مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس - أبريل 2023

أحلامٌ مليئة بالثقوب
مصيدة السرد لدى خوليو كورتاثار


هشام بن الشاوي

مصيدة السرد لدى خوليو كورتاثار

يشبّه سيغموند فرويد الكتابة الإبداعية بحلم اليقظة، فهي بمثابة استمرار أو بديل لما كان في يوم من الأيام لعبة في مرحلة الطفولة. ويُعد خورخي لويس بورخيس أشهر كاتب ارتبط اسمه بالحلم، وحرص على أن يعيش الحياة في الحلم أو الحياة بوصفها حلمًا. أما غاستون باشلار فيرى أن “حلم اليقظة، على عكس الحلم، لا يمكن أن يُحكى. فلكي يُنقل، يجب أن يُكتب، وأن يكتب بعاطفة وذوق رفيع، وبالتالي يُكشف عنه بطريقة أقوى بكثير”. ولكن عند التعامل مع نصوص أحد أبرز كتاب أمريكا اللاتينية، الأرجنتيني خوليو كورتاثار، سنفاجأ به يضرب عرض الحائط بكل ما قيل في هذا الباب.

هشام بن الشاوي

كان كورتاثار يكتب بلا تخطيط مسبق، كما أشار إلى ذلك في بعض قصصه القصيرة. ويروي ماريو فارغاس يوسا بعض ملاحظاته من لقائه بكورتاثار في باريس قائلًا: “في تلك السنوات كان يكتب «الحجلة»، وكان من أكثر الأمور التي فاجأتني رؤية السهولة التي كتب بها مثل هذه الرواية المعقدة فعليًا من دون خطة، ومن دون سيناريو، ومن دون مخطط مسبق. في كثير من الأحيان، سمعته يقول إنه لا يعرف أين ستذهب الرواية اليوم. كان أكثر ما أحببته بالتحديد هو الشعور بالخطر وانعدام الأمان، للجلوس كل صباح من دون أي خطة مسبقة ليتقدم في الرواية التي كان يكتبها، والتي كما تعلمون جعلته يتمتع بشعبية كبيرة”.

سردٌ يُشبه الضباب

يُعتبر الحلم أحد أهم مصادر الكتابة عند كورتاثار، إذ يمنح محكيُّ الحلم رمزيةً وغموضًا شاعريًا للسرد القصصي ويرتقي به. ويتوسل صاحب رواية “الحجلة” بهذه التقنية ليُربك القارئ، ويزج به في هذيان محموم يشبه ضبابًا سرديًا في ليل الحكاية، يختلط فيه الواقع بالأحلام والكوابيس كما في قصة “الليل مستلقيًا على ظهره”، أو يتداخل الحلم مع ذكريات صديق راحل كما في قصة “هناك لكن أين، كيف؟”، أو ذكرى زوجة نفذت تهديداتها وألقت بنفسها في النهر لكي تغادر البيت إلى الأبد في قصة “النهر”. وغالبًا ما يلجأ إلى ذلك في قصص دائرية الحكي، تتلاشى فيها الحدود بين الحلم واليقظة، وتجبرك على إعادة قراءتها أكثر من مرة، بحثًا عن الحكاية الموازية المخفية.. بعيدًا عن سذاجة التحليل النفسي للأحلام وتعسفه.

في مثل هذه المحكيات، تسرد الشخصيات ما عاشته في الحلم، كما لو أن ذلك حدث أو سيحدث في الواقع. ويبدو هذا اللجوء المتكرر إلى الأحلام كنوع من التسامي غير المعني بما وصلت إليه نظريات علم النفس. فهذه التجربة اللاواعية لن تكون وسيلة تخدير أو جسر هروب من مواجهة الحقيقة المرة والقاسية، بل يغدو الحلم مصيدة سردية، تتأرجح بين زمنين ومكانين متناقضين، كما في قصة: “الليل مستلقيًا على ظهره”، التي صُنفت كواحدة من أفضل مائة قصة قصيرة في الأدب العالمي، ولم تفقد قدرتها على إدهاش القراء والنقاد مذ نُشرت ضمن كتاب “نهاية اللعبة”، الذي صدر عام 1956م بالمكسيك وتُرجم إلى عدة لغات.

والطريف في هذه القصة، التي تهجو ديكتاتوريات بلدان أمريكا اللاتينية من وراء جلباب إمبراطورية “الأزتيك” القديمة، أن كورتاثار استلهمها من حادث مروري تعرّض له في باريس عام 1953م، بسبب سيدة عجوز لم تكن تفرق بين الضوء الأخضر أو الأحمر، فعبرت الشارع في اللحظة التي كان يمر فيها بدراجته النارية.

  • يُعتبر الحلم أحد أهم مصادر الكتابة عند كورتاثار، إذ يمنح محكيُّ الحلم رمزيةً وغموضًا شاعريًا للسرد القصصي ويرتقي به. ويتوسل بهذه التقنية ليُربك القارئ، ويزج به في هذيان محموم يشبه ضبابًا سرديًا في ليل الحكاية، يختلط فيه الواقع بالأحلام والكوابيس

التشابك بين الحلم والواقع

هكذا يجد المصاب المحموم نفسه غارقًا في حلم غريب، وهو مستلقٍ على ظهره، تمامًا كذلك الرجل الهارب من الموت، الذي سيجد نفسه في آخر القصة/الحلم ممددًا فوق صخرة القرابين. “كان حلمًا غريبًا لأنه كان مليئًا بالروائح، وهو لم يكن يحلم أبدًا بالروائح..”. وهكذا يستعيد الرجل حلمه، وهو يتذكر مغادرته للفندق على متن دراجته النارية، “يحاول أن يثبت لحظة الحادثة، لكنه غضب عندما لاحظ أن هناك ما يشبه الثقب؛ فراغٌ لم يكن يستطيع ملأه. ما بين الصدمة واللحظة التي رفعوه فيها عن الأرض، ثمة إغماءٌ أو عارض آخر لم يكن يسمح له برؤية أي شيء. وفي الوقت نفسه، كان لديه شعور بأن ذلك الثقب، ذلك اللاشيء، قد استدام إلى الأبد”.

وحتى عندما خرج الرجل من الحلم إلى ليل المستشفى فكر بأن يصرخ، لكن مجاوريه كانوا ينامون في هدوء. ولعل أكثر ما يربك القارئ هو ذلك التشابك بين الحلم والواقع أو التداخل بين الوعي واللاوعي في آخر الكابوس، فعندما رأى الرجل البدائي الخنجرَ الحجري، تمكن رجل المستشفى من إغلاق عينيه، وكان يعرف في تلك اللحظة أنه لن يستيقظ، وأنه كان مستيقظًا، وأن الحلم الرائع كان حلمًا آخر سخيفًا مثل كل الأحلام.

في قصة “في عمق الماء”، المنشورة أيضًا ضمن مجموعة “نهاية اللعبة”، يتقمص الأسلوب شكل مونولوغ أو مناجاة شاعرية، يحكي فيها الراوي لماوريسيو، الذي زاره في بيته بالدلتا، عن حلم كان يربطه بصديقهما المشترك لوسيو.

تتداخل الذكريات والأحلام إلى حد إرباك القارئ، عندما يجد الراوي نفسه مجبرًا على سد فجوة الذكريات بالكلمات والصور. ولأن الذاكرة تعرف ما يجب أن تحافظ عليه كاملًا، سيختار أن يروي الحلم لماوريسيو، كما قصه على لوسيو، معترفًا بأنه لا يخترع أي شيء. فهو يأتي إلى ذلك المكان، وفي الحلم كان يعرف أن القناة عميقة وخطيرة. سأله لوسيو: “كيف تتذكر التفاصيل؟”. بدا وكأنه يتوقع ما كان يقوله، كما لو كان خائفًا من أن ينسى فجأة بقية الحلم. وهكذا يحتاج الراوي إلى العودة إلى حافة الماء، إلى حافة النوم، يكافح من أجل التذكر، وهو يريد بالضبط ما لا يريده شيءٌ بداخله، ثم يعترف لماوريسيو أن صديقهما لوسيو قد عاتبه على أن هذا كان حلمه، متهمًا إياه بأنه كان “يحلم حلم شخص آخر”.

بأسلوب شاعري، اختار كورتاثار أن يكتب عن الاغتراب والإحساس بالضياع والقلق الوجودي في محكيات الأحلام، التي لا ينبغي أن نتعامل معها بأدوات التحليل النفسي، كما يشي بذلك هذا المقطع الآسر من قصته الرثائية “هناك لكن أين، كيف؟”: “كان علي أن أقوله وأنام مرة أخرى، وأحيا حياتي كأي شخص؛ أن أبذل ما في وسعي لأنسى أن باكو لا يزال هناك، أن لا شيء ينتهي لأنني غدًا أو العام المقبل سأستيقظ على يقين من أنه ما زال حيًا كما هو الآن، وأنه دعاني لأنه ينتظر شيئًا مني، وأنني لا أستطيع مساعدته لأنه مريض، لأنه يحتضر”.


مقالات ذات صلة

المقهى فضاء سوسيولوجي بامتياز كما يُقال؛ فهو مكان للتجمع المفتوح لكلّ النّاس من مختلف الأعمار، ما جعله مُلهم الأدباء وحاضن الثقافة.

وقت الاستبدال قد حان، ودورة الحظ التفتت أخيرًا!

طيران
أبي الذي لا يشبهُ الطيورَ
ليسَ يشبهُ الرياحْ
ورغم هذا
طارَ للسماءِ دونما جناحْ!…


0 تعليقات على “أحلامٌ مليئة بالثقوب.. مصيدة السرد لدى خوليو كورتاثار”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *