كيف تحوّلت الأعمال الفنية إلى سندات خزينة؟
حتى أواخر عصر النهضة، كان الفنانون يرسمون بناء على طلبات مباشرة من العملاء من دون المرور بأي وسيط. وفي القرن السادس عشر، ظهر في هولندا أول تجّار للفن المعاصر، إذ أخذوا يبيعون لوحات لفنانين ما زالوا على قيد الحياة أو ماتوا قبل وقت قصير. وكانت هذه اللوحات في معظمها ذات طابع تزييني مثل الزهور أو المناظر الطبيعية. وبموازاة ذلك، كان الملوك والأثرياء يشترون بعضهم من بعض الأعمال القديمة في صفقات مباشرة، لا يمكن وصفها فعلًا بأنها سوق. وظل الأمر على هذه الحال حتى القرن التاسع عشر.
تأسيس سوق الفن التي نعرفها اليوم
في عام 1825م، خطر لصاحب مكتبة في باريس يدعى جان دوران أن يضيف إلى القرطاسية بعض المواد التي يحتاجها الرسامون مثل الألوان وقماش الكانفاس. فكان الأمر مناسبة لأن يتعرف على بعض الفنانين الذين كانوا يعطونه بعض اللوحات مقابل ما كانوا يأخذونه من المكتبة. وكان دوران يعرض هذه اللوحات للبيع أو للإيجار. وتعتبر هذه الخطوة الصغيرة الحجر الأساس الذي أضاف الفن إلى الذهب والنقد النادر ليصبح بدوره نقدًا نادرًا وجزءًا لا يتجزأ من اقتصاد عالمنا اليوم.
ونتيجة لسياسة نابليون الثالث غداة ثورة 1848م، عرفت البرجوازية الفرنسية رخاء اقتصاديًا غير مسبوق. وأدت إعادة تخطيط مدينة باريس على أيدي المهندس جورج هوسمان إلى ظهور آلاف الأبنية الجديدة المُعدة للبرجوازية، والتي كانت تحتاج حكمًا إلى أعمال فنية ولوحات لتزيينها. وللاستفادة من هذا الرخاء، بدأ تجّار اللوحات يقتصرون في أعمالهم على اللوحات فقط. ونظرًا لازدهار أعمالهم عمّت هذه الظاهرة مدنًا أوروبية عديدة ووصلت بسرعة إلى أمريكا وأصقاع عديدة من العالم. فما هو النظام الذي أرساه هؤلاء التجار لسوق الفن المعاصر؟
آلية السوق ومراحل ترقية القيمة
عادة، يفتح التاجر صالته في مرحلة أولية لعرض أعمال فنان جديد بدا له موهوبًا أو متميّزًا قليلًا أو كثيرًا عن غيره. ومقابل تقديمه إلى الهواة والنخبة الاجتماعية والثقافية والترويج الإعلامي له، تأخذ الصالة نسبة مئوية معيّنة من هذه الأعمال لتبيعها لاحقًا. وغالبًا ما تلزم الصالة الفنان بعقد لإقامة أكثر من معرض له على مدى بضع سنوات. وبتكرار هذه المعارض في الصالة أو المدينة نفسها، هناك واحدة من نتيجتين: إما إحجام الناس عن شراء هذه الأعمال فيدخل الفنان طي النسيان والإهمال، وإما الإقبال عليها. وفي حال الإقبال الجيد، ترفع الصالة أسعار أعمال هذا الفنان بنسب مئوية محدودة من سنة إلى أخرى ووفق العرض والطلب. فهذه المرحلة هي الأصعب، وفيها يتقرر مستقبل الفنان ومدى جدوى استثمار الصالة التجارية فيه.
تبدأ المرحلة الثانية من هذا النظام عندما يكون التاجر أو عدة تجّار قد تمكنوا من دمج هذا الفنان وأعماله في النسيج الثقافي للمجتمع، الأمر الذي يؤدي إلى كثرة الطلب على أعماله وبالتالي ارتفاع ثمنها. وهنا، لا يعود بإمكان المتاحف أن تبقى غير مبالية، إذ يصبح لزامًا عليها أن تقتني بعض أعمال هذا الفنان حفاظًا على صدقية تعبيرها عن النسيج الثقافي والفني العام. ولكن المتاحف من جهة والهواة من جهة أخرى يشترون الأعمال الفنية لسببين متناقضين.
فالمتاحف تريد امتلاك ما تمتلكه المتاحف الأخرى، لضمان تمثيل ثقافي أفضل. فإذا كان متحف الفن الحديث في باريس يمتلك لوحة لبيكاسو، يصبح على كل متاحف الفن الحديث أن تمتلك لوحات للفنان نفسه، وينطبق هذا على الفن القديم أيضًا. أما الهواة فيريدون امتلاك ما لا يملكه الهواة الآخرون لضمان الندرة وشدة المنافسة والسيطرة بشكل أكبر على الأسعار لاحقًا. وهذا ما يضع الهواة في منافسة مع بعضهم من جهة، والمتاحف في منافسة مع جميع الهواة دفعة واحدة. وهنا يصبح التاجر صاحب السلطة المتحكمة بالعرض في مواجهة الطلب. وكلما ارتفعت أسعار أعمال فنان ما وشهرته، ازداد الاهتمام به من قبل القادرين على الشراء. وكلما ازداد هذا الاهتمام، كثر الطلب على هذه الأعمال ليصبح تداول أعمال الفنان الواحد أشبه بتدحرج كرة الثلج، فترتفع الأسعار بشكل شبه متواصل. ولتعزيز الصدقية والثقة بأن هذه اللوحة أو تلك تستأهل ثمنها هذا، يتحالف التاجر مع دُور المزاد العلني التي تترك المشترين يحددون علنًا الثمن وفق ما يرتؤون، وفق تقديرات تتضمن ترجيحًا بين سعرين، بحيث لا يمكن البيع بأقل من الأدنى، ولكن يمكن بكل سرور البيع بأعلى من التقدير الأقصى.
ووفق مبدأ العرض والطلب تلعب ندرة السلعة دورًا كبيرًا في تحديد ثمنها. ولكن هذا لا يعني أن النادر جدًا هو بالضرورة أغلى من غيره، إذ يجب أن تتوفر منه كمية معينة كي يصبح قابلًا للتداول باستمرار، مثل الذهب الذي ما كان ليحظى باهتمام العالم يوميًا لو لم يكن في العالم غير سبيكة واحدة منه. والنادر في الفن لا يختلف عن النادر في السلع الأخرى. غير أن الأمور تتعقد قليلًا هنا، إذ يدخل عامل الشهرة كمؤثر كبير. والشهرة تعني هنا أمرًا واضحًا: أن يكون الفنان قد دخل في النسيج الثقافي لبيئته في عصر معيّن. فالخبراء ينصحون بشراء ما صنع شهرة هذا الرسام أو ذاك، وليس ما صنعه بشكل استثنائي. ولكن ما صنع شهرة هذا الرسام يجب أن يبقى قليلًا ونادرًا أو لنقل محدودًا عدديًا. فما هو مقياس الندرة؟
تُقاس النُدرة في سوق الفن بالقدرة على الاستيعاب فقط بغض النظر عن الأعداد. فقد ترك بيكاسو وراءه أكثر من 13 ألف لوحة ورسم، ولكن أعماله نادرة بسبب استيعاب السوق لكل ما يحمل توقيع هذا الفنان. ولا شيء يطمئن المستثمر أكثر من محدودية الأعمال المشابهة للعمل الفني الذي استثمر فيه.
اشترِ بسعر مرتفع وبِع بسعر أعلى
القاعدة العامة في التجارة التي تقول اشترِ بأدنى سعر ممكن وبع بأعلى ما يمكن، لا تنطبق كليًا على سوق الفن. ففي حادثة شهيرة ونموذجية في تاريخ الاتجار بالأعمال الفنية، سأل تاجر الفن القديم جوزف دوفين سيدة كانت تريد بيع لوحة للرسام تيسيان عن الثمن الذي تطلبه، فأجابته بتردد: “لا أعرف.. مليون فرنك فرنسي؟” فكان تعليقه: “من الغباء بيع هذه اللوحة بمليون. إنها تساوي خمسة ملايين”. وهو الثمن الذي دفعه هو نفسه لهذه اللوحة. فشراء التاجر للعمل الفني بسعر مرتفع يصبح أمرًا ضروريًا عندما تكون احتمالات إعادة البيع واردة خلال وقت قصير، إذ يجب أن يكون هناك تناسبًا بين سعر المشترى وسعر المبيع. ولأن تجار الفن المعاصر من أصحاب الصالات ودور المزاد العلني يتقاضون نسبة مئوية من المبيعات، يصبح الشراء بسعر مرتفع للبيع بسعر أعلى أمرًا مجديًا أكثر.
دروس من قائمة الأغلى ثمنًا
الأرقام تسبب الصداع. إذ تعرض مواقع إلكترونية عديدة قوائم باللوحات الأغلى ثمنًا في العالم، ومنها قائمة “ويكيبيديا” التي تحتوي على 89 لوحة تتراوح أسعارها ما بين 70 مليون دولار للوحة للرسام الصيني زاو ووكي، و450 مليون دولار للوحة ليوناردو دافنشي “منقذ العالم”. وهذه اللائحة غير كاملة بالطبع، لأنها لا تتضمن عمليات البيع بين جهات خاصة لا يُعلن عنها، أو حتى إذا أُعلن عنها، فغالبًا ما يبقى الثمن سرًا. في هذه القائمة، نجد 13 لوحة فقط رُسمت قبل منتصف القرن التاسع عشر. والباقي كله من الرسم الحديث. والأكثر حضورًا ضمن هذه القائمة هو فان غوخ الذي لم يبع غير لوحة واحدة عندما كان حيًا.
واللافت في هذه القائمة، أن المتاحف تكاد تكون غائبة عن قائمة المشترين، الذين هم في معظمهم أفراد أو جهات خاصة. فالمتاحف التي تشتري لدافع ثقافي هو ضمان صحة التمثيل، لم تعد بحاجة إلى المزيد من أعمال فان غوخ وبيكاسو، فتركتها للقطاع الخاص والسوق.
واللافت أيضًا في هذه القائمة أنها لا تضم أيًا من اللوحات التي كانت الأغلى ثمنًا في العالم قبل نصف قرن، أي أن البضاعة الجديدة في السوق كسفت البضاعة القديمة، من دون أن يعني ذلك أن تلك خسرت شيئًا من قيمتها.
سندات خزينة من نوع جديد
في جمع الاستنتاجات من كل ما تقدم، يمكننا القول إن ما يحدد القيمة التجارية لعمل فني هو الآتي:
• مدى الاندماج الذي حققته أعمال الفنان في النسيج الثقافي العام لمجتمعه، لضمان حصول اعتراف عام بهوية العمل الفني على أوسع نطاق ممكن.
• الابتكار والتميّز في العمل الفني المطروح للبيع، والمقصود بذلك أن يكون ذا بصمة خاصة يسهل تمييزها عن أي عمل مجاور. هذا يضع العمل الفني ضمن تراتبية معيّنة مقارنة بما تعرضه السوق من أعمال أخرى، ويجب أن تكون هذه الرتبة أعلى من قيمة الأعمال التزيينية التي تبقى دائمًا ذات قيمة تجارية دنيا وشبه ثابتة.
• محدودية الإنتاج، بغض النظر عن الأرقام والأعداد. وهذا ما يفسّر ارتفاع أسعار الأعمال الفنية بشكل عام بعد وفاة منتجيها.
• أن يكون حضور العمل عند أصحابه السابقين موثقًا لضمان أصالته وتبديد الظنون بالتزوير. وكلما كان أصحابه السابقون معروفين ومرموقين اجتماعيًا، كلما تعززت قيمته التجارية. وهذا الدور باتت تقوم به جزئيًا دور المزاد العلني.
• الأحوال الاقتصادية العامة، ودور التضخم وانخفاض قيمة النقد.
وهذه المواصفات تنطبق في جوهرها على مواصفات سندات الخزينة التي تصدرها المصارف المركزية. فهي موثوقة لأنها صادرة عن مؤسسات رسمية، ومتميّزة عن الأوراق النقدية المتداولة يوميًا بأنها ذات قيمة اسمية أكبر من أي ورقة نقدية، ومحدودة العدد والحجم ومرقمة، لا قيمة لأي نسخة عنها، ويمكن استبدالها بالنقد عندما يشاء صاحبها.
أما الوصول إلى سعر محدد، أي 195 مليون دولار وليس 175 مليونًا مثلًا، فلا يخضع لما يضبطه غير العرض والطلب والمنافسة، كما هو حال كل الأشياء غير القابلة لإعادة الإنتاج مثل الأراضي والأحجار الكريمة. ولكن الوصول إلى ثمن ما خلال تنافس المشترين في مزاد علني، يرسي مستوى معينًا ليس لقيمة العمل الفني المباع فقط، بل أيضًا لباقي أعمال الفنان.
لوحة وارهول مثلًا..
لتطبيق ما سقناه سابقًا، يمكننا تناول لوحة أندي وارهول التي أشرنا إليها في المقدمة. فهذا الرسام كان من روّاد الفن الجماهيري (البوب أرت) في أمريكا، أي أنه ابتكر وجدّد في الفن القائم. ومنذ بداية الستينيات من القرن العشرين، أصبح جزءًا بارزًا من النسيج الثقافي في مدينة نيويورك المعروفة بانفتاحها على كل ما هو جديد. وكان مرسمه الذي أسماه “المصنع” مقصدًا لنجوم السينما والإعلاميين والفنانين، يطلبون منه أن يرسمهم بأسلوبه الجديد والمبتكر. كما أنه توفي عام1987م. أي أن ما تركه من لوحات بات محدود العدد، لا يمكن أن يُعرض منها ما يفوق الطلب. أو لنقل إنها قابلة للاحتكار، لأن عرضها مرهون بإرادة التجّار.
وبالانتقال إلى لوحته “مارلين بالأزرق الرمادي”، فهي واحدة من خمس لوحات رسمها دفعة واحدة بتفعيلات لونية مختلفة، وأسمى كل واحدة منها “مارلين باللون (كذا)”. كما أن هذه المجموعة تندرج ضمن مجموعة أكبر من صور فنانين وأعلام رسمهم وارهول بتقنية الطباعة الحريرية نفسها، أي أنها تندرج ضمن ما صنع شهرة هذه الرسام وما يصنعه عادة.
ولكن هذه اللوحات تعرضت لحادثة، تمثّلت في أن فنانة أدائية تدعى دوروثي بودبر دخلت ذات مرة إلى “مصنع” وارهول وأخرجت من حقيبتها مسدسًا صغيرًا وأطلقت رصاصة على اللوحات التي كانت مرصوفة فوق بعضها في الزاوية فأصابت أربعًا منها. وكان للحادثة أصداؤها في مدينة نيويورك. فهي فعلت ذلك نتيجة كراهية شخصية لوارهول، ولكن فِلمًا وثائقيًا بعنوان “كيف ترسم أرنبًا” صنّف عملها هذا على أنه من “ضمن فنّها الأدائي”. ومهما كانت حقيقة الأمر، فإن هذه الحادثة أدت إلى مزيد من الشهرة لهذه اللوحات التي رممها وارهول. فصارت تُعرف باسم “مارلين باللون (كذا) التي اُطلق عليها الرصاص”. ولذا فالاسم الكامل للوحة التي نحن بصددها هو “مارلين بالأزرق الرمادي (سيج بلو) التي أُطلق عليها الرصاص”. فإلى ندرتها الأولية زادت الحادثة وما رافقها من ضجيج إعلامي من شهرتها وتفرّدها.
ومنذ السنوات الأولى التي أعقبت الحادثة، دخلت هذه اللوحات الأربع سوق الفن من بابها العريض، إذ بيعت “مارلين الفيروزية التي أطلق عليها الرصاص” عام 1967م بمبلغ 5 آلاف دولار للهاوي بيتر برانت. و”مارلين الحمراء..” اشتراها الثري اليوناني فيليب نياركوس عام 1994م بمبلغ 3.6 مليون دولار. أما البرتقالية فقد اشتراها الملياردير ساي نيوهاوس عام 1998م بنحو 17 مليون دولار، وبعد وفاته انتقلت إلى مستثمر آخر هو كينيث غريفن مقابل 200 مليون دولار.
وعليه، يمكن الجزم أن المستثمر المجهول الذي اشترى “مارلين بالأزرق الرمادي التي أطلق عليها الرصاص”، لم يصرف 195 مليون دولار للاستمتاع بجمالها مهما كان يراها جميلة. بل اشترى سند خزينة وحيدًا من نوعه ومضمون القيمة. وبسبب ثمنها الفلكي، فإن عرض هذه اللوحة في بيت أو قصر ينطوي على خطورة كبيرة حتى ليمكن القول إن عرضها أمام الأعين غير وارد. ولذا من المرجّح أن تكون قد استقرت في ظلام خزنة حديدية غير قابلة للاختراق، إلى جانب سندات خزينة حقيقية، بانتظار ما سيحمله المستقبل على صُعد الاقتصاد والتضخم وحركة السوق.
كل التحية والتقدير لجهودكم .. فريق رائع وموضوع جميل الكثير من المهتمين والممارسين يحتاجون هذه الإضاءات ..
كل الشكر .. ود وتحايا