مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير - فبراير 2023

بعد الأبجدية والعلوم الدينية

الأدب الهندي المعاصر ينفتح على اللغة العربية


د. صهيب عالم

ما بين الهند والبلاد العربية صلات تجارية وثقافية ودينية عريقة. فبعدما كان العرب قد تعرفوا منذ العصر الجاهلي على بعض المفردات الهندية واستخدموها في لغتهم وما كانوا ينظمونه من أشعارهم، اتخذ هذا التبادل الثقافي واللغوي منعطفًا تاريخيًا بوصول الإسلام إلى شبه القارة الهندية، حتى أصبحت اللغة العربية مكوّنًا بارزًا من المكوّنات الرئيسة للثقافة الهندية بشكل عام. وعلى مدى أكثر من عشرة قرون من الزمن، ورغم تبدل العهود السياسية من عصر السلطنات وحتى استقلال الهند في القرن العشرين، مرورًا بإمبراطورية المغول وفترة الاستعمار البريطاني، كانت العلوم الدينية الوعاء الذي حفظ اللغة العربية بوصفها لغة القرآن الكريم. غير أن حضور العربية في الهند بدأ يسلك في السنوات الأخيرة منعطفًا جديدًا، يتمثل في ازدياد الاهتمام بدراستها حتى خارج العلوم الدينية، وصولًا إلى استخدامها في الأدب الهندي المعاصر.

مسجد شيرامان جمعة، أول مسجد بُني في الهند.

بعد العلاقات التجارية ما بين العرب والهند التي تعود إلى ما قبل الإسلام، والتي اقتصرت في مفاعيلها اللغوية على تبادل بعض المفردات السنسكريتية والعربية، شهد عصر السلطنات في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين تطورين حضاريين ضخمين: أولهما، بدء دراسة اللغة العربية اللازمة لدراسة العلوم الدينية، وثانيهما رواج كبير للأبجدية العربية التي وصلت إلى الهند عن طريق اللغة الفارسية على أيدي الغوريين والغزنويين.

ومنذ ذلك العصر، استمر تغلغل اللغة العربية في الثقافة الهندية من دون انقطاع، وعززه تدفق العلماء والتجّار العرب إلى الهند، واستيطان كثيرين منهم في ماليبار وغوجرات ودكّن، وهذه الأخيرة هي الاسم الذي يُطلق على كل المنطقة الجنوبية من الهند؛ وقد تحدث ابن بطوطة عن وجود هذه الجاليات خلال رحلته إلى الهند. وساهم هذا التغلغل في نشوء لغة جديدة تطورت ببطء في عصر الإمبراطورية المغولية، هي الأوردية التي تُكتب بالأبجدية العربية، والحافلة بمفردات عربية يلاحظ المرء أنها في معظمها من المفردات الواردة في القرآن الكريم. والأوردية هي اليوم واحدة من 22 لغة يعترف بها دستور الهند، كما أنها اللغة الرسمية في 6 ولايات هندية.

ولكن ماذا عن اللغة العربية الخالصة؟

الشيخ عبدالعزيز الميمني، أحد الأعلام الذين وفدوا إلى الهند في القرن الحادي عشر الهجري وما بعده، وأسهموا في خدمة اللغة العربية هناك.

أعلام اللغة وأهل الفقه والحديث في الهند

اشتهرت غوجرات ودكّن برعاية العلوم العربية والإسلامية، ولا سيما دراسة وتدريس الحديث النبوي الشريف. ومن أبرز العلماء في هذا المجال: الشيخ بدر الدين محمد أبي بكر الدماميني المالكي، والشيخ جلال الدين بن محمد المالكي (المتوفى عام 1522م)، ومجد الدين الإيجي، وابن فهد المكي وغيرهم.

واستمرت البعثات العلمية تفد إلى غوجرات ودكّن طوال الحكم الإسلامي. ومن الأعلام الذين وفدوا إلى الهند في القرن الحادي عشر الهجري وما بعده: الشيخ عبدالقادر العيدروس، صاحب “النور السافر”، والسيد علي بن معصوم الشاعر الأديب صاحب “سلافة العصر” (المتوفى سنة 1117هـ)، والحكيم محمد مؤمن الجزائري (المتوفى سنة 1118هـ)، ومحمد علي الفاروقي التهانوي، صاحب “كشاف اصطلاحات الفنون”، والشيخ ولي الله الدهلوي صاحب “حجة الله البالغة”، والقاضي عبد رب النبي الأحمد نكري، صاحب “دستور العلماء في تعريف العلوم والفنون”، والأديب المؤلف أبو بكر محسن بن محسن باعبود صاحب “المقامات الهندية” على نهج مقامات الحريري، والشاعر المؤرخ غلام علي آزاد البلكرامي صاحب كتاب “سبحة المرجان في آثار هندوستان”، والأديب العربي باقر بن مرتضى المدراسي صاحب “مقامات هندية”، والعالم الشهير الشيخ عبدالعزيز الدهلوي، والشيخ عبدالعزيز الميمني، والمفسر عبدالحميد الفراهي، والداعية العالم أبو الحسن علي الندوي، وغيرهم ممن قاموا بدور رائد في نشر اللغة العربية وترويجها في هذه البلاد.

ويُستدل من هذا على أن العلوم الدينية هي التي حفظت اللغة العربية ونمت بوجودها في الهند، وهي اللغة التي لم تكن يومًا لغة بلاط حاكم، ولا محكية في أوساط عامة الشعب. غير أن الحكام على اختلاف عهودهم دعموا هذه العلوم والمدارس التي تدرّسها، حتى استقلال الهند عام 1947م وما بعده. وما زالت الحكومة الهندية تدعم تعليم اللغة العربية، التي تبوأت مكانة رفيعة في الدوائر التعليمية والبحثية، كما منحت الحكومة الهندية المسلمين الهنود الحرية الكاملة لإنشاء المدارس الأهلية (الدينية)، والمعاهد التعليميّة العالية بأنفسهم.

الجامعة الملية الإسلامية، إحدى روافد العربية في شبه القارة الهندية.

التعليم الجامعي للعربية

تُدرَّس اللغة العربية وآدابها الآن في نحو 40 جامعة من الجامعات الحكومية والخاصة، وفي مئات من الكليات الحكومية والخاصة في جميع أنحاء الهند. وتحتل مكانة الصدارة في تعليم اللغة العربية في الهند مجموعة من الجامعات، من أبرزها وأنشطها في هذا المجال الجامعة المليّة الإسلاميّة في نيودلهي، وجامعة دلهي، وجامعة جواهر لال نهرو، وجامعة علي كره الإسلامية في مدينة علي كره، وجامعة كشمير في مدينة سرينغار، وجامعة هندو في بنارس، والجامعة العثمانية في حيدر آباد، وجامعة مدراس، وجامعة كاليكوت.

وتمنح هذه الجامعات شهادات من مستويات مختلفة في اللغة العربية، مثل البكالوريوس والماجستير، والماجستير ما قبل الدكتوراه، والدكتوراه. وفيها فصول مسائية تقدِّم الدبلومات الابتدائية للغة العربية، ودبلومات اللغة العربية والترجمة، والدبلومات المتقدمة في اللغة العربية والترجمة. كما تقدّم جامعة إنديرا غاندي المفتوحة دورات في تعليم اللغة العربية لمراحل الدبلوم والماجستير والدكتوراه. إلى جانب ذلك، تتولى وزارة الدفاع الهندية تعليم اللغة العربية في مدرستها الخاصة المعروفة بمدرسة اللغات الأجنبية، حيث تجذب هذه المدرسة كثيرًا من الطلاب المسلمين وغيرهم.

ووفقًا لأرقام العام الدراسي 2020-2021م، وصل عدد طلاب العربية في الجامعات المركزية والإقليمية إلى 2221 طالبًا في مرحلة البكالوريوس، و1110 في الماجستير، و840 في الماجستير العالي، و840 في مرحلة الدكتوراه، و895 في الدبلوم الابتدائي، و438 في الدبلوم، و210 في الدبلوم العالي، أما عدد الأساتذة فهو 147 تقريبًا. فيما يصل العدد في المدارس الإسلامية إلى 40232 طالبًا و1543 أستاذًا.

100 ألف هندي يتقنون العربية

يزداد عدد الأشخاص الذين اختاروا اللغة العربية كلغة أم سنة بعد سنة؛ إذ تشير الإحصائيات الحكومية التي أُجريت بعد استقلال الهند في عام 1961م، إلى أن عدد الأفراد الذين اختاروا اللغة العربية كلغة أم بلغ فقط 17840 شخصًا آنذاك، ثم ازداد في عام 1991م، وبلغ 22000 شخص.

لكن الإحصائيات التي قامت بها الحكومة الهندية في عام 2011م تشير إلى زيادة كبيرة جدًا، بلغت نسبتها %130 مقارنة بالعام 1991م، و%300 مقارنة بالعام 1961م، إذ بلغ عدد الذين يعتبرون اللغة العربية لغتهم الأم 54947 شخصًا. وإذا جمعنا إلى هذا العدد أعداد الأساتذة والطلاب في المدارس الإسلامية والجامعات الحكومية فسيتجاوز المجموع الكلي لهم 100 ألف شخص. وتؤكد هذه الأعداد ازدياد اهتمام الهنود باللغة العربية وإقبالهم عليها في بلد غير عربي، حيث لا هي لغة رسمية ولا لغة شعبية.

الترجمة من العربية وإليها

أسهم خريجو الجامعات الهندية في مجال الترجمة والصحافة، ونقلوا عددًا ضخمًا من الكتب الهندية باللغات الأوردية والهندية والإنجليزية والفارسية والمليبارية والتاميلية والبنغالية وغيرها إلى اللغة العربية وبالعكس، وشملت مواضيعها العلوم الدينية والسياسة والثقافة والاجتماع والقصص والمسرحيات والروايات. كما أصدر بعضهم مجلات باللغة العربية في الهند مثل: “ثقافة الهند”، و”البعث الإسلامي”، و”مجلة الهند” و”التلميذ”، و”الجيل الجديد”، و”العاصمة”، و”كاليكوت”، و”الدراسات العربية”، وغيرها.

ظهور الأدب العربي الإبداعي في الهند

مقالات فقصص قصيرة فروايات

لا تعتبر الكتابات الهندية باللغة العربية عبر القرون أدبًا إلا إذا كان في معناه العام، الذي يشمل جميع العلوم والفنون التي ينتجها العقل الإنساني، بما فيها علوم الدين والشريعة، وعلوم اللغة والأدب، أو كل نثر حرره الكاتب في موضوع ما باللغة العربية؛ وذلك لأن الهنود لم يكتبوا سابقًا بالعربية ما يُعتبر أدبًا خالصًا أو ما يغلب عليه الطابع الأدبي فنًا. فتاريخيًا، كانت الكتابات الهندية باللغة العربية تخلو تمامًا مما يعتبره النقاد في العصر الراهن فنًا جميلًا. لكن القرن الحادي والعشرين يبشر ببداية عهد جديد في الهند.

وقد برزت في القرن الحادي والعشرين أسماء أدباء شبان هنود في كتابة القصص القصيرة والروايات والمسرحيات مباشرة باللغة العربية. ومن الممكن أن يقال إن النثر العربي في معناه الحديث بدأ يُنتج في الهند، ومن المؤمل أن يكون هذا النتاج جزءًا من النثر العربي المنتج في البلدان العربية في المستقبل القريب.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الشباب الهنود بدؤوا بترجمة الروايات والقصص القصيرة في الهند لتغطية النقص الذي حصل في فترات ماضية، إذ ترجموا بعض الأعمال الأدبية المعروفة عالميًا، مثل ترجمة محمد عفان لمجموعة القصص التي نُشرت بعنوان “دوائر السحب”، والتي ألفتها كريشنا سوبتي، وكذلك ترجمة الأستاذ الدكتور مجيب الرحمن لرواية شهيرة بعنوان “نهر من النار” للروائية قرة العين حيدر، من اللغة الأوردية إلى اللغة العربية والتي نشرتها هيئة الثقافة والسياحة في أبو ظبي.

وبذل الأساتذة الهنود جهودًا ملحوظة لنقل القصص القصيرة والروايات والمسرحيات الهندية التي أُلفت باللغات الهندية إلى اللغة العربية وبالعكس. ولا شك في أن الترجمة العربية للقصص الهندية هي اللبنة الأولى لإنتاج أعمال إبداعية جديدة في الهند، مثلما حدثت الثورة الأدبية في مصر بفعل الترجمة بعد الحملة الفرنسية عليها.

ومن المناسب هنا أن نذكر أسماء بعض الأدباء الهنود المبدعين، مثل محسن عتيق خان، الذي كتب قصصًا عديدة باللغة العربية، ونُشرت له مجموعة قصصية بعنوان: “مسلوب الكرامة” في جمهورية مصر العربية في ديسمبر عام 2020م، حيث تقع هذه المجموعة في 114 صفحة من القطع المتوسط. والجدير بالذكر أن هذه المجموعة القصصية فازت في مسابقة دورة النشر الدولية لعام 2020م، التي أجرتها المكتبة العربية للنشر والتوزيع بمصر. كما نُشرت المكتبة نفسها في مصر مجموعة قصصية بعنوان “اليوم تبسمت”، للدكتور محمد شافعي الوافي، فحازت استحسان عدد من النقاد العرب.

وهناك محمود عاصم، الذي كتب قصة قصيرة بعنوان “لقاء افتراضي”، ومحمد ريحان الندوي، الذي كتب “الكتاب يشكو”. وقبل هؤلاء الشباب المبدعين، ألّف سيد احتشام أحمد الندوي قصصًا عديدة باللغة العربية.

أما على مستوى الرواية، فيبدو أن بعض الأقلام بدأت رحلتها، وإن كانت لا تزال في بداية الطريق، فقد أنتج الشباب الهنود روايات هندية باللغة العربية، ومنها: رواية “أحلام ضائعة” لحامد رضا، الصادرة عن مؤسسة بيان للترجمة والنشر والتوزيع في القاهرة، في 304 صفحات من القطع المتوسط، وتضم هذه الرواية مقدمة شاملة بقلم الناقد الدكتور طارق النعمان، من جامعة القاهرة. وهناك أيضًا رواية “الصراع بين العشيقة والزوجة” للأستاذ احتشام الندوي، التي سجلت حضورًا لافتًا في وقت سابق.

وبشكل عام، يمكننا القول إن ظهور أدب هندي معاصر مكتوب باللغة العربية يشكل فصلًا جديدًا من فصول حضور اللغة العربية في الهند؛ وهو حضورٌ نمت جذوره قبل أكثر من ألف سنة، وتقلّبت أحواله بتقلب الظروف، ولكنه لم يغب يومًا عن شبه القارة الهندية. وما يبعث على التفاؤل بمستقبل الإضافات الإبداعية الجديدة لهذه اللغة في الهند هو التراث العربي والإسلامي المتراكم في مكتباتها العامة، التي تبزّ أشهر مكتبات العالم بما تكتنزه من مخطوطات عربية وإسلامية، بالإضافة طبعًا إلى التعليم والإقبال المتزايد على دراسة العربية.


مقالات ذات صلة

خلف هذه المنشآت الرياضية الباهرة، تتكشف قصة أعمق تتعلق بالتخطيط الحضري وفنون العمارة وصناعة المكان. إذ إن الفعاليات الرياضية، حتى إن لم تصل في ضخامتها إلى مستوى الألعاب الأولمبية، تحفّز تحولات عمرانية كبيرة، وتُثير تساؤلات مهمة حول دورها في تطور المدن وعمرانها.

وعينا ومشاعرنا تشكلت من خلال التفاعل الحقيقي مع الطبيعة، وأن الابتكارات التكنولوجية وُلدت من تجارب حية مع العالم الطبيعي..

موسكو مدينة تترك بصمة لا تُنسى على زوَّارها. مدينة نابضة بالحياة، نظيفة، آمنة، ودودة، وتستقبل العائلات والسيَّاح بحرارة.


0 تعليقات على “الأدب الهندي المعاصر ينفتح على اللغة العربية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *