تحتلُّ الثقافةُ مكانةً بارزةً في تشكيل هوية أي دولة تتطلَّع إلى أن يكون لها حضور لافت ومؤثر وملهم في العالم. إذ ترتكز الدولةُ (أي دولة) على القوة المادية، والقوة الثقافية في الوقت نفسه. ولذلك لا مناص لها من بناء وتعزيز هويتها الثقافية التي تميِّزها عن غيرها من الدول الأخرى، والسَّعي إلى تشكيل أو تعزيز تلك الخصوصية الثقافية المبدعة التي تستلهم روح المجتمع وتراثه وتاريخه.
رعاية الثقافة
يظهر حرص الدول على تشكيل ثقافاتها الوطنية، من خلال البرامج والمشروعات واستراتيجيات التَّنمية الثَّقافية المستدامة. وفي هذا الإطار يأتي سعيُها الدائمُ والجدّي إلى رعاية الثقافة وتمويل برامجها وأنشطتها. ليصبح الحديث هنا عن الحاجة إلى “ثقافة الدولة” التي تعبِّر عن هويتها وتوجهاتها وتعزِّز وحدتها. فبقدر ما تكون الدولةُ حاضرةً في فضاءات الثقافة والإبداع، بقدر ما يكون ذلك متمثلاً ضمن معاييرها الرسمية التي تخدم توجهاتها وبرامجها واستراتيجياتها.
والحقيقة أن فلسفات الدول في نظرتها إلى الثقافة وتعاملها معها، تتنوَّع في مفهومها وتوظيفها واستثمارها، فهنالك من يقصر تدخل الدولة في القطاع الثقافي على توفير الدعم المادي لهيئات مستقلة، مكلفة بتوزيعها على المؤسسات النَّاشطةِ في الحقلِ الثقافي، كما في الأنموذجِ الأنجلو – سكسوني. وهنالك دول أخرى ترى أن تتولى وزارات الثقافة بمختلف هياكلها المركزية والجهوية إدارة الشأن الثقافي عبر تدخُّل الدولة بشكل مباشر في وضع البرامج وتنفيذ المشروعات الثقافية، كما في الأنموذج الفرنسي. ونموذج ثالث يعتمد اللا مركزية في إدارة الثقافة التي تتولاها الأقاليم، على أن تحتفظ الإدارة المركزية بالتخطيط والتوجيه والتمويل، كما هو الشأن بالنسبة للنموذج الألماني.
بيئة مساعدة وفاعلة
وفي جميع الأحوال، وأيّاً كان شكلُ تعاطي الدولِ مع الثَّقافةِ، فإن انتشار هذه الثقافة ونموَّها، لا يستغني عن دعم الدولة وحضورها ورعايتها، خاصة في البلدان النامية. على أن يتوافر للثقافة المناخ المناسب للإبداع، وأن يكون للمثقفين دور بارز وجوهري في إدارة الشأن الثقافي. إلا فيما يتعلق بالتَّشريع والتمويل والتوجهات الكبرى. حيث تحرص الدولةُ على توفير بيئة ثقافيةٍ مُساعِدَة وفاعِلَة، تُمكِّن من الاستثمار في الثقافة؛ وتوفِّر حَوَاضن مُؤسَّسية، من مراكز علمية، وبحثية، ووسائل إعلام متخصِّصة وغير ذلك من متطلبات التنمية الثقافية.
ويمكن للدولة بعد أن تُرسيَ تلك القواعد، وتنشئ البيئة الخصبة المساعدة على نموِّ الثقافة والإبداع، أن تبدأ بالانسحاب تدريجياً من مجال التوجيه المباشر، والإنتاج المباشر، وتركِّز على رعاية الإنتاج ودعمه، لنخرج من مرحلة ثقافة الدولة إلى مرحلة دولة الثقافة. إلا أن ذلك لا يعني إلغاء كل أسباب تدخُّل الدولة في الإنتاج الثقافي، فذلك أمر لا يرغب فيه المبدعون الذين يَعُدُّون أن الأعمال الإبداعية الكبرى لا يقدر عليها الأفراد أو الجمعيات الثقافية.
ولذلك فمن الضروري أن تستمر الدَّولة في توفير الدعم والمتابعة والرعاية والتخطيط، وإقامة المهرجانات الكبرى، مثل مهرجان الكتاب ومهرجان الشِّعر ومهرجان التراث ومهرجان الموسيقى ومهرجان المسرح ومهرجان السينما وغير ذلك من المجالات. وتشجيع قيام دور النشر والمؤسسات السينمائية والجمعيات المسرحية والشركات الفنية الخاصة في كافة المجالات الإبداعية، ودعم إنتاجاتها، وبرامجها وعروضها. مع الاستمرار في أداء دورها الفاعل في الرعاية والمتابعة والتمويل والتشريع. فتتحوَّل الفِرَق المسرحية إلى مراكز للتكوين الفني، بما يشبه المعاهد المتخصِّصة في المسرح، بحيث يتم تمويل عملها ونشاطها. وكذلك الشأن بالنسبة للتشكيل والموسيقى والأدب، وكافة أبواب الثقافة الحية. على أن يبقى قطاع التراث الوطني الذي يشمل الآثار أيضاً، من مسؤوليات الدولة بالدرجة الأولى، لصعوبة أن يتولاه أفراد أو جمعيات أهلية أو حتى القطاع الخاص، مع العمل على ربط الثقافة في بُعديها الوطني والإنساني، بالمشروع المجتمعي الذي يَعدُّ التنوُّع والتسامح والانفتاح أمراً أساسياً في أي عمل ثقافي وإبداعي. وما انسحاب الدولة من عالم الإنتاج المباشر تدريجياً، إلا من أجل فتح الآفاق أمام المبدعين ليكونوا دعامة للتعدُّدية الثقافية الإيجابية والمنتجة، ومن أجل التشجيع على الإقدام للاستثمار في هذا القطاع الواعد، ليكون جزءاً مهماً من محركات التنمية.
مصدر مهم للثروة
إنَّ الثقافة بعناصرها المتعدِّدة، لم تعد مجردَ مكوِّنٍ أساسي من مكونات هوية الدول والمجتمعات فحسب، بل تحوَّلت إلى مصدر للثروة التي لا تقل أهمية عن الثروات المتأتية من الموارد الطبيعية والصناعية والزراعية وغيرها. ولذلك أصبحت الدول والشركات العامة والخاصة، تستثمر في الثقافة بتجلياتها المختلفة، العلمية والفنية والتراثية والترفيهية، لمردودها الكبير، الذي أصبح يُسهم في التنمية وفي تعزيز موارد الدولة.
ونشير في هذا السياق إلى أن الثقافة في الدول المتقدِّمة، أصبحت تشكِّل مصدراً رئيساً من مصادر الثروة. خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي والصين واليابان. ويكفي هنا الإشارة إلى أن دخل بلد صناعي مثل المملكة المتحدة من الثقافة (كتب ومسرح وسينما وموسيقى وفنون تشكيلية…) يتجاوزُ في حجمه، دخلَها من صناعة السيارات البريطانية الشهيرة.
وهذا المؤشر يقودنا إلى تأكيد أهمية الاستثمار في الصناعات الثقافية والإبداعية والمعرفية، لمنزلتها المتنامية في العالم، باعتبارها استثماراً مستداماً للتراث والثقافة والفنون والآثار، يُسهم في نمو الاقتصاد وتعزيز المساهمة الاقتصادية للقطاع الثقافي، وتعزيز الوعي بأهمية الاستثمار في المجال الثقافي، وتشجيع الاستثمار في مشروعات ثقافية إبداعية مستدامة.
نعم ما احوجنا الي ذلك خصوصا في طل الهجوم الثقافي الخارجي علي دولنا والذي اثر علي القيم والعادات والتقاليد الخاصة بمجتمعاتنا