أحكم أسلوبه السهل فنقش أعماله في ذاكرة الجمهور
بهاء طاهر.. شروقٌ يتجدَّد رغم ”الغروب”!
“ماذا لو أنَّا نموت معًا، لو أن الناس كالزرع ينبتون معًا ويُحصدون معًا، فلا يحزن أحد على أحد، ولا يبكي أحد على من يُحب”. تلك أمنيّة عبّرَت عنها إحدى شخصيات رواية “شرق النخيل”، للروائي والقاص والمترجم المصري بهاء طاهر، (1935 – 2022م)، أبرز المتربعين على قمة جيل الستينيات الأدبي، والذي بقيت حروفه تشبه شخصيته تمامًا، حيث البساطة والعذوبة والقدرة على صنع الدهشة، مع التجديد المستمر في القوالب الروائية والقصصية، التي رسخت مكانته الإبداعية في الوجدان الجمعي.
د. سمير محمود
في عام 1988م تعرّفتُ عوالم بهاء طاهر الأدبية الساحرة؛ حينها كنا نحن طلاب كلية الإعلام بجامعة القاهرة على موعد مع محاضرات في الأدب العربي، ندرس فيها مختارات من الشعر والقصة والرواية، كان من بينها مجموعته القصصية “أنا الملك جئت”. يومها بدأت علاقتي ببهاء طاهر؛ علاقة قارئ مشغوف بأديب مبدع، لم تلبث حتى تطورت إلى محادثات هاتفية عبر الهاتف الأرضي، ولم تنته بموعد مقابلة صحافية اعتذر عنه بهاء لسفره لأوروبا فلم تتم قطّ!
عدت لكتبي وأوراقي القديمة باحثًا عن بهاء، وسط عفوية تساؤلاتي التي لا تنتهي، وتعليقاتي المحفورة على جدران ذاكرتي وهوامش كتبي ودفاتري القديمة من أواخر ثمانينيات القرن الماضي؛ فتحت رواية «قالت ضحى»، فوجدت مصر هناك دائمًا وأبدًا تبوح بوطن الستينيات الحالم؛ وما أكثر الأحلام التي تولد فتوأد مخلفة خيبات أمل لا تُبقي ولا تذر.
صانع الدهشة
أنتج بهاء طاهر على مهل تراثًا أدبيًا زاخرًا، تاركًا على كلّ عمل بصمات إبداعية تدلّ عليه، لدرجة أنه لا يكاد يتشابه لديه عملان، فقد ترك خلفه ستّ روايات وبضع مجموعات قصصية، وبعض الكتب والدراسات النقدية والمسرحية والترجمات، التي صارت علامات أدبية حجزت موقعًا لها في الصدارة خلال العقود الأخيرة وحتى الآن.
بين أعماله: المجموعة القصصية “الخطوبة” التي صدرت في العام 1972م، ومجموعته الشهيرة “أنا الملك جئت”، ورواياته: “شرق النخيل” 1985م، و”قالت ضحى” 1985م، و”نقطة النور”، و”واحة الغروب” التي حصدت الجائزة العربية للرواية العالمية “البوكر” في دورتها الأولى عام 2008م، وكذلك “خالتي صفية والدير” و”الحب في المنفى”، وكلتاهما روايتان تحولتا إلى مسلسل تلفزيوني، و”ساحر الصحراء”، وهي ترجمة لرواية الخيميائي لباولو كويلو، و”في مديح الرواية”، وصولًا لمجموعته القصصية الأخيرة والمدهشة “لم أعرف أن الطواويس تطير”. ولبهاء أيضًا عشر مسرحيات، وقد حصدت معظم أعماله جوائز مصرية وعربية وعالمية رفيعة، أتاحت لبعض تلك الأعمال فرصة الترجمة إلى عدة لغات أجنبية.
أما عالم بهاء طاهر الروائي فيفصح عن صنعة روائية محكمة، وتجديد مستمر في معمار الرواية، وقدرة على صنع الدهشة والتخييل، وتوظيف للمفارقة المفعمة بالإنسانية والقيمية الأخلاقية، بلغة سحرية واقعية في بساطتها لا صراخ فيها، وفلسفة يؤمن بها ويضخها في مفاصل الأحداث وشرايين الشخصيات، التي تجدها في كل عمل متوافقة مع سياق ظهورها ومبرر وجودها، بما تعتقده وتؤمن به، وما تنطق به أو تسلكه من مسارات ودروب في رحلة الحياة، وبقراراتها واختياراتها المعقدة والمتشابكة في أحيان كثيرة. المتابع لهذا العالم الساحر، يدرك في “قالت ضحى” مثلًا، أن عجلة الزمان قد توقفت لعقود منذ الخمسينيات، أو أن التاريخ قد أدار لنا ظهره ومضى، ليعود إلينا بشحمه ولحمه وناسه وأحداثه، وإن تغيرت الوجوه وتبدّلت الأسماء.
لقد أبدع طاهر في وصف الظلم والقهر، كما أبدع في استنهاض العدل الغائب: “آلاف الناس يُصفعون كل يوم ولكن قليلًا منهم من يشعر بالإهانة أو الغضب. قليلٌ منهم يا سيد من يصيبهم ذلك المرض الذي أصاب أباك والذي يصيبك أنت الآن. مرض العدل”، من رواية “قالت ضحى”.
لا يستعير أصابع غيره!
وُلدَ بهاء طاهر في صعيد مصر لأب كان معلمًا للغة العربية، والتحق بالمدرسة، والكُتَّاب حيث أتقن حفظ أجزاء من القرآن الكريم. أما العامل الأكبر في تكوينه ومحافظته على لهجته الصعيدية برغم سنوات اغترابه في أوروبا فكان والدته، التي حوّلت منزل الأسرة بالجيزة لساحة استقبال الأهل والأقارب من صعيد مصر.
مكتبة والده العامرة بكتب التراث الديني والتاريخي والأدب العربي، خاصة أشعار البحتري والمتنبي وأبي تمام، كانت رافدًا مهمًا في سنوات تكوينه الأولى، أما ما استقر معه منذ الطفولة حتى وفاته فهو افتتانه الشديد ببلاغة عبدالله ابن المقفع ولغته في كتابه “كليلة ودمنة”، تلك اللغة شديدة السهولة والعصية على من يحاول تقليدها. ولم يُخفِ بهاء طاهر إعجابه الشديد بعمق وتفاصيل تجربة عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، وقد أورد شهادته بشيء من التفصيل عنه وعن بعض أبناء جيله في كتابه “أبناء رفاعة – الثقافة والحرية”.
أما لغة القصة المثالية لديه، فوجدها عند يحيى حقي على حد قوله، حيث البساطة المتأصلة في كتاباته والقوة الكامنة في لغته. ولا يُخفي بهاء، الحاصل على ليسانس التاريخ من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1956م، ودبلوم الدراسات العليا في الإعلام شعبة الإذاعة والتلفزيون عام 1973م، تأثره بعذوبة أسلوب الكاتب الصحفي محمد التابعي، خاصة كتابه “من أسرار الساسة والسياسة”، حيث يصف أسلوبه بأنه نوع من الكتابة التي تجعلك ما إن تبدأ في القراءة حتى تنهمك فيها حتى النهاية دون أن تدرك الوقت، والأهم أنك لا تجد لفظًا واحدًا صعبًا على الفهم.
وفي عام 1964م، وصف يوسف إدريس بهاء طاهر، لدى نشر أولى قصصه القصيرة بعنوان “المظاهرة” في مجلة “الكاتب”، بأنه “كاتب لا يستعير أصابع غيره”، في إشارة إلى تميّز أسلوبه وتفرده، كما وصفه قائلًا: “وكأنه كلما لمس شيئًا تحوَّل إلى ذهب”.
كما أسهمت دراسته للتاريخ في تعميق رؤيته للعالم، واتسمت أعماله بالدهشة والتجديد، عبر أسلوب سهل ممتنع، ولغة مفعمة بالإنسانية والسلاسة، تنأى بكتاباته عن المبالغات والزخارف البلاغية الشكلية، فكانت أشبه بومضات هامسة طيلة مسيرته الأدبية المغلفة بالصمت، حتى صُنف أدبه بالأدب الهامس، من حيث كان يتبنى التغيير دون وعظ مباشر أو صراخ صريح في معظم الأحيان.
الهمّ الإنساني
عمل بهاء طاهر مدة من حياته مذيعًا في إذاعة البرنامج الثاني، الذي كان من بين مؤسسيه عام 1957م. ثمّ هاجر ليعمل مترجمًا بالأمم المتحدة، واستقر به المقام في جنيف في المدة من 1981م حتى 1995م، وهي المدة التي شهدت خِصب إنتاجه الأدبي من الإبداع الروائي والقصصي، الذي رأى بعض النقاد أنه جاء متأثرًا بحياة الكاتب في الغرب، خاصة في قصة “بالأمس حلمت بك” التي كتبها خلال إقامته بجنيف لسنوات طويلة.
وحاول بعض النقاد أن يعمّموا هذا التأثر على مُجمل أعماله اللاحقة، ومنها “الحب في المنفى”، حيث حصروها في مناقشة علاقة الشرق بالغرب، وهو ما نفاه طاهر أكثر من مرة، مؤكدًا أن العلاقة بالغرب لم تكن تشغله، ولكن العلاقة بالآخر المختلف في اللون والدين والجنسية هي شغله الشاغل؛ وهو تصور إنساني أشمل تمكّن من تجسيده في معظم كتاباته، التي فكّكت الواقع المألوف وأعادت تركيبه مرة أخرى بنظرة أعمق وفهم أفضل، عبر الغوص في أعماق النفس الإنسانية، وعبر طرح أسئلة متجددة عن ماهية الحياة والوجود، وهذه الأسئلة تستفز القارئ لكي يجيب عنها ويقدم قراءاته الجديدة للنص، وتلك نظرة أوسع من منظور العلاقة بين الشرق والغرب، فالهم الإنساني واحد، وعلى الكاتب أن يحتضن المقهورين في قلبه وفي قلمه.
ذاكرة الجمهور
في كتابه “في مديح الرواية”، الصادر عن دار “الشروق” عام 2018م، يقول بهاء طاهر: “إن القارئ المدرَّب قادر على اكتشاف الرواية الحقيقية من الزائفة. غير أن كل رواية تحتاج إلى اجتياز اختبارين مهمين. الاختبار الأول هو حكم الجمهور، غير أنّ هذا الحكم قد يصيب وقد يخطئ؛ بمعنى أنّ بعض الروايات قد تلقى بعد صدورها رواجًا جماهيريًّا ونجاحًا كبيرًا لأسباب لا علاقة لها بالفن، في حين أن روايات أخرى عظيمة قد تفشل لدى جمهور قرائها المعاصرين، وقد يعجز عن تذوّقها. وأكرّر أن ذلك يحدث في بعض الحالات فقط، وفي كثير من الأحيان يكون حكم الجمهور صائبًا”.
“أمّا الاختبار الثاني أو الحكم النهائي الذي لا نقض فيه ولا إبرام – بلغة أهل القانون – فهو اختبار الزمن. فمع مرور السنين تسقط من ذاكرة الجمهور والأدب الروايات التي لا تستحق الاعتبار، في حين تصبح الروايات الحقيقية جزءًا من الذخيرة الباقية للفن الروائي، وتكتسب حياة متجدّدة مع الأجيال المتتابعة من القرّاء. وأنا أعتبر هذا الدرس البسيط هو أهم ما تعلّمته من تجربتي كقارئ للرواية وكاتب لها، لا تخدعني مهرجانات المديح لروايات بعينها، ولا حملات الهجوم على غيرها”.
رحل بهاء طاهر في السابع والعشرين من أكتوبر 2022م إلى واحة أخرى غير “واحة الغروب”، التي أوضح فيها فلسفته حول الموت بقوله: “لم أفهم معنى ذلك الموت، لا أفهم معنى للموت.. لكن ما دام محتمًا فلنفعل شيئًا يبرر حياتنا”، لكنّ أعماله ستبقى تتمدد في ذاكرة الزمان لتعيش عمرًا أطول من صاحبها، فأعماله الأدبية تشبه سبائك الذهب الخالص، والحكم عليها سيكون للزمن، ولذائقة الجمهور عبر الزمن!
اترك تعليقاً