ثمة مفارقة نشهدها في العالم الرقمي الذي نعايشه. فمن جهة، نجد فيه وسيلة ملائمة ومحفزة للقراءة أكثر من أي وقت مضى، من خلال الوسائط الرقمية وما تطالعنا به المواقع الإلكترونية والشبكات الاجتماعية بشكل متواصل من أخبار وقصص، سواء على الهواتف الذكية أو الأجهزة اللوحية والمكتبية. ولكنه، من جهة أخرى، يقدم كثيرًا من الإغراءات للقراءة بطريقة سطحية ومجتزأة، بل ربَّما نراه يُغري بمجرد التصفح ومشاهدة الصور والعبارات البارزة مع عدم قراءة المضمون على الإطلاق؛ وهو ما يعرّض ما يُعرف بالقراءة العميقة للخطر بشكل متزايد.
نستطلع هنا آراء عدد من المشاركين في مسابقة “أقرأ” السنوية، التي أسدل مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) الستار على نسختها التاسعة مؤخرًا، فوجَّهنا لهم الأسئـلة الآتية: ما أهمية المحافظة على عادات القراءة العميقة؟ هل أصبحت محصورة بنخبة معينة فقط تحرص على القراءة بطريقة نقدية واعية؟ كيف يمكننا استعادة مهارة القراءة العميقة، لا سيَّما بالنسبة إلى الجيل الجديد؟
التسكع في مدينة الكلمات
محمود المزين – مصر
أتخيلُ نفسي حاجًا عبر القارات متجهًا إلى مكتبة بابل المنسيّة، أو أعبر محيطات مرصعة بالزرقة بحثًا عن موسوعة في الأروقة العاتمة للفاتيكان. لربَّما كنتُ سأخوضُ هذه المغامرات السندباديّـة، بلا شك، لو أنني وُلدت في الأزمان الأولى. لكن اليوم، وفي عالم صارَ يمتلك صفتين شديدتي التناقض، ألا وهما الانفتاح، وضعف الانتباه، صار بإمكاني أن أحجّ من مكـاني فأمدُّ إصبعي وأصل إلى قطيع من كتب ربَّما يفوق ما جمعه الجاحظ في حياته اللاهثة.
ولكن، هل هذه الإمكانية التي تستبيح الوصول إلى ما عجز عنه الأولون عبر شاشة صغيرة هي ميزة لعصرنا؟ الحقيقة أنه فيما حصّن العالم الرقمي كُتبنا من احتماليّة أن يبيدها تتارٌ معاصرون، أو تحرقها محاكم تفتيش جديدة، إلا أنها قضت بتلك الإتاحيّة وبكثرة السيل المعلوماتي على قدرتنا على الانتباه! فقضت وسائل التواصل الاجتماعي بما تقدمه من آلاف المعلومات المتجاورة في الصفحة الواحدة على متعتنا في تأمل كتابات طويلة، مثل أعمال جويس أو محفوظ أو ماركيز، ولربَّما هذا ما أعدم ذائقة القارئ الحديث دون وعي منه.
لقد حرمَ العالمُ الرقمي القارئ من متعة التأمل طويل المدى. ويمكنني أن أقول إن فنّ الرواية الملحميّة الذي عرفه تولستوي وفوكنر، قد أعدِم في عصرنا هذا.
وأتساءل: هل يمكن استعادة القارئ الجاد؟ القارئ الذي يعي قيمة النص الجماليّة؟ لعل هذا أمر مستبعد أمام تسطيح وسائل التواصل الاجتماعي للجماليّات وللنصوص الأدبيّة وإباحتها مشاركة جميع الأفكار دون رقابة نقدية متخصصة كالماضي. لقد أعدمت تلك المنصات الحسّ النقدي لدى معظم القرّاء، وتركتهم في متاهات من الوهم، معتقدين أن الجمال في السرعة، والعمق في التخلي عن المعنى.
النصوص ليست مجرد معلومات
حراء الكرخي – العراق
من وجهة نظري، أجد أن القراءة العميقة تهيئ للقارئ مساحة لبناء فهمه الخاص لهيكل النص والوجود على حد سواء، بمعزل عن الأيديولوجيات السائدة والفلسفات ضيقة الأفق.
وهذه التجربة تدعم مفهوم تكوين تفكير مستقل، يمكن للأفكار والحياة أن تتخذ أبعادًا جديدة وعمقًا مبتكرًا. وتبعًا لذلك، ينكشف الستار عن طبقات غير مألوفة في الحقيقة؛ كل ما احتاجت إليه تأملات ووقفات قصيرة نتبيَّن من خلالها امتداداتها في وقت تتسارع فيه الآراء.
أعتقد أن القراءة غير المعمقة تمثِّل استجابة للضغوطات التي يفرضها نقص التوجيه. فبينما يتعرض القارئ لسيول من المعلومات والمؤلفات المتنوعة، يفتقر الكثيرون إلى الموارد والمراجع، ومن ثَمَّ إلى الأدوات اللازمة لتفكيك النصوص وتقديرها بشكل أعمق.
يمكن استعادة مهارة القراءة العميقة لدى الجيل الجديد من خلال تعزيز فهم أن النصوص ليست مجرد معلومات. واللغة، إضافة إلى كونها محاولة تواصل مع العالم، هي في الأصل محاولة تواصل ما بيننا وبين أنفسنا، واستعارة نستخدمها لتقليل الفجوة بين العالم المادي والفكري.
أنا أعتقد أننا سوف نستعيد العمق عندما ندرك أن اللغة إنَّما وجدت لأجلنا؛ لنتمكن من خلالها أن نترجم معانينا.
القراءة.. صحبة بلا مقاطعة
شريفة الشاوي – السعودية
لا يسعني التطرق إلى مفهوم القراءة المتعمقة دون التعريج على مفهوم التركيز بصفة عامة. تعدنا منصات التواصل الاجتماعي بمختلف ضروب المحتوى المسلي والمفيد. على أن كون ذلك المحتوى مفيدًا أم لا، ليس السؤال الأهم، بل الأهم هو ما إذا كنا بحاجة لتلك المعلومات المفيدة في زمن أو مرحلة محددة دون غيرها.
ما كنت أدّعيه سابقًا بأن حسابي على الإنستغرام يغص بالمحتوى المفيد والحسابات التي تتقاطع مع اهتماماتي، فأتجول بين المحتوى الثقافي والعلمي، وأثب إلى مقاطع الرسم ومن بعدها إلى المقاطع المضحكة، وأخرج عن كل سياق لأتابع حسابات الأنمي. بعد تجربة في الانقطاع عن منصات التواصل الاجتماعي، تنبهت لأمر مهم، وهو أنه على الرغم من زعمي أن المحتوى الذي أتعرض له كان مفيدًا، فإنه لم يكن يلبّي حاجتي الأساسية. فأنا لم أطلب، على سبيل المثال، معرفة الفرق بين واقي الشمس الفيزيائي والكيميائي، كما أنني لم أجهِّز عدة الرسم عندما شاهدت مقطعًا سريعًا لتعليم التظليل.
ينبغي أن ننتزع إجابةً واضحة عمّا نحب أن نقضي فيه أوقاتنا بهدوء وتركيز، وما إذا كان الأثر النفسي الذي يحققه سيبقى في ذاكرتنا ولو إلى نهاية اليوم، أم سيسقط من أرفف الذاكرة دون عناء. ما قد يُيسر علينا ممارسة اهتماماتنا المحببة، وبالأخص القراءة بتعمق، هو قدرتنا على إدارة وقتنا بطريقة ترضينا.
ما سيترسخ في ذهني في نهاية اليوم، لن تكون غالبًا المقاطع القصيرة المتفرقة التي شاهدتها على اليوتيوب، ولكن ربَّما الكتاب الجيّد الذي صاحبته دون مقاطعة.
الارتحال في عوالم القراءة
عبدالله شريف – مصر
ما أعمق تلك اللحظات التي يغرق فيها المرء بين دفتي كتاب، يسبح في بحور الكلمات، يستنطق الأفكار كما يستنطق الشاعر النجوم. إنها لحظات من الصفاء الذهني، حيث تتوقف عقارب الزمن، وينصرف العقل إلى تأمل هادئ وسكون مستفيض.
إن القراءة العميقة ليست مجرد اكتساب للمعرفة، بل هي ارتحال إلى عوالم أخرى، ومجالسةٌ لأعظم العقول التي خطّت كلماتها على مرِّ العصور. إنها تربية للذهن على التفكير النقدي، واستنطاق المعاني الخفيّة بين السطور، فلا تُفضي بالقارئ إلا إلى مراتب الحكمة واتساع المدارك.
غير أننا اليوم، في زمن تغمرنا فيه التقنيات وتُغرينا بسهولة الوصول، قد رأينا كيف أصبحت القراءة السطحية عادةً مكتسبة، لا يبتغي منها المرء سوى المرور السريع على العناوين دون استيعاب المعاني الكامنة في الأعماق. غدت القراءة العميقة عادةً نخبوية، محصورة في قلة تدرك قيمتها، وتحرص على الاحتفاظ بها كمن يحتفظ بدرر ثمينة في عالم يغشاه الزيف، بينما ينجرف البقية في دوامة المعلومات السطحية والتشتت الذهني.
ولا سبيل لاستعادة هذه المهارة النفيسة إلا بترسيخ حب الكتاب في النفوس الناشئة، بتشجيعهم على التفاعل مع النصوص والارتباط العميق بها. علينا أن نُعيد زمن القراءة الهادئة، بعيدًا عن صخب الشاشات وإغراءات التصفح السريع، حتى ينمو الجيل الجديد على التأمل والاستغراق، ويظل العقل قادرًا على التحليق في فضاءات الفكر دون قيود. إنها دعوة للعودة إلى خلوة مباركة مع الكتاب، تُحيي فينا روح الفكر المتأمّل، وتُعيد لحظات الصفاء الذهني التي تسرقها سرعة العصر.
اترك تعليقاً