الحديث عن احتضار الكوميديا التقليدية، في مقال “هل ماتت الكوميديا ” ، الذي نشرته مجلة القافلة في العدد 705 (يوليو-أغسطس 2024م) قادني إلى التفكير في مسألة الأجناس الفنية. وفي كل مرة أكتب حول التصنيف الأدبي والأجناس الفنية، مثل أسباب غياب الخيال العلمي في السينما العربية، أجدني مضطرًا إلى الحديث عن “الأجناس” أساسًا. وما لا أستطيع تجاوزه في الأصل، هو هلامية مفهوم التصنيف الأدبي نفسه للمادة الفنية، وعلى مستويات عدة.
أولًا، لا بدَّ من أن نتعاطى مع “الأجناس” على أنها مبوَّبات اعتباطية لا جوهرية. صحيح أن هناك مدونة سينمائية ضخمة نستطيع من خلالها إنتاج تبويب قائم على هذه التصنيفات (مثل الأكشن والرعب والرومانسية… إلخ)، إلا أنه من السهل أيضًا استخدام المدونة نفسها لتقديم تصنيفات مختلفة للأفلام نفسها (مثل نوار أو دراما نفسية… إلخ)، وهذا ما حدث مع مرور الزمن. إذ بِتنا نرى تصنيفات لم نسمع بها من قبل. إضافةً إلى ذلك، فإن المبدعين الجدد قادرون على اجتراح أجناس جديدة غير موجودة سابقًا.
إن التصنيف الأدبي مرتبط بشكل رئيس حول ما يستثيره من مشاعر لدى المتلقي. ولكن، هل هناك حد فاصل وعازل بين الأجناس الفنية؟ هل الكوميديا والرعب والرومانسية والتشويق تحفز لدى المتلقي مشاعر السعادة والخوف والحب والتوتر بشكل منفصل تمامًا عن المشاعر الأخرى؟
يُسهم فهم مدى تعقيد المشاعر لدى الإنسان في توظيف “الأجناس” في الأعمال الفنية بشكل أفضل، ومن ثَمَّ، توليد هذه المشاعر على نحو غزير ومؤثر. أمَّا الفهم المباشر للمشاعر والأجناس الفنية، فيؤدي بصانع الفيلم إلى الربط المباشر بين المشاعر من جهة، والحدث واللغتين البصرية والسمعية من جهــة أخرى، ويجعل حضور المشاعر في الفيلم باهتًا ومملًّا.
علاقة الموسيقى بالمشهد مثلًا؛ يغيب عن بعض صنَّاع الأفلام أن تضاد المشاعر داخل المؤثرات البصرية أو السمعية، إذا ما وُظّفت بشكل سليم، يؤدي إلى تعميق أحد هذه المشاعر. فإضافة الكوميديا إلى الحدث الحزين قد يخلق كوميديا سوداء، كما بات شائعًا في إحدى المراحل. ولكن في حالات أخرى يخلق حالة حزينة جدًا تتجاوز سخرية الكوميديا السوداء. أتذكر مشهدًا في مسلسل بعنوان “غدًا نلتقي” تظهر فيه الممثلة السورية كاريس بشار، وهي تجلس أمام قبر والدتها، وتبوح بوحدتها وتتحدث عن تفاصيل يومها البسيط. فجأة، تبدأ الموسيقى التصويرية على آلة الأكورديون بلحن سعيد يجعل المشهد أكثر حزنًا.
المشاعر الإنسانية مُعقدة جدًا. دخول موسيقى الفرح في مشهد حزين قد يُوحي بوجود أمل. ولكن حالما نستبصر أن الأمل غير ممكن، يصبح المشهد فجأة محزنًا على نحو مختلف وأعمق؛ إذ بِتنا لا نتعاطف مع حزن البطل فقط، وإنما نشعر بإحباطه وانسداد السُّبل في وجهه، وأن ما نشعر به من فرح في هذه الموسيقى هو مما لا يطوله البطل الذي نتعاطف معه. والأمثلة كثيرة على امتزاج المشاعر في العمل الفني مما يتحدَّى فكرة التصنيف الأدبي الواحد أساسًا.
ربَّما لا تكون شركات الإنتاج الكبرى مهتمة بهذا النوع من التجريب في الأجناس؛ إذ يتطلب ذلك فريقًا بحثيًا يختبر أنماطًا سردية حديثة، ويُعايرها بجميع البيانات المطروحة سلفًا ويتأكد من رواجها، وكل ذلك يتعارض مع خط الإنتاج المعتاد القائم على قدم وساق في شركات الإنتاج الكبرى هذه. فالأسلم بالنسبة إليها هو الالتزام بخطوط الحبك المعتادة والأجناس نفسها. وعلى ذلك، فإن الشركات الصغيرة والمنتجين المستقلين يجدون في مثل هذه الأنماط من التجريب فرصة مُغرية؛ إذ إنها لا تمتلك ميزانيات تُمكِّنها من إنتاج كثير من الأعمال سنويًا وتحقيق الأرباح وفق الأنماط السردية والأجناس المعروفة، إلا أن حافز المخاطرة لديها أعلى، وترى فرصة استثمارية مُغرية في التجريب وخلق خط جديد لها.
لنا أن نتخيل ما يُمكن أن يقوم به صانع العمل عندما يجرِّب اللعب على هذه الأجناس واختبار ما يمكن أن ينتج عنه، ومن ثَمَّ، يبحث خياراته البصرية والسمعية، بل حتى قبل ذلك أثناء كتابة السيناريو. كل ذلك ونحن نتناول التصنيف عبر بوابة المشاعر من دون الأخذ بالاعتبار أن موضوع الفيلم هو أحد أركان تحديد الجنس الفني للعمل، خصوصًا إذا ما استعنَّا بموضوعات الدراسات الثقافية. فهناك الأفلام النسوية، وأفلام جماعات الهامش المجتمعية، وأفلام الاستعمار، وغيرها من الموضوعات التي باتت من كلاسيكيات الدراسات الثقافية الأكاديمية. صحيح أنه لم تجرِ العادة بعدُ على تصنيف الأفلام عبر هذه الموضوعات بشكل رسمي في المواقع والمنصات السينمائية، ولكنها باتت حتمية تصنيفية في نقاشاتنا حول السينما.
فهل تكون الكوميديا النسوية مشابهة للكوميديا الأخرى؟ ماذا لو كانت الكوميديا النسوية هذه بمسحة حزينة، فكيف ستختلف عما اعتدناه من كوميديا سوداء؟ كيف سيتضخم الحزن عند مقابلته بالفرح في حبكة الفيلم النسوي؟ وكيف ستؤثر العوامل البصرية والسمعية في ذلك؟ نرى أن الخيارات لا سقف لها، وأن صانع الفيلم المبدع هو القادر على اجتراح مختلف القصص والموضوعات وصبِّها في شكل فني وبصري وسمعي غير مسبوق، يتحدَّى ما هو معروف وسائد من الأجناس الفنية.
اترك تعليقاً