مؤشر للصحة، وزيادة متوسط العمر المتوقع للفرد، وتنمية دخل الأسرة على المدى الطويل، وتحسين مستويات المعيشة، وتحفيز جانب ريادة الأعمال.

كما لا تفوتنا الإشارة إلى مركز “جنى”، الذي تأسَّس عام 2010م في المملكة، وهو عبارة عن مشروع اقتصادي اجتماعي يُقدِّم خدمات القروض الحسنة للسيدات لإنشاء مشاريع تجارية تضمن تحسين مداخيلهن المادية، وتُحقِّق لهن موقعًا أكثر فعاليّة في المجتمع.

فإذا كانت الأسر المنتجة تدعم الحِرف المحلية وتحافظ على الهوية الثقافية، وتعزِّز الاقتصادات المحلية، والاستدامة، والروابط المجتمعية، وتشجِّع الإبداع، فضلًا عن أنها تغذِّي الشعور بالانتماء، وتُعدُّ مثالًا حيًا على ريادة الأعمال؛ فليس من المستغرب أن تُولَى كل هذا الاهتمام، وأن يُحتفى بها، ولو بطريقة غير مباشرة، عند الاحتفاء بالحرف اليدوية في المملكة عام 2025م.


مقالات ذات صلة

شانغريلا؛ صينية بقدر ما هي تبتية. وعاء تمتزج فيه ثقافات شرقية عدة لتكون نسيجًا وحدَها في خريطة الصين المتنوعة بتنوع إثنياتها وتراثها.

مدينة نوردهافن أول مدينة في العالم يمكن الوصول إلى جميع المرافق فيها في غضون 5 دقائق.

“أيام مثالية” هو عنوان الفيلم الأخير للمخرج فيم فندرز، الذي يعرض بهدوء وكلام قليل تفاصيل حياة الشخصية الرئيسة هيراياما، بخاصة روتينه الصباحي وما يليه


0 تعليقات على “الأسر المنتجة.. الإبداع في زوايا البيوت”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *