عادة ما نعمد إلى كتابة التاريخ أو قراءته أو روايته، ولكن هل يمكننا أن نستكشف روائحه؟ هل باستطاعتنا استرجاع الروائح التي لطالما كانت غير ملموسة وعابرة في بيئات المدن الثابتة؟ هذا بالفعل ما سعى إليه مشروع “أدوروبا” الذي نشأ عندما وجّه الاتحاد الأوروبي دعوة إلى الباحثين لمساعدة المتاحف في مختلف أنحاء أوروبا على تعزيز تأثير مجموعاتها الرقمية وخلق تجربة متعددة الحواس لكل زائر إليها. وكما تقول أستاذة التاريخ الثقافي في جامعة “فريجي أمستردام” والباحثة الرئيسة في هذا المشروع، إنجر ليمانز، ذهبت أفكار فريق الباحثين في الحال، إلى الرائحة لأنها تعمل كآلة زمنية قوية يمكنها أن تنقلنا إلى الماضي بفضل قدرتها على إثارة الذكريات المنسية؛ ولأنها أيضًا تتيح لنا الوصول إلى الماضي بطرق أكثر حميمية ومباشرة وعاطفية من اللغة والصور.
أُطلِق على هذا المشروع اسم “أدوروبا”، وهو مصطلح مركب من كلمتي “أدورو Odor” التي تعني رائحـة، و”أوروبا”. أمَّا الهدف الأساس منه، فهو إنشاء موسوعة تكون متاحة على الإنترنت لاستكشاف روائح أوروبا في الفترة التاريخية الممتدة بين أوائل القرن السابع عشر وأوائل القرن العشرين، ومن ثَمَّ إعادتها إلى الحياة. ومنذ نوفمبر 2020م حتى نهاية 2023م، حين أُنجز هذا المشروع الطموح، اجتمعت مجموعة من المؤرخين والعلماء من جميع أنحاء أوروبا، وتعاونوا مع صانعي العطور والكيميائيين والقيّمين على المتاحف لالتقاط روائح أوروبا على مدى حوالي ثلاثة قرون، وكانوا قد انطلقوا في مهمتهم هذه من مجموعة من الأسئلة، مثل: إذا كانت روائح الشوارع الأوروبية اليوم كرائحة القهوة والخبز الطازج والسجائر، فكيف كانت رائحتها منذ مئات السنين؟ ما الروائح التي كانت تُستخدم للقضاء على الأمراض؟ وما الروائح التي كانت مسببة لها؟ وما الروائح التي كانت تُستخدم في المناسبات الخاصة؟ أرادت مجموعة العمل في هذا المشروع تحديد كل هذه الروائح وإعادة تركيب بعضها، مثل: روائح التبغ الجاف والأعشاب الطبية وحتى روائح قنوات الشوارع النتنة.
عمل الباحثون أولًا على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي التي يمكنها أن تستكشف مختلف الصور الرقمية التي تدل على أي نوع من الروائح، والنصوص التاريخية المكتوبة بسبع لغات مختلفة، بحثًا عن أي وصف للروائح، ومن ثَمَّ تسجيلها. بعد ذلك، استخدم الفريق هذه المعلومات لإنشاء الموسوعة الإلكترونية للروائح؛ إذ نجحوا في تحديد أكثر من 120 رائحة، ودوّنوا القصص التي تكمن وراءها. جرى ترتيب الموسوعة في نوعين من الموارد: أولًا، الإدخالات، وهي عبارة عن أوصاف تشبه ويكيبيديا كتبها خبراء في مجالات مثل الكيمياء والعلوم الاجتماعية، ونُظِّمت تحت خمس فئات رئيسة وهي: الروائح والأماكن والممارسات والمشاعر والأنوف، بحيث تكون لكل منها خصوصيتها. وثانيًا، البيانات التي يمكن النقر عليها لاستكشاف قصص عن تاريخ الروائح، والتي تتضمن سلسلة من المواضيع المتشابكة، مما يسمح للقراء بالتعمق في نماذج كثيرة من مشاهد الروائح في مختلف أنحاء أوروبا. على سبيل المثال، إذا ما نُقِر على كلمة “مدينة”، فسينقلنا ذلك إلى “شارع روزماري” في أمستردام، حيث كانت النسوة يصنعن أكاليل من عشبة الروزماري أو إكليل الجبل لاستخدامها في الجنازات، وفي نقرة أخرى نكتشف كيف ساعد البرتقال بالقرنفل في درء مرض الطاعون، ونعرف أن أقدم صيدلية في أمستردام التي تحمل اسم “جاكوب هوي”، كانت مليئة بالنباتات والزيوت العطرية لمكافحة الأمراض، ولا تزال تعمل حتى يومنا هذا.
تتناول هذه الموسوعة الفريدة والأولى من نوعها في العالم، الروائح بوصفها مكوّنًا ثقافيًا مهمًا يمكن من خلاله الاطلاع على كيف ساعدت الروائح في تشكيل العادات والتقاليد والمجتمعات في أوروبا على امتداد أكثر من ثلاثمائة عام تقريبًا. كما أنها تحوّلت إلى مرجع قيّم لكل باحث ومؤرخ مهتم بالتاريخ الأوروبي، ولعلها تكون الرائدة في إنشاء سلسلة من الموسوعات المتعلقة بالروائح في العالم، وربما تكون إحداها على نطاق العالم العربي الغني بتراثه العطري الفريد من روائح البخور والمسك والعنبر والهيل وغيرها.
اترك تعليقاً