يقول أبو العلاء المعري في واحدة من قراءاته لمستقبل الطفولة:
لا تَزدَرُنَّ صِغــارًا في ملاعبِـهِم فجائزٌ أَن يُرَوا ساداتِ أَقوامِ وأَكرِمـوا الطِّفلَ عن نُكـرٍ يُقـالُ لهُ فـإِن يَعِـشْ يُدعَ كَهـلًا بعـدَ أَعــوامِ
المعري وهو الذي لم يُنجبْ أطفالًا؛ لأنَّه امتنع عن الزواج طوال عمره، يؤكد من خلال خبرة معرفية أهمية التربية في البناء النفسي للأطفال، ويحذِّر من سلوكين في التعامل معهم، الأول ازدراؤهم وتحقير لهوهم بعدم اللعب معهم، والثاني التلفُّظ عليهم بألفاظ منكرة. ولهذا التحذير أسبابه، لما لذلك من أثر كبير في أن يعرقل مسيرتهم في الوصول إلى مراكز قيادية. حين “يشبُّ عَمرو عن الطَّوق”، فلا بدَّ لنا من ألَّا نُعكِّرَ نقاء الطفولة بنفوسنا المصابة بأمراض الزمن. لذلك فإن علماء التربية يعدُّون التهميش والقبح اللفظي من أكبر مدمِّرات الطفل، وأن مشاركتهم في الألعاب وتعويدهم الألفاظ المهذَّبة والعبارات المحببَّة يحافظ على فطرتهم وبراءتهم.
ينقل لنا صاحب “العقد الفريد” ترقيصة طريفة لأحد الأعراب، وهو يدلِّل ابنته، فيقول:
كَريمَةً يُحبُّها أبُوها مَليحةَ العَينَينِ، عَذبًا فُوها لا تُحسِنُ السَّبَّ، وإن سَبُّوها
هذه أوصاف خرجت عن المألوف العربي، إذ الاحتفاء بالبنت قليل ونادر، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم:
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ النحل: 58.
عمد هذا الأعرابي إلى ملاعبة هذه الأنثى والابتهاج بها خلافًا للسائد، فهناك مقطوعات تثير الكراهية إزاء البنت بأوصاف تنمُّ عن حالة تطرف في الغيرة والشعور بالعار، كأن يقول أحدهم: “سمَّيتهاإذوُلِدتْتموتُ”، أو يقول آخر: “أحبُّأصهاريإليَّالقبرُ”.
يُعدّ شعر الترقيص شعرًا موجَّهًا للأطفال في مرحلة عمرية مبكرة جدًّا، ممَّا يعني أن العرب خصَّصوا قطعًا شعريَّة للأطفال في معانٍ محدَّدة، وبلغةٍ مُنقادة، فلم يكن شعر الطفولة طارئًا علينا في العصر الحديث. والأمثلة من هذا النوع تكاد تشكِّل ديوانًا كبيرًا لو تتبَّعناها عند الأوائل في كتب الأدب والأخبار وكتب النحو والمعاجم، فهناك كتاب “الترقيص” لمحمد بن المعلَّى الأزدي في القرن الرابع الهجري، الذي جمَّع فيه أغاني المهد، ونقلت شيئًا منه كتب الأدب والأخبار، إلَّا أن الكتاب نفسه مفقود. وعلى كلٍّ، فإن هذه الشواهد مؤشرات إلى أن وجود التربية بالفن قديم في تراثنا العربي، فليست التنشئة قائمة فقط على العناية بالطعام واللباس والصحة، بل كانت هناك التفاتة مبكرة للعناية بالحس الجمالي لدى الطفل وتنمية قدراته الذوقية الأخرى.
المتأمل في القطعة السابقة سيلاحظ أنها تحتوي على كلمات قليلة، وتبدو بإيقاع يثير الانتباه ويحفز على الرقص (مُستَفعِلنْ). فالطفل قد لا يفهم معنى هذه الكلمات، ولكنه يتفاعل مع الصوت وحركة الإيقاع وملامح الوجه، من حيث تجتمع الإثارة السمعية والحركية والبصرية، فالصوت والإيقاع ركيزتان أساسيتان في إيصال متعة الطفل بالشعر في مراحله الأولى، وهذا ما يؤكده اليوم المشتغلون بأدب الطفل.
تقوم هذه القطعة القصيرة على مجموعة من الصفات الحسنة لهذه البنت:
فهي كريمة محبوبة، ومليحة العينين عذبة المقبَّل، إنها صفات جمال ودلال.
ثم يضيف صفة أخرى تختلف عن الباقي، ولكنها تتفق معها بأنها من الصفات الحسنة، وهي صفة في الطباع وحسن التعامل (لا تُحسِن السَّبَّ، وإن سبُّوها)، فهي لا تحسن السب، لأن الطفل بفطرته لا يقابل الألفاظ البذيئة بمثلها هكذا. والأطفال طيور موكّلة بإشاعة البهجة والتغاريد العذبة ما داموا في منأى عمَّا يلوِّث فطرتهم. ومن جهة أخرى فإن كلمة “لا تُحسن” تُعرَف بلاغيًّا بـ”المُشاكَلة اللفظية”، فكأنَّ الجملة: تُحسن الكلام الجميل، ولا تُحسن السب.
اللافت في هذه القطعة أنها صدرت من الأب وليس من الأم. فمعظم شعر الترقيص، إذا لم يكن كله، يصدر عن الأمَّهات، فهنَّ سيِّدات هذا الفنّ، وهذا جانب يعكس رقَّة هذا الأعرابي مع الأنثى، وإحساسه العميق بالطفولة.
إن شعر الترقيص يرسِّخ القيم الفاضلة، فهو مليء بما يثير في الأطفال حسَّهم الجمالي والشعور بالمتعة النفسية فنراهم قادةَ المستقبل، وهو ليس شعر تسلية وإلهاء فقط، إنه عواطف أمومة وأبوَّة تبتهج، فتنسكب كلمات راقصة.
اترك تعليقاً