مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2024

العلم خيال

آلات الحركة الدائمة
العلماء ما زالوا يحلمون


حسن الخاطر

استحوذت الحركة الدائمة على خيال العلماء منذ حوالي ألف سنة. وتعددت محاولات تحقيق هذا الحلم بإنشاء آلات تعمل بشكل دائم من دون طاقة خارجية، حتى القرن الثامن عشر، إلى أن حدَّت من زخمها بعض الانتقادات العلمية، مع صعود العلم الحديث. لكن بعد استراحة نسبية عادت المحاولات بقوة، ولا سيما في الفترة الأخيرة مع التقدم في تقنيات فيزياء الكم وعلوم المواد وغيرها. ورغم أن هذه الأحلام تتعارض مع المبادئ العلمية الأساسية، خاصة قوانين الديناميكا الحرارية، فإن العلماء لم يستكينوا وما زالوا يحاولون.

ما يثير الاهتمام في موضوع الخيال العلمي المتعلق بآلات الحركة الدائمة، هو المحاولات المتكررة لتحقيقها رغم فشلها. فمن عجلة عالم الرياضيات الهندي بهاسكارا في القرن الثاني عشر، إلى روبوت جامعة واشنطن حديثًا، لم تتوقف التجارب. لكن ما يميز آخر التطورات في هذا الشأن، هو أن الأبحاث قد وسَّعت الآفاق العلمية لهذا الخيال، وجعلت كمية الطاقة والوقت المطلوب لشحن هذه الآلات تتجه نحو الصفر.


ما يثير الاهتمام في موضوع الخيال العلمي المتعلق بآلات الحركة الدائمة، هو المحاولات المتكررة لتحقيقها رغم فشلها. فمن عجلة عالم الرياضيات الهندي بهاسكارا في القرن الثاني عشر، إلى روبوت جامعة واشنطن حديثًا، لم تتوقف التجارب. لكن ما يميز آخر التطورات في هذا الشأن، هو أن الأبحاث قد وسَّعت الآفاق العلمية لهذا الخيال، وجعلت كمية الطاقة والوقت المطلوب لشحن هذه الآلات تتجه نحو الصفر.

محاولات تاريخية

خلال القرن الثاني عشر الميلادي، صمّم عالم الرياضيات الهندي بهاسكارا الثاني، عجلة تحتوي على خزانات منحنية من الزئبق، واعتقد أنه في حال دوران العجلة سيتدفق الزئبق إلى قاع كل خزان، تاركًا جانبًا واحدًا من العجلة أثقل على الدوام من الآخر، ما يؤدي إلى عدم التوازن وإبقاء العجلة تدور إلى الأبد من دون أي ضياع في الطاقة. وقد ظهرت بعد ذلك عدة تجارب مشابهة تعتمد على دوران دولاب من دون توقف، ولكن من دون جدوى.

كما عمل ليوناردو دافنشي على رسم عدد من العجلات غير المتوازنة ذات الحركة الدائمة، لكنه لم يحاول تجسيدها إلى واقع.

وفي القرن السابع عشر، اقترح العالم الإنجليزي الشهير ومؤسس علم الكيمياء الحديث، روبرت بويل، آلة الحركة الدائمة التي تتكون من قارورة تملأ نفسها. كان المفهوم هو أن الزجاج الرفيع جدًا على شكل عدسة مقعَّرة ومحدبة، يخلق نوعًا من آلية تشبه ذلك السائل الموجود في لحاء الأشجار والمسؤول عن تدفق الماء من جذور الشجرة إلى الأعلى ضد الجاذبية. وهذا من شأنه أن يسمح للجانب الرقيق من القارورة بسحب السائل إلى الأعلى وإعادة ملء جانب القارورة. في الواقع، هذا غير ممكن؛ لأن التوتر السطحي للزجاج سيحتفظ بالماء الصاعد على شكل قطرات في نهاية الأنبوب بدلًا من تركها تسقط. وهكذا اُعتبر الاقتراح لاحقًا غير ذي جدوى.

ومع التقدم في العلوم الحديثة، وبخاصة الفيزياء، تراجعت هذه الحماسة، وأصدرت الأكاديمية الملكية للعلوم في باريس، عام 1775م، بيانًا مفاده أن الأكاديمية “لن تقبل أو تتعامل بعد الآن مع المقترحات المتعلقة بالحركة الدائمة”.

بعد ذلك بحوالي مائة سنة تقريبًا حصل “إ. ب. ويليس”، من نيو هيفن بولاية كونيتيكت الأمريكية، على كثير من المال من آلة الحركة الدائمة “الخاصة” العاملة بطاقة “مخفية”. وقد ظهرت قصة هذا الجهاز شديد التعقيد في مقالة في مجلة “ساينتفيك أمريكان” المرموقة، عنوانها: “أعظم اكتشاف على الإطلاق”. وتوصل التحقيق في الجهاز في النهاية إلى مصدر الطاقة الذي يحركه، وتبيَّن أنه كذبة.

ومن الأعمال الفنية المهمة المتعلقة بالحركة الدائمة، لوحة “الشلال” للفنان الهولندي “إيشر” عام 1961م. وهي لوحة منجزة بطريقة الطباعة الحجرية، ويبدو الماء فيها يتدفق من قاعدة الشلال نحو الأسفل قبل أن يصل إلى قمة الشلال. ويستخدم “إيشر” هنا، وفي أماكن أخرى، أبعادًا متضاربة لخلق مفارقة بصرية.

لكن مع ظهور فيزياء الكم في القرن العشرين انتعشت محاولات إنشاء آلات الحركة الدائمة من جديد.

فيزياء الكم

اعتمادًا على فيزياء الكم، أثبت باحثون من جامعة ألتو الفنلندية، أن فرضية تحقيق حركة دائمة بواسطة البلورات الزمنية ممكنة. وهذه البلورات هي مرحلة في المادة تتحرك فيها الجسيمات في دورة متكررة بشكل دائم من دون الحاجة إلى أي مدخل خارجي للطاقة. وذلك عن طريق إنشائها في مختبر درجة حرارته منخفضة، كما جاء في دراسة نشرت في مجلة “نيتشر” في يوليو عام 2022م. وهذا السلوك الغريب للجسيمات ما دون الذرية، فتح الطريق أمام الباحثين لإحداث تطبيقات تقنية في مجال الطاقة المستدامة، لم تكن ممكنة بالفيزياء التقليدية. وتُعتبر البطارية الكمومية إحدى أهم هذه التطبيقات المحتملة التي ستنعش من جديد حلم آلات الحركة الدائمة.

الروبوت “مي لي موبايل”، يعتمد على الطاقة المحصودة من الضوء.

البطارية الكمومية

تتميز البطاريات الكمومية المفترضة بالقدرة على تسريع وقت الشحن واستخلاص الطاقة من الضوء. وعلى عكس البطاريات الكهروكيميائية التي تخزِّن الأيونات والإلكترونات، تخزِّن البطارية الكمومية طاقة الفوتونات. والمثير للاهتمام هو أن شحن البطارية الكمومية يتم بشكل أسرع مع زيادة حجمها بفضل سمة من سمات فيزياء الكم المعروفة باسم “التشابك الكمي”. فعندما يتشابك فوتونان، فإن هذا يعني أن خصائصهما الفردية تصبح مشتركة. بمعنى آخر، إن أي تأثير على واحد منهما هو تأثير على الآخر حتى لو كانا منفصلين مكانيًا. فعلى سبيل المثال، إذا استغرق شحن بطارية كمومية ساعة واحدة، فإن مدة شحن اثنتين منهما ستكون ثلاثين دقيقة، وهكذا إذا كان لدينا عشرة آلاف بطارية، فسيتم شحنها جميعًا في أقل من ثانية؛ لأن التفاعلات في فيزياء الكم هي دون مستوى الذرات والجزيئات. وعلى هذا المستوى، نحصل على خصائص جديدة غير موجودة في الفيزياء التقليدية. وهذا يعني أن البطارية الكمومية تمثّل تحولًا كبيرًا فيما يتعلق بالوقت الزمني للشحن. وتشير الحسابات النظرية إلى أن البطارية الكمومية يمكن أن تقلل أوقات الشحن المنزلي للسيارات الكهربائية من 10 ساعات إلى 3 دقائق فقط، في حين أن محطات الشحن الفائق يمكن أن تعيد شحن السيارة بالكامل في 90 ثانية فقط! وكلما زاد حجم البطارية تناقص وقت الشحن؛ لأن الجزيئات تصبح أكثر تشابكًا مع زيادة حجم البطارية.

طاقة الموجات الكهرومغناطيسية

إن أحد أكبر التحديات في نشر الروبوتات على نطاق صناعي أو زراعي، هو حاجتها إلى كميات كبيرة من الطاقة للتنقل في المساحات التي لم تكن ممكنة بواسطة الآلات التقليدية. ويعوِّل العلماء في حل هذه المشكلة على تقنيات الطاقة المستمدة من طاقة الضوء والموجات الكهرومغناطيسية التي يحيط بعضها بنا من كل مكان. وكما يبدو، فإن تطبيقها في مجال الروبوتات أصبح ممكنًا.

بناء على ذلك، طوَّر باحثون في جامعة واشنطن، في شهر سبتمبر من العام الماضي 2023م، روبوتًا ذاتي القيادة، لا يحتوي على بطاريات، ويستمد طاقته من الموجات الكهرومغناطيسية، المتمثلة في الضوء المحيط به أو موجات الراديو. ويتميز الروبوت بحجمه الصغير وهو مجهَّز بوحدة تجميع الطاقة الشبيهة بالألواح الشمسية وأربع عجلات، ويمكنه التحرك على أسطح متنوعة حوالي ثلاثين قدمًا في الساعة، ويحمل ثلاثة أضعاف وزنه من الأدوات مثل الكاميرات وأجهزة الاستشعار. ويستخدم مستشعرًا للتحرك تلقائيًا نحو مصادر الضوء، بحيث يمكن تشغيله إلى أجل غير مسمّى بواسطة الطاقة المحصودة من الضوء أو موجات الراديو، بحسب موقع “جامعة واشنطن” 23 سبتمبر 2023م. ويشير الفريق إلى أن الروبوت المسمّى بـ “ميلي موبايل” (Millimobile) هو الروبوت المستقل الأول من نوعه الذي يعمل بطاقة مستدامة ولا يحتاج إلى بطارية إطلاقًا، بحسب موقع “سلاش غير” 7 أكتوبر 2023م.

قارورة بويل ذاتية التدفق، آلة أبدية.

طاقة الثقوب السوداء

الثقوب السوداء أجسام كونية تتميز بكثافتها العالية وجاذبيتها القوية. وقد تشكّلت بعد انهيار نواة النجوم الميتة الضخمة. أمَّا الثقوب السوداء البدائية، فقد تكوّنت نتيجة الكثافة العالية من البلازما البدائية في الكون، بعد الانفجار الكبير. ووفقًا لدراسة حديثة نُشرت في مجلة “فيزيكال ريفيو” في شهر نوفمبر من العام الماضي 2023م، يعتقد هؤلاء العلماء بوجود ثقوب سوداء بدائية صغيرة جدًّا دون مستوى الذرة، يمكن استخدامها لتوليد الكهرباء. وهذا يعني أنه يتحتم إنشاء هذه الثقوب الصغيرة أو العثور عليها في مكان ما. ويذهب الباحثون إلى أن الثقب الأسود الصغير يمكن أن يعمل كبطاريات قابلة لإعادة الشحن وكمفاعلات نووية أيضًا، مما يوفر طاقة مثالية قوية ومستدامة تقاس بغيغا إلكترون فولت.

بالطبع، هناك قلق من إشعاع هوكينج، وهو الكتلة المفقودة من الثقب الأسود. إذ يعتقد العلماء أن الكتلة تُفقد بشكل أسرع بفضل إشعاع هوكينج في الثقوب السوداء الصغيرة، مما يعني أنها يمكن أن تتبخر بسرعة إذا فقدت كل كتلتها. وللتغلب على ذلك، يُغذَّى ثقب أسود صغير بكتلة معينة تكفي لإبقائه موجودًا وإنتاج الطاقة الكهربائية. وفي النهاية يمكننا الحصول على مصدر غير محدود من الطاقة. فتخيّل في المستقبل البعيد للطاقة، أن تكون مفاعلات الثقوب السوداء الصغيرة مصدرًا للطاقة الكهربائية التي يُزوَّد كوكب الأرض بها. كما تُزوَّد كل آلة بثقب أسود مرةً واحدة وإلى الأبد.

إن ألف عام من التجارب والأحلام لم تحقق لنا آلات الحركة الدائمة، لكن جعلتها ممكنة التحقق، وعلينا أن نبقي شعلة الخيال متقدة دائمًا؛ إذ يقول ألبرت أينشتاين: “الخيال أكثر أهمية من المعرفة، المعرفة محدودة، بينما الخيال يحيط بالكون”.


مقالات ذات صلة

تُعتبر “المُركَّبات الباقية إلى الأبد” من أخطر المشكلات الصحية المعاصرة، الناتجة عن مبيدات الآفات الزراعية. بينما يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لمواجهة هذه المخاطر..

أحدثت تقنيات تحرير الجينات، مثل “كريسبر كاس 9″، ثورة في علم الأحياء والطب، حيث فتحت آفاقًا لعلاج الأمراض المستعصية بكفاءة وبتكلفة منخفضة. لكن هذا التقدم يثير تحديات أخلاقية، خاصة فيما يتعلق بتحرير “خلايا الخط الجنسي” وتأثيراتها الاجتماعية. لذا، من الضروري الموازنة بين الطموحات العلمية والاعتبارات الأخلاقية لضمان مستقبل مسؤول للبشرية.

اكتشاف الإلكترونات في القرن العشرين أحدث ثورة في فهمنا، مما أدى إلى تطوير تقنيات مسرِّعات الجسيمات وكشف أسرار مذهلة عن عالم الذرة والمادة.


0 تعليقات على “آلات الحركة الدائمة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *