مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين

أكثر من رسالة


الخط العربي ورقمنة المُنْتِج

فتحت مجلة القافلة في عددها الفائت (مايو/يونيو 2021م) ملف الخط الذي تناوله الكاتب السينمائي إبراهيم العريس وفريق القافلة، حيث تحدّث بدايةً عن زمن الكهوف والرسومات وبداية اكتشاف الإنسان للخط، ونستطيع القول من خلال ما يوحي به هذا الملف المتميِّز، بأنه لا يمكن لإرث حضارةٍ ما أن يندثر خلف ضبابية الزمن وتطوُّره؛ إلَّا إذا انساقت جموعه المجتمعية نحو قفزات التقدُّم والتطوُّر الزمني، منفصلةً عن جذورها وتوقفت عن التجديد في فنونها القائمة، بالإضافة إلى افتقار تلك المجتمعات لمؤسسات رسمية تحمل مسؤولية إبقاء هذا الموروث، والعمل على تعزيز خطوات ظهوره في قوالب أصيلة، تحمل لمحات التجدُّد والتقدُّم، ومجاراة هالات التطوُّر عبر ساعة الزمن غير المتوقفة.

واستشعاراً لهذه المسؤولية انطلقت مبادرة وزارة الثقافة السعودية، التي تعتمد على بناء مرتكزٍ متينٍ لإحياء وإبقاء هذا الفن المبهر، فن الخط العربي، وإظهاره كأيقونة حيّة يرسم ملامح الهوية الإسلامية في قوالب متجدِّدة يافعة، ليفتح لنا آفاقاً تتقن لمسات التعاطي مع هذا الفن، وعدم الاقتصار على إبقائه مجرد مصدر معرفي بين أروقة المكتبات. ومن خلال هذه الخطوة الواعدة، تصبح المملكة العربية السعودية الحاضنة والرائدة في رعاية وإبراز هذا الفن العريق الممتد عبر العصور، ولا يزال متشبثاً بجذوره ومحافظاً على الأطر التي تبرزه في ساحة الفن الكتابي والرسم المدمج.

ولتكريس الديمومة لأي فن من الفنون، ينبغي أن يتجلَّى هذا الفن بصرياً، وبصورة غير محصورة في نمطية محدَّدة لجمهور دون آخر، بل لا بدّ أن يتعدَّى محدوديته المكانية في الظهور والبروز ليتخطاها إلى ما هو أبعد من ذلك التقيّد الحدودي، ولنا في فن العمارة والنحت وغيرها خير مثال في استحضار الفنون المدمجة، في توليفة تُهندس الإبداع في التجربة الجمالية ليبقى معلماً جاذباً عبر العصور، ولافتاً لأنظار كل متذوق للجَمَال، وكل فاحص ومتخصص في تتبع هذا الإنتاج، وهذا ما انتهجه الفن الأوروبي الذي طُعِّمت وزُخرفت منحوتاته وقوالب لوحاته بلمسات خالدة من فنون الخط العربي، لتتضاعف بذلك القيمة الفنية والإبداعية والثقافية والتاريخية لهذه الأعمال في مجتمعات ممتدة وبجمهور متنوِّع ومتغيِّر، ويجدر بنا ذكر كيف وُظِّفت الحروف أو الخطوط العربية في لوحات عدَّة لفنانين غربيين، كفنان ورسام عصر النهضة في فلورينسا الإيطالية، الرسام Andrea del Verrocchi الذي تجلّى الخط العربي في حاشية ثوب أحد تماثيله المنحوتة. وكما صوَّرت لوحة (تبجيل الملوك) للفنان Gentil da Fabriano لمسة عربية بجمال الخط العربي الذي أضاف للعمل قيمة تاريخية وإبداعية.

الأمر الآخر، للمضي في تخليد هذا الفن وبناء مستقبل لامع بنجاحات مدروسة ومرحلية، ينبغي تأطيره كمادة علمية تتوافق ومستوى إثراء ذهنية المتعلِّم، من خلال محتوى المنصات التعليمية الرسمية، باعتباره علماً يتلقاه النشء كمنهج دراسي يعتمد على أسس ومناهج يشرف عليها متخصصون أكاديميون، وهنا يتنامى الدور المعرفي الذي يرسِّخ الهوية عبر الأجيال، واكتشاف المواهب تحت مظلة أكاديمية لتوجيهها إلى المسار الأنسب والمتطابق مع القدرات الكامنة لديه، وربط هذا المسار بسوق العمل والبيئة الاحترافية المنتجة، واستحداث مسميات وظيفية منتجة محلياً وعالمياً، وهذا ما يسهم في تقوية الجانب الحضوري اللامع في المحافل والمؤتمرات على المستويين المحلي والدولي، ومن هنا تتبارى الأجيال المشبعة بهذا العلم في إبراز هذا الفن كقيمة مجتمعية فنية ثقافية موروثة.

ولأننا نعيش عصراً متقدِّماً، ولأن مفهومي الرقمنة والتحوّل الرقمي أخذا فيه حيزاً يتضاعف بسرعة مهولة في إدارة وتشغيل أي مادة إنسانية؛ هنا ندرك أن التحوُّلات التقنية الرقمية ليست مجرد تبدُّل وقتي أو ترف ورفاهية، لكنها مطلب مُلحّ يستدعي أن يفسح المجال أمامها لتدخل في بناء الهيكل الفنيّ للخط العربي، المتجذِّر في أصوله وأصالته، الذي يتوازى مع قفزات العصر بعلومه وتقنياته التي فرضت آثارها في كل المجالات، واستحوذت على مساحة من اشتغال العالم في أغلب مجالاته نظرياً وعملياً.

إنَّ فن الخط العربي ليس مجرد رسوم خُطت بقواعد مدروسة ومتقنة، لكنه مُكوّن جمالي تشع منه الحياة بسياقاتها الفنية والتراثية، وينبوع لثقافة مجتمع ترجمتها ريشة فنان خالط نبضه ما حملته تلك القصبة من حبر راكد. فهو تجربة ناطقة على لوح صامت، وهذا ما لا تستطيع أكثر التكنولوجيات تقدُّماً إبرازه وتقديمه في إطار جمالي مفعم بالحياة، وعلى الرغم من ذلك يظل هذا الفن تحت طائلة التحدِّي وخشية التأثر بتيارات تلك العمليات والتقنيات المتسارعة في عملية التقدُّم والتطوُّر، حتى يصل الأمر لإنتاج الخطوط العربية باتساق أنيق تكنولوجي خالٍ من تمريرات فنية من يد خطاط.

ليالي الفرج



النون العجيبة.. والكتابة باليد

استوقفتني قضية (الكتابة اليدوية) المنشورة في العدد الفائت (مايو/يونيو 2021م)، ولم أستطع تجاوزها دون أن أنتقي من بستان قافلتنا العربية مادة دسمة تثير حواسي، وتحرِّض قلمي على امتحان الكتابة، الذي أخوضه شخصياً منذ فترة، فأنا واقعة في أسر شغف الكتابة الفطري بداخلي، ممزوجاً بشعور القلق من استخدامها لأول مرَّة كجواز عبور إلى منطقة حالمة.

قرأت القضية بعين محامي الدفاع، وأشاطر الجميع مخاوفهم، والقلق على مصير الكتابة باليد، ووأد الأقلام وحرمانها حق الحياة. فقفزتُ سريعاً إلى هاتفي أسترق النظر إلى فهرس المصحف الرقمي باحثة عن “سورة القلم”، فقرأتها ثلاث مرات بتمعن عميق، كما لم أفعل من قبل: “ن (*) وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (*) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ”.

لن أتطرَّق لجمال الآيات وانسيابها النوني العجيب كلحن حياة بديع؛ لكنني سأفكِّر مع القارئ بصوت عالٍ، وبالإشارة لمقدِّمة تاريخ الكتابة في التقرير، أتساءل: أيعقل أن يكون هذا القَسَم الإلهي بالقلم مؤشراً ربّانياً وتوجيهاً بليغاً إلى أن القلم أداة من أدوات الحياة والنجاة على هذه الأرض، وربما الخلود؟ أو لعلها تلك العلاقة الطردية لفطرة البلاغة الارتجالية وفصاحة البيان والمنطق عند من توطدت علاقته بالكتابة عمراً طويلاً؟

ولربما قادتنا القصص والأساطير والمخطوطات لفهم أعمق لماهية الكتابة وفضلها وأثرها على وقع الحياة الإنسانية، فيستنتج الباحث في عمق المعنى وماهية الأشياء أن القلم والكتابة كانتا وما زالتا وسيلة من وسائل البقاء على قيد الحياة، مثل الطعام والماء والهواء. لكنني سأطلق العنان لأفكاري في سرد موضوعي قصير، يمثّل حصيلة تجربة إنسانية خاصة، قضيتها عمراً بصحبة القلم بشتى أنواعه وألوانه، مع عبارات الإطراء التي كنا نخلقها ونردِّدها إعجاباً بما تنثره أيادينا على الورق.

كنا نكتب على سبيل المثال: “أكتب لك بالأحمر علامة الحب الأكبر”، “أكتب لك بالرصاص علامة الحب والإخلاص” و”أكتب لك بالمقلوب علامة الحب بالقلوب”، نشأنا جيلاً يتغنى بالكتابة وخط اليد. ومن منطلق إدراكنا لأهمية الكتابة باليد، كانت تُخصَّص لها آنذاك حصص دراسية، وكانت تلك الحصص أشبه بمتنفس للصغار، حين كانوا ينحتون الحرف على كراسات الخط المسطّرة بتكرار هندسي جميل.

اندثرت تلك الحصص في عصرنا الرقمي المتسارع، ولكن حاجة الإنسان للتنفس عن طريق الكتابة لم تذبل أبداً، لربما انشغلنا عنها، لكنها حتماً لا تزال موجودة، ولعل لحظة تنساب فيها أصابعنا على شاطئ بحر في رحلة استجمام، لنرسم حروفنا، أو نكتب أسماءنا، ما هي إلا لحظة استجابة لنداء الطبيعة الفطري، وتعطشنا الداخلي للكتابة باليد.

لا أود التطرّف في الدفاع عن قضيتي، ولا حشد البراهين والأدلة على أهمية الكتابة باليد، فالدراسات العلمية والتربوية والنفسية في القافلة كافية ووافية ومنصفة لأطراف القضية على حد سواء.

لكن من وجهة نظر شخصية، أعتقد أن الكتابة بخط اليد، وصدى وقع القلم على الورق، ترياقان عجيبان، ساعداني، ولا يزالان يساعدانني في أحلك ظروفي وأسعدها. وللموضوعية، وبدافع الواجب الذي وقع على عاتقي تجاه قضية الكتابة باليد، فإنني أقف في صف الدراسات والبحوث العلمية والطبية التي تشدِّد على أهميتها، وأحثك عزيزي القارئ على ضرورة الاطلاع عليها والتعرُّف على مفهوم الكتابة العلاجية، أو ما يشار إليه في الإنجليزية بمصطلح “Therapeutic Writing” ومدى فاعليتها في تحسين جودة حياة الإنسان وفهمه لنفسه والعالم من حوله.

وأختم هنا باقتباس عن مارتن لوثر، أنقله للعربية بتصرف: “إذا أردت تغيير العالم، فامسك قلمك واكتب”.

ندى الحربي


مقالات ذات صلة

رأت ما نشره الكاتب أحمد السعداوي في مجلة القافلة، في العدد الماضي (العدد 700)، تحت عنوان “الرواية.. فن التواضع”، إذ استعرض رأي “جون برين” بخصوص كتابة الرواية الأولى التي أشار إلى أنها تبدو أشبه بالتنويعات على السيرة الذاتية.

ذا أردت أن تقرأ بفاعلية، فاقرأ كتبًا مُعمّرة، أي تلك الكتب القديمة المُتخمة بالدروس الحياتية طويلة المدى؛ كتبًا قديمة ذات قيمة عالية، مليئة بـ “الزبدة” والطاقة الكامنة للمعلومة، ذلك لأنها استمرت طوال السنين وقودًا لتقدم البشرية.

يقول أبو العلاء المعري في واحدة من قراءاته لمستقبل الطفولة: لا تَزدَرُنَّ صِغــارًا في ملاعبِـهِم فجائزٌ أَن يُرَوا ساداتِ أَقوامِ وأَكرِمـوا الطِّفلَ عن نُكـرٍ يُقـالُ لهُ فـإِن يَعِـشْ يُدعَ كَهـلًا بعـدَ أَعــوامِ المعري وهو الذي لم يُنجبْ أطفالًا؛ لأنَّه امتنع عن الزواج طوال عمره، يؤكد من خلال خبرة معرفية أهمية التربية في البناء النفسي للأطفال، […]


0 تعليقات على “أكثر من رسالة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *