الأبحاث الجديدة قد تنسف النظريات السائدة
يتحدى ما يكتشفه العلم حديثًا حول منظور الحيوان، تصورنا الراسخ للعالم من حولنا. فقد كنا نعتقد أن العالم كما نتصوره وندركه بحواسنا هو كل الواقع. بيد أن ما بات يتكشّف عن حقيقة الواقع حولنا يُفنِّد هذا الظن المحدود من التفكير، وهذا ما تؤكده عالمة الحيوان “جاكي هيغنز” من جامعة “أكسفورد” إذ تقول: “إن ما نفكر فيه على أنه واقع هو مجرد انعكاس لما تكتشفه حواسنا، وما هذا إلا جزء صغير، بشكل صادم، من الواقع المحيط”. وفي المقابل، عندما نعلم مقدار ما يدركه كثير من الحيوانات ولا ندركه نحن، سينكشف لنا عالم جديد واسع ومذهل ومختلف عما نظن به ونعهده.
إن الصورة التي قدَّمتها لنا القصص التي يتكلم فيها الإنسان على لسان الحيوانات، أو قصص الأطفال، وأفلام الكرتون وغيرها، إنما هي صورتنا التي أسقطناها على هذه المخلوقات، فيما ظلت الأبحاث العلمية. محصورة بتخصصات العلوم الطبيعية البيولوجية، وبقيت تلك التي تتعلق بما تدركه الحيوانات على قلتها خارج السياق العام للاهتمام العلمي. في الآونة الأخيرة، تغيرت تلك المفاهيم على نحو ما ذكرته الباحثة في التاريخ الطبيعي “هارييت فيترو” من جامعة “إم آي تي”، إذ تقول: “انتقل موضوع الحيوان، على مدى الثلاثين سنة الماضية، من هوامش التاريخ إلى مركزه”.
وجهة النظر التاريخيّة
كان لدى الفلاسفة فهمٌ للإدراك الحيوانيّ مختلفٌ عن فهم عامة الناس. ووفقًا لبحث نشرته مجلة “ساينس دايركت” العلمية (Science Direct) في أكتوبر 2006م، كان النهج السائد بين الفلاسفة، بدءًا من العصور القديمة وحتى عصر النهضة، حول الإدراك الحيواني هو أن الحيوانات ليس لديها وعي، وأنها مدفوعة في المقام الأول بحافز الغريزة.
أما في المنطقة العربية، فقد زخر العصر العباسي الأول بكتب كثيرة عن الحيوان، وذلك في محاولة لمجاراة فلاسفة اليونان، مثل كتب الأصمعي، وأبي قتيبة، وابن الأعرابي، وغيرهم الكثير. كما ظهرت في تلك الفترة أيضًا ترجمة عربية لكتاب “كليلة ودمنة” الذي استخدمت فيه الحيوانات والطيـور رموزًا لشخصيات بشرية. لكن جميع هذه الكتب لم تؤلَّف لأغراض علمية، ولم تبحث في طبائع الحيوان، بل كانت لأغراض لغوية وأدبية وسياسية.
في فترة لاحقة من العصر العباسي، ظهر كتاب “الحيوان” للجاحظ (م869-776)، الذي يُعدُّ أول كتاب عربي علمي عن الحيوان. وتقول شبكة “بي بي سي” في تحقيق نشر في 1 مارس 2019م عنوانه “الجاحظ المفكر المسلم الذي اكتشف التطور قبل داروين بألف عام”: إن الجاحظ كتب عن كيفية تغير الحيوان عبر ما سماه الانتقاء الطبيعي”، إذ يقول في كتابه: “إن الحيوانات تشتبك في صراع على البقاء والموارد حتى تتكاثر وحتى لا تفترسها حيوانات أخرى، وأن عوامل بيئية تساعد الكائنات على تطوير سمات جديدة لضمان البقاء، وبهذا تتحول إلى أنواع أخرى”. لكن المؤلف لا يبحث في مسألة الإحساس، أي فهم المنبهات الحسية التي هي شرط ما قبل الإدراك عند الحيوان، مثله مثل كل الباحثين الآخرين حتى الحقبة الحالية، مع أنه وفي أماكن متفرقة من الكتاب يلامس أحيانًا الموضوع من دون أن يلج فيه.
أما في العصور الوسطى لأوروبا، ووفقًا لمقال نُشر في مجلة “المكتبة المفتوحة للعلوم الإنسانيّة” في فبراير 2019م، فقد كانت فكرة وجود وعي لدى الحيوانات فكرة مقبولة على نطاق واسع بين الناس العاديين طوال تلك الفترة، وامتدت خلال عصر النهضة الأوروبية. كما كان سائدًا حتى لدى الفلاسفة أن للحيوانات مشاعر تشبه المشاعر الإنسانية، فكان يُنظَر إلى الحيوانات على أنها مخلوقات حسّاسة. ومع ذلك حتى بعض أشهر المفكّرين في فترة ما بعد عصر النهضة، مثل رينيه ديكارت وإيمانويل كانط، ظلوا متمسّكين بفكرة عدم الوعي لدى الحيوانات، فصاغ “ديكارت” مصطلح “أوتوماتا” (Automata) السيئ السمعة، مفترضًا أن الحيوانات مدفوعة حصريًا بعواطف لا واعية. تطوَّر الأمر خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حينما أصبح الأمر مقبولًا لدى عديد من الفلاسفة، مثل ديفيد هيوم وجيريمي بنثام، إذ تم اكتشاف أن الحيوانات قادرة على التفكير، وصار يُعتقَد أن الحيوانات يمكن أن تتعلم من التجارب السابقة، وتشعر بالخوف في مواجهة المعاناة الوشيكة.
لاحقًا في القرن التاسع عشر الميلادي، تعزَّزَت فكرة الضمير الحيوانيّ وأنه مشابه للوعي البشريّ، فعندما قارن الطبيب البيطري الإنجليزي والمدافع عن رفاهية الحيوان “ويليام يوات” بين الوعي الحيوانيّ وذاك البشريّ، كتب: “الفرق بينهما في واحدة من أهم النقاط، هو فرقٌ في الدرجة لا في النوع”. وفي القرن العشرين، تراجع الفهم العلمي للوعي الحيوانيّ خطوة إلى الوراء، إلى زمن ما قبل عصر النهضة، إذ كان النهج السائد لدراسة علم النفس البشريّ والحيوانيّ في ذلك الوقت هو السلوكيّة، وقد تجاهل هذا النهج فكرة الوعي على أنها فرضية غير علميّة، ولم يحتفل كثيرًا بمفاهيم مثل الإحساس والعاطفة والإدراك وحتى التفكير. ولم يَستكِن النهج السلوكي إلا في النصف الأخير من القرن العشرين، حين عاود الاهتمام العلمي بإحساس الحيوان، نشاطه مرة أخرى، وأظهرت الأبحاث الجديدة التي صدرت آنذاك أن الاعتناء بالحيوان كان مرتبطًا ارتباطًا معقدًا بمشاعره الذاتيّة، لا بالاستجابة الفيزيائيّة الخالصة للمنبهات، مما يعني أن أي دراسة للإحساس لدى الحيوانات يفترض أن تأخذ في الحسبان العامل الذاتيّ للحالة العقليّة لكلٍّ على حدة، وهذا بدوره يجعل مهمة إثبات الإحساس في أي مخلوق، سواء كان حيوانًا أم إنسانًا، شبه مستحيلة.
الدراسة الحديثة للإدراك الحيوانيّ
عند دراسة الإدراك الحيوانيّ، قد تكون مُغرية مقارنةُ القدرات المعرفيّة لدى الحيوانات بالقدرات لدى البشر، لكن لدى علماء العصر الحديث نهجٌ مختلف حول هذه القضية. فعلى سبيل المثال، ترى ورقة علميّة نُشِرت في “مكتبة الطب الوطنيّة”، في سبتمبر 2020م، تشير إلى أنه ليس ثَمَّة نوع واحد من الإدراك، وعلى الرغم من أن أدمغة عديد من الحيوانات المختلفة تشترك في أوجه تشابه مع أدمغة البشر، إلا أن جميع الأنواع متخصّصة في مهامّ مختلفة، لذلك فإن مقارنة الذكاء الحيوانيّ جملة بالذكاء البشريّ غير دقيقة، وثَمَّة حاجة إلى نهج أدقّ يقارن القدرات الفكريّة المحددة عند نوع واحد بالقدرات المماثلة عند نوعٍ آخر. في بعض النواحي تُظهر بعض أنواع الحيوان قدراتٍ فكريةً تتجاوز بكثير أي شيء يمكن للبشر تحقيقه. فوفقًا لمقال نشرته “ساينتفك أمريكان”، في سبتمبر 2014م، لدى بعض الحيوانات ذاكرة فوتوغرافية، إذ يُمكن لأسود البحر التعرف على الوجوه البشريّة بعد عقود من رؤيتها، في حين أن لدى الشمبانزي ذاكرة قصيرة المدى غير عادية.
لقد أجرى باحثون من جامعة طوكيو تجربة أظهروا فيها للشمبانزي أعدادًا من واحد إلى تسعة متناثرة على شاشة رقميّة. كان يُفترَض بالحيوان الذي عُلِّم طريقة العدّ أن يحفظ سلفًا مواقع الأعداد، ثم كان عليه، بعد إخفاء الأرقام، أن يلمس كل بقعة كانت توجد فيها الأعداد السابقة بترتيب متصاعد. وكانت النتائج مذهلة إذ يُمكن للشمبانزي أن يتعلّم بأي ترتيب تظهر الأعداد على الشاشة، ثم يكرّر الإشارة إلى هذا الترتيب بسهولة، واستغرق الأمر منه نحو 200 مل ثانية لحفظ الترتيب، وثانية واحدة أو اثنتين لتكراره بمعدل نجاح بلغ %90 خلال عدة محاولات. لإنجاز هذه المهمة التي تبدو بسيطة استغرق البشر عدة دقائق، وفشلوا في كثير من الأحيان أكثر مما نجحوا، فلم يظهر بين البشر مثل هذه الذاكرة قصيرة المدى غير العاديّة، سوى بعض الأشخاص الذين يعانون من متلازمة “سافانت” (اضطراب في النماء).
مهارات فكرية
لدى الطيور أيضًا بعض المهارات الفكريّة المثيرة للإعجاب، إذ لاحظ الأشخاص الذين يتردّدون على الشواطئ والمتنزهات الساحليّة أن طيور النورس تحاول سرقة الطعام الذي لمسه الإنسان، وينمّ هذا المستوى عن التفكير المعقد، إذ يمكن لهذه الطيور أن تستنتج أن شيئًا ما صالحٌ للأكل من خلال مراقبة الكائنات الأخرى التي تأكله، ويمكنها بعد ذلك مراقبة هذا الشيء الصالح للأكل بصريًا وسرقته عندما تحين الفرصة المناسبة.
ويصف البحث الجديد الذي أجراه علماء جامعة ساسكس ونُشر في مجلة “كونفرسيشن” (Conversation) في مايو 2023م، كيف أن إدراك النورس أعقد مما كان يُظَن به سابقًا. لقد أجروا تجربة أثبتت أن طيور النورس لا تتعقب الأشياء التي لمسها الإنسان فحسب، بل يمكنها أيضًا مقارنة الطعام الذي رأوا الإنسان يأكله بالطعام المماثل الذي تجد منه في الطبيعة، كما أنه يمكن للطيور بعد ذلك سرقة هذه الأشياء حتى لو لم يروا أي إنسان يلمسها، وهذا دليل واضح على مهارات استنتاجيّة متطورة للغاية كان يُعتقد سابقًا أنها متعذّرة لدى نوع له دماغ بحجم حبة الفول.
تعاظم الأحاسيس البشريّة لدى الحيوانات
الحيوانات تدرك العالم بطريقة مختلفة، وهذا ليس شيئًا جديدًا، لكن في الآونة الأخيرة فقط، مع اختراع المجهر الحديث وتكنولوجيا المسح الضوئي، تمكَّن العلماء من إثبات هذه الفرضية. إن حاسّة الشم البشريّة هي إحدى أكثر الحواس محدودة القدرة في العالم الطبيعي، ومن المعروف على نطاق واسع أن حاسة الشم لدى الكلب قوية جدًا، بينما تملك النحلة نظام شم أكثر حساسية 100 مرة من حاسة الإنسان خاصة عند الوقوف بالقرب من الزهرة لتقدير رائحتها. جاء ذلك وفقًا لمقال نشر في مجلة “كونفيرسيشن” في مايو 2023م.
ويشير اكتشاف حديث إلى أنه يمكن لبعض الحيوانات استخدام أنوفها لأكثر من مجرد شم الرائحة. ففي عام 2020م، وجد باحثون سويديون من جامعة “لند” (Lund) مستقبِلات حرارية داخل أنوف الكلاب تسمح لها بشم الحرارة، فيما تمتلك الثعالب والذئاب أيضًا هذه القدرة الفريدة. وقد يجد عديد من البشر فائدة عمليّة من الحصول على وسائل لقياس درجة حرارة جسم ما قبل أن تحرقهم حرارته أو يقرصهم صقيعه. يمكن لبعض الحيوانات الأخرى، مثل الزواحف والأسماك والبرمائيّات والحشرات وبعض الثدييّات، الشعور بالحرارة باستخدام أعضاء مختلفة، كما جاء في مقال كتب في “إيه-زد أنيمالز” (A-Z Animals) في يونيو 2023م، فلدى سمك السلمون والضفادع أنزيمات في عيونها تسمح لها برؤية الأشعة تحت الحمراء، بينما لدى السمك الذهبيّ القدرة على رؤية كل من الأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجيّة. كما تملك بعض أنواع الثعابين مستقبلات للأشعة تحت الحمراء داخل ثقوب على فكيها تسمّى مستشعرات الحفرة، تمنحها القدرة على الإحساس بأجساد الحيوانات الدافئة حتى في الظلام الدامس وأماكن مثل داخل كهف. ومن جانبها تمتلك الخفافيش مصّاصة الدم مستقبلات الثعابين نفسها، وقد تبيَّن أنها مفيدة، لأن المصدر الرئيس لقوت هذه المخلوقات هو دم الحيوانات الأخرى، أما البعوض فإنه يجمع بين الرؤية بالأشعة تحت الحمراء والرؤية المنتظمة والقدرة على شم رائحة ثاني أكسيد الكربون لتحديد الأجساد وتعقّبها للتَطَفُّل (العيش بصفة طفيليات). يمكن لعديد من الأنواع الحيوانية أيضًا رؤية الألوان التي لا يستطيع البشر رؤيتها، فالأزهار مثلًا تبدو مختلفة تمامًا في نظر النحل، إذ يمكنها رؤية أشكال في الزهور تخفى على البشر، وما قد يبدو لنا وكأنه زهرة صفراء عادية، يبدو بالنسبة للنحلة كأنه تشكيل متعدّد الألوان يوجهها بصريًا نحو رحيق الزهرة.
حواس استثنائية
تعتمد بعض الأنواع الحيوانية، كي ترى، على الموجات الصوتية بدلًا من الضوء. ووفقًا لـ”ناشيونال جيوغرافيك” في عدد فبراير 2021م، فإن الخفافيش الليليّة والحيتان المسنّنة وبعض الثدييّات الصغيرة، قادرة على تحديد الموقع بواسطة الصدى، كما يمكنها تصوُّر شكل الأشياء المادية بواسطة إصدار موجاتٍ صوتية وسماع صداها، وهذا مشابه لتقنية السونار المستخدمة في السفن العسكرية والسفن التجارية التي تنقّب عن النفط تحت قاع البحر. وتمتلك الطيور المهاجرة قدرة غريبة على إدراك العالم على المستوى الكمومي، فكل عام تطير في جميع أنحاء العالم لتعشّش في مناخات أكثر دفئًا، وهي تعرف بالضبط الاتجاه الذي يجب أن تتخذه للانطلاق على مسار الهجرة. لقد افتُرض منذ فترة طويلة أن لبعض الخلايا داخل أجسام الطيور تفاعلاتٍ كيميائيةً حيوية استجابة لمجال الكرة الأرضيّة المغناطيسي. ووفقًا لمقال نشرته “ساينس أليرت” (Science Alert) في يناير 2021م، لاحظ علماء جامعة طوكيو لأول مرَّة هذا التفاعل الكيميائي باستخدام المجهر. وتسمى الخلايا المذكورة “كريبتوكرومز” (cryptochromes)، وهي كلمة مركّبة تعني الألوان الخفيّة، وكثير من المخلوقات تمتلكها داخل أجسامها، فهي عند البشر مسؤولة عن تنظيم إيقاع الساعة البيولوجيّة، وإخبارنا متى نذهب إلى النوم ومتى نستيقظ، ولكن عند الطيور تعمل هذه الخلايا بطريقة أقل دقة، مما يمنح الطيور قدرة فريدة على “رؤية” مجال الكرة الأرضيّة المغناطيسيّ.
بعد تعرُّفنا على أهمية ما تدركه الحيوانات، تبرز لدينا خطورة هذا الفاصل الكبير الذي أقمناه بيننا وبينها. لم يسئ هذا الانقطاع بين الحيوان وبيننا إليه فقط، بل أساء إلينا من خلال عبثنا في موائله وبيئته، الأمر الذي قد يؤدي إلى تغييرات سلبية على البيئة تمس الجميع.
اترك تعليقاً