لا ينفك العلم يكشف لنا كل يوم عن عجائب قدرة الله سبحانه في هذا الكون الفسيح، لكن ما يدعونا حقًا للتفكّر هو أن كل إجابة تحضر مع اكتشاف جديد تُفيض معها سيلًا من الأسئلة التي تنتظر من يُجيب عنها، وأن كل نظرية علمية لا تكاد تلامس اليقين في زمن ما، حتى يخبو وهجها مع ظهور نظرية جديدة، أو تكتسب ملامح مختلفة بما يُضاف إليها من تفاصيل وتوضيحات. في هذه المقالة، يتساءل د. يوسف البناي سؤال العلم والفلسفة القديم الجديد عن لغز الكون وبداياته في ضوء ما استجد من نظريات علمية هي اليوم مدار اهتمام علماء ومفكري العصر الراهن. فما هو السر الذي يجعل الحياة الذكية حكرًا على الأرض وحدها بين مليارات الكواكب المُكتشفة؟ وهل تحلّ فكرة “الأكوان المتعددة” المعضلة العلمية أم تؤجلها؟ وكيف يمكن لاكتشاف حياة خارج الأرض أن يغيّر من المعادلة العلمية؟
تساءل ذات مرة الفيلسوف الموسوعي لايبنتز: “لماذا كان هناك شيء بدلًا من لا شيء؟”، وتحوّل هذا السؤال لاحقًا إلى مسألة كلاسيكية مفتوحة يتكرر صداها مع كل ثورة علمية جديدة. فعند اكتشاف قوانين الحركة والكهرومغناطيسية والديناميكا الحرارية، اعتقد كثير من مفكري العالم حينها أنهم قد فهموا الجزء الأكبر من الواقع. وفي القرن العشرين، عندما اكتُشفت النسبية وميكانيكا الكم، اعتقدنا أننا على حافة معرفة الحقيقة النهائية. ومع اكتشاف الانفجار العظيم للكون والحمض النووي للكائنات الحية قلنا لقد انتهى الأمر؛ سنفهم أصل الكون وأصل الحياة عما قريب. وعلى الرغم من أننا قد تقدمنا كثيرًا بالفعل، إلا أننا ما زلنا حتى الآن بعيدين كل البعد عن الإجابة عن سؤال لايبنتز إجابة نهائية! ولذا سنعيد السؤال نفسه من زاوية محددة: هل الحياة شيء خاص جدًا بكوكبنا فقط؟ وهل الإنسان هو الكائن الوحيد في هذا الكون اللانهائي الكبير؟
لنتأمل في كل شيء من حولنا؛ كل ما هو موجود يبدو بأنه قد ضُبط عن عمد بدقة لا يُصدقها عقل حتى نحيا نحن! ولو أخذنا مثلًا أبسط الظواهر للعيان، لتبين لنا أنه لو زادت حرارة الشمس على الأرض قليلًا لتبخر الغلاف الجوي والمحيطات والبحار، وبالتالي لا يمكن أن تنشأ أي حياة كما نعرفها. ولو زاد وزن ذرات الهواء لتعذر على الرئة تحمله، وبالتالي لا حياة. ولو زادت مسافة كوكب الأرض عن الشمس أو قلّت عن المسافة الحالية لانتهت الحياة. ولو انخفضت قوة الجاذبية لطار الغلاف الجوي وتبعثر في الفضاء وانتهى الأمر. ولو زادت قوة الجاذبية عما هي عليه فعلًا فلن تتحملها عظامنا. ولولا حماية المجال المغناطيسي للأرض لقضت علينا الرياح الشمسية والجسيمات المشحونة ذات الطاقة العالية المتجهة إلينا. والآن إذا نزلنا إلى مستوى قوانين الفيزياء الأساسية نجد أن المعجزات تزداد بشكل مذهل؛ فلو كان للجسيمات الأولية مثل الإلكترون والبروتون والنيوترون كتلٌ وشحنات مختلفة، لتعذر على كوننا أن يكون بشكله الحالي، وسيترتب على ذلك في النهاية عدم وجود حياة.
لحسن الحظ، تمكننا الفيزياء الحديثة من تكوين فهم أولي لتاريخ الكون إلى الثانية الأولى بعد ما يُعرف اليوم في الأوساط العلمية بالانفجار العظيم، فلدينا هنا ما يكفي من النظريات. ولكن للأسف، خلال فترة الملي ثانية الأولى من هذا الانفجار وأقل من ذلك يزداد الغموض وتطغى التخمينات النظرية فقط. أما إذا عدنا بالزمن لأقدم من ذلك حتى نقطة انطلاق الانفجار نفسها فإن الفيزياء تتخبط في الظلام، ولا تعرف سوى إصدار أفضل التخمينات العشوائية. ويمكننا أن نرى المشكلة الكُبرى الآن؛ ففي حين من المتاح لنا أن نفهم هذه الثانية الأولى، لكن ما قبل ذلك مقفل عليه نهائيًا! يطرح ما سبق تساؤلًا علميًا فلسفيًا سيطارد بني البشر ما عاشوا: هل كان بالإمكان ضبط الكون بطريقة أُخرى غير طريقته الحالية كي نظهر نحن ونتعجب من هذا الوجود؟ في الحقيقة ليس لدى الفيزيائيين اليوم سوى تفسير واحد.
لغز الأمور المضبوطة بدقة
نتناول هنا مثلًا واحدًا: لآلاف السنين، كان بُعد كوكب الأرض عن الشمس يمثل لغزًا للفلكيين وللمفكرين بشكل عام؛ لماذا تقع الأرض على هذا البُعد المضبوط عن الشمس كي نحيا نحن؟ لو كانت أقرب قليلًا لارتفعت حرارة الكوكب، ولو كانت أبعد قليلًا لأصبح الكوكب قطعة ثلج كبيرة، وفي الحالتين لن تكون هناك حياة. لماذا كوكبنا على المسافة الملائمة تمامًا؟! كثير من المفكرين القدماء اعتقدوا أن هذا دليل على وجود تصميم ما كي نحيا على هذا الكوكب. ولكن لدينا اليوم إجابة يميل إليها بعض علماء الفيزياء أكثر من الإجابة السابقة.
كوكب الأرض ليس وحيدًا، هناك كواكب مجاورة لنا لا تدعم الحياة ولا يوجد فيها أحد يتساءل ما هذا اللغز الذي نحن فيه؟ ولو كانت مجموعتنا الشمسية فقط هي المجموعة الوحيدة في الكون، فالأمر لا يزال لغزًا محيرًا بالفعل. وحتى لو كانت هناك مجرة واحدة سيبقى اللغز قائمًا. ولكننا نعلم اليوم بفضل التقنية المتقدمة والتلسكوبات العملاقة أن هناك مئات المليارات من المجرات، وفي داخل كل واحدة منها مئات الملايين من النجوم، بل ربما مئات المليارات أحيانًا، مع ما يدور حولها من كواكب. وبالتالي هناك مئات المليارات وأكثر من الكواكب في الكون، وكل هذا يُسمى الكون المرئي فقط، أي ما نستطيع رؤيته بالتلسكوبات، بينما قد يكون الكون بمجمله بلا نهاية أصلًا! وبالتالي ليس من المستغرب إذن أن قلة منها، وربما نحن فقط، من بين كل تلك الأعداد الخيالية من الكواكب تمتلك المواصفات والمكوّنات اللازمة للحياة كما نعرفها.
ومع ذلك ما زال الأمر لغزًا؛ فالعلم الحديث يخبرنا اليوم أن الكون قد نشأ بانفجار عظيم حدث “مرة واحدة فقط” قبل ما يقارب 13.8 مليار عام، وكل ثابت فيزيائي دقيق مثل ثابت بلانك وثابت الجاذبية وثابت سرعة الضوء، يدعم الآخر بشكل لا يُصدق. وبالتالي، هل يُعقل أن يتكشّف هذا الخلق البديع كله من انفجار عظيم واحد؟! يبدو هذا مستبعدًا للغاية؛ لأن عدد الأشياء المضبوطة كثير جدًا. فمثلًا، لو كان كل شيء مضبوطًا كما هو، ولكن فقط زادت الطاقة المظلمة عن قيمتها المحسوبة في حقبة ما، لاتخذ الكون منحنى آخر وتغير شكله جذريًا. ولو زاد عدد النيوترونات أو قل أيضًا، لانحرف الكون عن مساره الحالي. وهكذا، فإن أي شيء لو تغير ولو قليلًا لغيّر القصة بأكملها وأصبحت الحياة مستحيلة. فالأمر يشبه قلعة عملاقة مصنوعة من أعواد كبريت بشكل حرج جدًا بحيث لو أزلت أي عود واحد من أي جهة ستنهار القلعة كلها.
كونٌ واحد أم أكثر؟
حسنًا، يوجد حلٌ مقترح للخروج من هذه المعضلة: لم يكن هناك انفجار عظيم واحد، بل حدثت ولا تزال تحدث انفجارات كونية عظيمة لا نهائية طوال الزمن! وقد قدم عدد من المنظرين من أمثال أندريه لندي وألكسندر فيلينكن وآلان غوث ولي سمولين وغيرهم، ولدوافع نظرية جادة، أفكارًا نظرية لإمكانية نشوء أكوان أخرى متعددة لا نهائية. وتقع في تلك الأكوان المتفرقة كل الاحتمالات طوال الوقت، فيمكن أن يكون واحدٌ من هذه الأكوان ذا مادة مظلمة عالية جدًا، بينما هناك كون آخر تزيد فيه قيمة ثابت بلانك، وكون ثالث سرعة ضوئه أقل، ورابع لا يوجد فيه رنين نووي في أنوية كربوناته وهكذا إلى ما لا نهاية. تقع كل الاحتمالات الممكنة بوتيرة لا نهائية حتى خُلقنا نحن في هذا الكون الذي نحن فيه. لذلك لا غرابة أن نجد أنفسنا فيه، مثلما لا يستغرب السمك إن وجد نفسه في حوض السمك. نعم ثوابت الطبيعة معجزة، ولكن علينا ألا نستغرب؛ لأن هناك احتمالات تقع بشكل لا نهائي طوال الوقت ووجودنا مرتبطٌ بأحد هذه الاحتمالات. ويُسمى هذا المبدأ بـ”المبدأ الإنساني”، وهو باختصار يعني أن وجود الإنسان حتمي في الكون الذي تكون فيه قوانين الفيزياء مناسبة لحياة ذكية مثل الإنسان.
والآن، أهذا حل أم هروب من المسألة؟ في الحقيقة ما سبق ذكره هو مبدأ فلسفي وليس مبدأ علميًا حتى الآن، فنحن لا نعرف شيئًا عن هذه الأكوان أو ما علاقة نشأتها بالمعادلات الفيزيائية الأساسية؟ بل نحن لا نعرف حتى لماذا ثوابت الفيزياء التي هي ماثلة أمام أعيننا تتخذ هذه القيم تحديدًا! ولكن إن كان هناك أمل لنتقدم في هذه المسألة، فيجب أن نبحث عن حياة أخرى في الكون. إن البحث عن حياة، ولو بذور حياة بدائية، سيجعلنا نُعيد النظر في مفهوم الأكوان المتعددة؛ لأنه لو كانت الحياة منتشرة في كل أرجاء الكون، فربما سيتضح لنا أنها مُصممة بالفعل بطريقة ما، وهذا الأمر سيُضعف فكرة الأكوان المتعددة. سنبحث عن سر تميّز كوننا منذ بدايته عن غيره. ولو كنا محظوظين جدًا واكتشفنا حياة ذكية مثل حياتنا أو حتى أذكى منا، فسنتفاهم ونتناقش مع إخوتنا الفضائيين حول أصل الرياضيات والفيزياء والمنطق واللغة والأخلاق وكل شيء آخر. وسيُغير ذلك نظرتنا لنوعنا البشري إلى الأبد!
البحث عن الحياة في الجوار
لذلك، ولحسم هذا اللغز العلمي، من بين أغراض أخرى أيضًا، تُمول بعض الدول المتقدمة وبعض الجهات الداعمة للعلم برامج البحث عن حياة فضائية. وبالطبع كانت الخطط الأولى هي البحث عن حياة بدائية في كواكب مجموعتنا الشمسية؛ لأنه من المؤكد عدم وجود أي إشارة لوجود حياة ذكية فيها باستثناء كوكبنا. وحظي كوكب المريخ بنصيب الأسد في البحث عن حياة بدائية عليه لأنه الكوكب الوحيد الذي يمكن للإنسان استكشافه حتى الآن.
يُعتقد في الأوساط العلمية أن هذا الكوكب الأحمر القاحل كان دافئًا ورطبًا قبل ما يقارب أربعة مليارات سنة، إذ تكشف الصور الملتقطة له عن وجود مجاري أنهار وبحيرات ومحيطات جافة جدًا تكسوها الرمال الآن. كانت ظروف نشأة المريخ الأحمر مشابهة لظروف نشأة كوكبنا الأزرق، فهل يمكن أن تكون هناك حياة قد نشأت يومًا ما هناك؟ حسنًا، حتى لو نشأت حياة هناك، فكيف كانت ستستمر طوال مليارات السنوات من دون ماء سائل؟ أليس الماء هو أكسير الحياة؟
في الحقيقة، حدث اكتشاف مذهل على كوكبنا جعل أمل الحياة ممكنًا حتى في تلك الظروف القاحلة! لقد اندهش العلماء عندما اكتشفوا أن هناك ميكروبات تعيش في أعماق سحيقة في قشرة الأرض وأعماق المحيطات في درجات حرارة عالية جدًا حيث لم يتخيل أحد وجود أي شكل للحياة في تلك الظروف! إن هذه الميكروبات تتكيف بشكل مذهل مع الحرارة العالية والبيئات المتطرفة في أعماق الأرض، وتعتمد في غذائها على الغازات والمعادن النافذة من قشرة الأرض.
لقد عزز ذلك الاكتشاف إمكانية اكتشاف ميكروبات مشابهة تعيش في ظروف متطرفة في أعماق قشرة المريخ. وعلى مدار نصف قرن أُرسلت عدة مجسات فضائية لدراسة تربة المريخ مثل مركبات فايكينغ وبيجل وفينيكس، وآخرها عام 2012م، حين أُرسلت المركبة الأكثر تطورًا “كيريوستي روفر”. فإحدى المهام الرئيسة لهذه المركبة هي البحث عن الكربون وغاز الميثان المتسلل من القيعان العميقة إلى السطح والذي قد يكون مصدره تلك الميكروبات إن وجدت. أُنزلت المركبة في فوهة واسعة يعلوها جبل مرتفع تنساب من حوله جداول جافة تبدو أنها قد تكونت من سيلان المياه، وبالتالي قد يُعثَر على ماء أو مصادر توحي بوجود تلك الميكروبات.
المكان الآخر القريب بعد المريخ، والذي يحدونا الأمل باكتشاف حياة بدائية عليه، هو القمر أوروبا وهو أحد أقمار المشتري، ويُشتبه بوجود كميات كبيرة من محيطات الجليد والمياه السائلة على ذلك الجرم. وكذلك هناك آمال للبحث عن حياة في الغلاف الجوي للقمر تيتان التابع لكوكب زحل.
نقول في النهاية إن البحث عن حياة أخرى سيستمر، وإن العثور على أي شكل من أشكال الحياة في مكان آخر غير كوكبنا سيساعدنا على فهم طبيعة الحياة على كوكبنا بشكل أفضل.
اترك تعليقاً