بدأتُ قراءةَ الصحف حين كنت في الصف الخامس الابتدائي. ومع أني كنت أقرأ فيها كثيرًا من المقالات والأخبار عن كثير من الشؤون والقضايا، لا أتذكَّر أنه علق في ذهني شيء عن شركة “أرامكو”. وكان أول ما أتذكر أني عرفته عن أي شيء له صلة بالشركة يتصل بحدث ربَّما يكون طريفًا!
فقد كانت مديرية الزراعة في المدينة المنورة تُرسل فِرَقًا للمزارع لرش المبيدات حمايةً للمزروعات من الآفات التي كانت تقضي على المحاصيل. وجاءت في أحد الأيام إحدى فرق مكافحة الآفات الزراعية إلى مزرعتنا (وتُسمَّى في المدينة المنورة “البلاد”) لتنفيذ تلك المهمة. ولمَّا انتهت الفرقة من مهمتها دعاهم أهلُنا لتناول القهوة والشاي في “الدهليس”، وهو مجلس للرجال خارج البيوت. وكان من أفراد الفرقة رجل بدا لي من قيافته ومن كلامه مختلفًا عن زملائه. وفيما كنت أباشرهم بالقهوة، سألني ذلك الرجل إن كنت أدرس، فأجبته أني أدرس في السنة الأولى المتوسطة. فقال: أنت تعرف “إنجليزي”، إذًا. ثم بدأ يكلمني بلغة إنجليزية طليقة. ولم أستطع الإجابة عن كثير من أسئلته لمحدودية لغتي الإنجليزية. ثم بدأ يتحدث عن شركة أرامكو التي كان يعمل فيها قبل أن يستقيل منها. وكان حديثه مفعمًا بالمعلومات الطريفة، لا سيما ما يتعلق بطبيعة العمل الجادة والمنظمة فيها، وعن طبيعة العيش في مجمعات العمال السكنية، وعن المنطقة الشرقية وأثر أرامكو في طبيعة الحياة فيها عمومًا. وكان حديثه مشوِّقًا، حتى إني ظللت مدة طويلة أتذكره وأتطلع إلى زيارة أرامكو.
لاحقًا في السنة الأولى الثانوية، كان أحد دروس الكيمياء عن عمليات تقطير الزيت وفصل مكوناته المتعددة بعضها عن بعض. وصحب ذلك كلام المدرس عن إنتاج البترول الذي تقوم به أرامكو. وفي إحدى تلك السنوات، وصل إلى المدينة المنورة معرض متنقل يعرض صورًا سينمائية لعمليات إنتاج البترول في المملكة. وكان من أهم ما عُرض في المعرض، إضافة إلى جانبه التعليمي الخاص بإنتاج الزيت، فِلم يُصور استعدادات الملك عبدالعزيز ورجاله لاقتحام حصن حاكم الرياض، آنذاك، ويمثل العمليات الجريئة التي انتهت باستعادة الملك عبدالعزيز للرياض. وما زلت أتذكر ذلك الفِلم بقدر كبير من “النوستالجيا” عن أداء الممثلين فيه وعن إقدامهم وعن ملابسهم وأسلحتهم.
وتزايدت معرفتي بأرامكو بتزايد قراءاتي، ولا سيما بعد أن اكتشفت مجلة “قافلة الزيت”، التي كانت تتوفر منها أعداد متباعدة في مكتبة ثانوية طيبة بالمدينة المنورة.
ولمَّا جئت إلى الرياض للدراسة في جامعة الرياض (الملك سعود سابقًا ولاحقًا)، ذهبنا أنا وزميلي الدكتور سعود الرحيلي إلى المنطقة الشرقية في إجازة نصف العام بالقطار، وكانت أول تجربة لي في ركوب القطارات، لزيارة أخيه الذي كان يعمل في مدينة الخبر. وليس الخَبَر كالعِيان، كما يُقال. فقد قضينا أنا وزميلي أيامًا جميلة في المنطقة الشرقية تعرّفنا فيها على بعض معالم أرامكو الخارجية، وعدنا بعد ذلك تملؤنا الدهشة مما رأيناه من حياة تختلف عما عهدناه من حياة في المدينة والرياض، من حيث الانتظام الذي يكاد يشبه الساعة في دقته. والأحرى أن انتظام الحياة ذاك كان يعود إلى ما أسسته أرامكو من تقاليد العمل الدقيق في أدائه وفي تواقيته.
وبعد سنوات دعت أرامكو عددًا من الكتّاب والكاتبات السعوديين من مختلف أنحاء المملكة إلى زيارة الشركة، وكنت أحدهم. وكانت فرصةً لي لأطلع عن قرب على عملية استخراج الزيت. وكنت أظن أن الزيت يُستخرج من مكامن تشبه البحيرات، وربَّما كان ذلك بأثر الأفلام الأمريكية التي كانت تصوِّر استخراج الزيت في ولاية تكساس الأمريكية، حيث ينبثق الزيت الخام على هيئة عمود من فوهة البئر المحفورة. لكن ذلك الانطباع تغيّر بفعل ما رأيته من طرق فنية دقيقة تقطِّر الزيت من مسام دقيقة من بين الصخور!
وأخذنا مرافقونا لزيارة حقل “الشيبة” في أعطاف الربع الخالي، وهو أحد الحقول المهمة التي تعمل فيها الشركة. وقضينا يومًا حافلًا كان من مباهجه تسلُّق “الطعس” الكبير المشرف على حقل شيبة، وهو من معالم المكان البارزة. ولمَّا عدنا إلى الظهران استقبلنا رئيس الشركة، آنذاك، معالي المهندس خالد الفالح، استقبالًا حَفيًّا أطلعنا فيه على أعمال الشركة بتفصيل الخبير.
ووافقت زيارتنا لأرامكو احتفال مجلة “قافلة الزيت” بمرور خمسين عامًا على انطلاقها. وقد أُقيم حفل بهيج بتلك المناسبة، كان من فقراته التي لا تُنسى تجلّي المهندس عبدالله جمعة، رئيس الشركة الأسبق، الذي أبان عن معرفة نقدية واسعة وذائقة رفيعة بالموسيقى الكلاسيكية التي كان أحد الشباب السعوديين من منتسبي أرامكو يَعزف مقطوعات منها. وتغنى المهندس جمعة بإتقان أخّاذ بقصيدة الصّمّة القشيري الرائعة التي منها:
بروحيَ تلك الأرض ما أطيبَ الرُّبا
وما أطيبَ المصطافَ والمُتَرَبّعا
وكتبت فيما بعد مقالًا عن تلك الزيارة بعنوان “الأرامكيون”، في صحيفة الوطن (العدد 3772)، 23/2/1432هـ الموافق 27/1/2011م، وصفت فيه ما شاهدته من مظاهر علمية وكفاءة مهنية تدير بها أرامكو هذه الثروة الوطنية.
ومما شدني كثيرًا، آنذاك، أني رأيت المرأة السعودية تعمل في مكاتب الشركة إلى جانب الرجل. ولم يكن ذلك معهودًا، بل غريبًا ومرفوضًا؛ وهو ما حفزني لأكتب في ذلك المقال:
“وتمثل المرأة السعودية التي تعمل في أرامكو نموذجًا مشرفًا من حيث الالتزام بالحشمة والانضباط في العمل والثقة بالنفس. وهذا ما يمكن أن يكون حافزًا للإدارات الحكومية والشركات الوطنية لتوظيف المرأة السعودية القادرة على الإبداع في المجالات كلها، التي يمكن للرجل أن يعمل فيها بعيدًا عن المحاذير الموهومة الشائعة”.
أتُرى أني سأكتب مثل هذه الفقرة اليوم، وقد فُتح المجال لعمل السعوديات في الدوائر الحكومية كلها؟ ما أطول المسافة التي قطعناها في غضون سنوات قليلة!
*الكاتب: ناقد ومترجم وأستاذ لسانيات سعودي
اترك تعليقاً