بخلاف السنوات القليلة الماضية حين منحت جوائز نوبل للآداب لروائيين فاجأت أسماؤهم الكثيرين -بغض النظر عن مسألة استحقاق هؤلاء للجائزة- كانت جائزة هذا العام من نصيب الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا، “المرشح” منذ سنوات طويلة، والذي حظي منذ ما قبل ذلك بكثير بمكانة عالمية، وترجمت أعماله إلى كل اللغات الكبرى، بما فيها العربية منذ أكثر من عِقد أو عقدين.
رانيا منير تلخص هنا الخطوط الكبرى في سيرة هذا الأديب البيروفي، وتتوقف بشكل خاص أمام رؤيته الخاصة للأدب ودوره في الحياة، والقضايا التي تمحورت عليها معظم أعماله.
في نصيحة قدَّمها لروائي شاب يتمنى أن يكتب أدباً جيداً لا يموت حتى بموت كاتبه قال ماريو بارغاس يوسا:
“إن الجوائز والاعتراف العام، ومبيعات الكتب، والسمعة الاجتماعية للكاتب، لها مسار من نوعها، مسار تعسفي إلى أبعد الحدود. فهي تتجنب، بعناد أحياناً، من يستحقها بجدارة كبيرة وتحاصر من يستحقها أقل، وتثقل عليه، وهكذا يمكن، لمن يعتقد أن النجاح والشهرة هما الحافز الجوهري لميوله الأدبية، أن يرى انهيار حلمه وإحباطه، لأنه يخلط بين الميل الأدبي والميل إلى بريق الشهرة والمنافع المادية التي يوفرها الأدب لبعض الكُتَّاب (وهم محدودون). والأمران مختلفان. ربما كانت السمة الأساسية للميل الأدبي، هي أن من يمتلكه، يعيش ممارسة هذا الميل، باعتباره مكافأته الأفضل، وبأنه أكبر، بل أكبر بكثير، من كل المكافآت الأخرى التي يمكن له أن ينالها، كنتيجة لثمرات ميله. وهذا أحد الأمور المؤكدة لدي، بين أمور كثيرة أخرى غير مؤكدة، حول الميل الأدبي، فالكاتب يشعر في أعماقه، بأن الكتابة هي أفضل ما حدث، وما يمكن أن يحدث له. لأن الكتابة في نظره، هي أفضل طريقة ممكنة للعيش، بصرف النظر عن النتائج الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي يمكن له أن يحققها، من خلال ما يكتبه.. أظن أن من يدخل الأدب، بحماسة، ويكون مستعداً لأن يكرس وقته وطاقته وجهده لهذا الميل، هو وحده من سيكون في وضع يمكنه من أن يصير كاتباً حقاً، وأن يكتب عملاً يعيش بعده”.
وهكذا وبعد سنوات طوال من تجاهل نوبل لهذا الأديب البيروفي الذي كان لا يكتب ليعيش بل يعيش ليكتب؛ وعدم اكتراثه بالحصول على الجوائز طالما أنه يكتب ما يؤمن به، ها هو الآن يطل علينا في عقده السابع بشعره الفضي وأناقته اللافتة والكاريزما التي تتمتع بها عادة الشخصيات السياسية المشهورة؛ ليعلن أن نيله لجائزة نوبل يُعد اعترافاً بأهمية أدب أمريكا اللاتينية واللغة الإسبانية التي حصلت على نوع من المواطنة في العالم، وتأتي كذلك تأكيداً على قدرة هذه البلاد على إنتاج الفنانين والموسيقيين والرسامين والمفكرين والروائيين، وليس فقط الكوارث والطغاة والثوريين..
نشأته
ولد ماريو بارغاس يوسا في 28 مارس 1936م، من عائلة متوسطة في مدينة المقاطعات البيروفية أريكويبا. انفصل والداه قبل ولادته بأشهر، فعاش في بوليفيا مع عائلة أمه التي أخفت عنه طلاقها من أبيه، وأخبرته بأنه توفي. إذ كان انفصال الوالدين في ذلك الوقت يُعد فضيحة كبرى.
وبعد حصول جده على وظيفة دبلوماسية في المدينة الساحلية للبيرو عادت العائلة إلى البيرو ودخل ماريو المدرسة الابتدائية. في العاشرة من عمره انتقل للعيش في ليما وهناك قابل والده الذي عاد ليعيش معهما مجدداً في حي متوسط من أحياء ليما حيث قضى سنوات مراهقته.
كان ماريو يحب القراءة والأدب ولكن والده رأى في ذلك مضيعة للوقت، فقرر إرسال ابنه ذي الأربعة عشر عاماً إلى مدرسة عسكرية، ليتعلم الانضباط والالتزام فينضج ويتخلى عن أوهامه. إذ كان يرى أن من يعيش في بلد كالبيرو ليس بإمكانه أن يحلم بأن يصبح كاتباً، وإنما ينبغي له أن يفكر كيف سيجني عيشه. ولكن يوسا تابع القراءة والكتابة بنهم أشد. وقبل تخرجه بعام بدأ العمل كصحافي هاوٍ لجريدة محلية. وشهد في ذلك الحين الأداء المسرحي لأول عمل له.
سنة 1953م بدأ بدراسة القانون والأدب في الجامعة الوطنية في سان ماركوس، وهي أقدم جامعة في الأمريكيتين. وبعد سنتين تزوج بامرأة تكبره بسنوات عشر، وكان حينئذ في التاسعة عشرة من عمره، لكن هذا الزواج الذي اقتبس منه روايته الكوميدية “العمة جوليا والكاتب” 1977م، لم يدم أكثر من بضع سنوات، وانتهى بالطلاق ليتزوج بعدها من قريبة له، وهي باتريشيا يوسا التي أنجبت له ثلاثة أطفال. وما زالت ترافقه مسيرة حياته حتى اليوم.

مدخله إلى معترك الأدب
بدأ حياته الأدبية بشكل ملتزم وجاد سنة 1957م مع إصدار مجموعته القصصية الأولى وكتابته في بعض الجرائد المحلية. كانت أعماله الأولى مشبعة بروح الظلم والتعسف وبمشكلات التعصب والجهل والفقر التي تعانيها بلاده. ورغم معالجته فيما بعد لموضوعات وأفكار عالمية، إلا أن مشاعره المعقدة والمتناقضة تجاه البيرو تتسرب عبر جميع أعماله لتشكل حبلاً سرياً يربط بينها جميعاً.
بعد تخرجه سنة 1958م، تلقى منحة للدراسة في جامعة كومبلوتنس في مدريد لمدة سنتين. انتقل بعدها إلى فرنسا، آملاً بالحصول على منحة دراسية أخرى هناك. إلا أن طلبه قوبل بالرفض ورغم حالته المادية السيئة، لم يشأ مغادرة باريس مهبط وحي الشعراء والأدباء، فقرر البقاء هناك وبدأ يكتب بغزارة. فهو كأي مثقف من بلدان العالم الثالث يحلم بالذهاب إلى فرنسا ومقابلة أدبائها، فقد كان مغرماً بسارتر وكامو، وكان يعشق غوستاف فلوبير الذي كانت الكتابة بالنسبة له عبارة عن “طريقة في الحياة”. وقد استفاد كثيراً في بداياته من قراءة مراسلات فلوبير التي صاغ فيها نظرية متكاملة حول الجنس الروائي. وكذلك كان معجباً ببورخيس وسرفانتس وفوكنر وهيمنغواي ومالرو ودوس باسوس. وقد ربطه الأدب بصداقة مع غابرييل غارسيا ماركيز حيث نشر يوسا سنة 1971م دراسة نقدية لقصة ماركيز، وكانت موضوع أطروحته لنيل شهادة الدكتوراة في جامعة مدريد. إلا أن خلافاً حول الشؤون السياسية وقع بينهما سنة 1976م انتهى بلكمة من يوسا على وجه ماركيز، وقطيعة استمرت بينهما لثلاثين سنة دون أن يصرح أي من الطرفين عن أسباب هذا الخلاف.
الناقد الصارم
نشر يوسا روايته الأولى سنة 1963م بعنوان “مدينة الكلاب”. وتجري أحداثها في أكاديمية عسكرية في البيرو، حيث يروي تجربته الخاصة في تلك الكلية منتقداً نظامها التعسفي. ورغم أنها حظيت بإعجاب النقاد لقدرته على استخدام أسلوب أدبي معقد رغم حداثة سنه وتجربته، إلا أنه أثار استياء إدارة الأكاديمية التي أحرقت ألف نسخة من الرواية في الساحة العامة متهمة يوسا بالعمالة للأكوادور وتقويض هيبة الجيش البيروفي.
يقول يوسا: “إن لعبة الأدب ليست من النوع غير المؤذي. فالخيال الذي هو نتاج عدم رضا حميم ضد الحياة، كما هي عليه، هو أيضاً مصدر استياء وعدم رضا، لأن من يعيش، من خلال القراءة وهماً كبيراً، يعود إلى الحياة الواقعية بحساسية أكثر تيقظاً بكثير، حيال محدوديتها ونقائصها. ويعرف من خلال تلك الروايات التخيلية العظيمة، أن العالم الواقعي، والحياة المعيشة، هما أقل صدقية بكثير من الحياة التي اختلقها الروائيون. هذا القلق، في مواجهة العالم الواقعي، الذي يثيره الأدب الجيد في النفوس، يمكن له، في ظروف معينة، أن يترجم أيضاً إلى تمرد. ولهذا السبب، ارتابت محاكم التفتيش الإسبانية بالروايات التخيلية، وأخضعتها لرقابة صارمة، بلغت حد حظرها في كل المستعمرات الأمريكية، طوال ثلاثمئة سنة”.
لكن يوسا لم يتوقف عند هذا الحد، وتابع معركته الكيخوتية في محاربة الظلم والتعسف. فجاءت روايته الثانية “المنزل الأخضر” 1965م التي حازت لجائزة “رومولو غاليغوس” للرواية الدولية، لتؤكد إبداعه وترسخ اسمه في أدب أمريكا اللاتينية. وتتحدث عن بيت دعارة يطلق عليه اسم “المنزل الأخضر” ووجوده شبه الأسطوري الذي يؤثر في حياة الشخصيات السياسية التي ترتاده.
أما رواية “محادثات في كاتدرائية” 1969م، فتعد من ألذع رواياته. فهي تروي قصة سانتياغو زافالا، ابن وزير في الحكومة، الذي تجري بينه وبين سائقه محادثات في حانة، حيث يحاول زافالا من خلالها البحث عن حقيقة دور والده في مقتل شخص سيء السمعة في البيرو. وينتهي هذا البحث بمقتله من دون أن يتمكن من إيجاد إجابة واضحة أو بريق أمل لمستقبل أفضل. انتقد يوسا من خلال هذه الرواية حكومة الجنرال أودريا، وسلَّط الضوء على ممارسات السلطة الدكتاتورية التي تحكم وتسيطر على حياة الآخرين وتدمرها.
أعماله الكبرى
عام 1981م، نشر يوسا عمله المهم الذي يُعد تحفة يوسا الفنية وكتابه المفضل، حسب تعبيره، والذي تطلب منه جهداً كبيراً لإنهائه وكان أول تجربة له في مجال الرواية التاريخية المأساوية وهي بعنوان “حرب نهاية العالم”. تستند أحداث هذه الرواية على وقائع حقيقية جرت في البرازيل في القرن التاسع عشر في فترة التدهور الاقتصادي الذي تلى سقوط الإمبراطورية البرازيلية. ويجسد فيها حلمه الدائم بالبحث عن المدينة الفاضلة، ويطرح من خلالها موضوعات جديدة كالخلاص والسلوك البشري اللاعقلاني والبحث عن دوافع تمجيد العنف والتعصب. كما كانت أول رواية يخرج بأحداثها من نطاق المجتمع البيروفي حيث اعتادت أن تجري أحداث رواياته السابقة.
وأتت رواية “حفلة التيس” عام 2000م، لتتوج أعماله التي توجه انتقاداً لاذعاً للحكومات والسياسات الاستبدادية. وتتناول قصة الديكتاتور رافائيل تروخييو الذي استمر حكمه الدموي لجمهورية الدومينيكان منذ عام 1930م وحتى اغتياله عام 1960م. حيث تصور أحداث الرواية جرائم الحاكم المستبد وفضائح حاشيته الفاسدة، مما أثار بعض البلبلة في مجتمع سانتو دومينغو، نظراً لكون جميع الشخصيات مأخوذة من الواقع. كما تكشف الرواية أثر النظام الديكتاتوري والعنف والتعسف على الإنسان من خلال قصة امرأة تتم خيانتها من قبل والدها الذي يقدِّمها وهي طفلة للدكتاتور الفاسد لإشباع نزواته.
ومن أعمال يوسا في الرواية أيضاً: “الحياة الحقيقة لاليخاندرو مايتا”، “من قتل بالومينو موليرو”، “قصة مايتا”، “دفاتر دون ريغوبيرتو”، “ليتوما في جبال الاندير”، “بانتا ليون والزائرات”، “شيطنات الطفلة الخبيثة”، “امتداح زوجة الأب”. كما كتب في النقد: “لغة الشغف”، “رسائل إلى روائي شاب”، “السمكة في الماء”، “الحقيقة من الأكاذيب”، “بين سارتر وكامو”.
خسر كرسي الرئاسة وكسِب القراء
ظل يوسا مؤمناً بالأدب الملتزم بقضايا أمته، ورافضاً هروب الأديب من واقعه، وأن يكون أدبه مجرد كيخوتية تحارب طواحين الهواء. فهو يحلم بمدينة فاضلة يشارك الأديب فيها بتغيير مجتمعه، لا من خلال عالم الكلمات والخيال فقط، وإنما بالمشاركة الفعلية ودخول معترك الحياة السياسية. فقد كان يرى أنه من المستحيل على أدباء أمريكا اللاتينية أن يتجنبوا الحديث في السياسة “فالأدب هو تعبير عن الحياة ولا يمكن إلغاء السياسة من الحياة”.
في فترة الحياة الجامعية ومرحلة الشباب الجامح المتحمس، كان يوسا من أشد أنصار حكومة فيدل كاسترو. ثم بدأت معتقداته بالتبدل عندما وجد أن الاشتراكية الكوبية لا تتفق مع متطلبات الحريات العامة، ولا سيما عندما قام نظام كاسترو بسجن الشاعر هيبرتو باديلا سنة 1971م. فتقدم مع مجموعة من المثقفين باحتجاج للحكومة على سجن الفنان. وبهذا مرَّ يوسا بعدة مراحل سياسية وتعرَّض لكثير من خيبات الأمل والصدمات، انتقل خلالها من اليسار المتطرف إلى اليمين الليبرالي معارضاً جميع الأنظمة الاستبدادية ومتبنياً القضايا الإنسانية العالمية.
وفي عام 1990م دخل الانتخابات الرئاسية في البيرو، لكنه خسرها بعد أن أدرك كيف يمكن للأديب والسياسي أن يستخدما اللغة ذاتها وإنما بأسلوب مختلف تماماً. واكتشف أنه لم يكن من المفيد أن يملك أفكاراً في حملة انتخابية.. وكم أن الشعارات والأكاذيب كانت فعالة!.
يعيش يوسا حالياً في لندن منذ عام 1990م. وقد حصل على الجنسية الإسبانية حيث يقضي هناك إجازاته ويحضر المؤتمرات. وقد انتخب عام 1994م عضواً في الأكاديمية الملكية الإسبانية وما زال يكتب للصحافة، وينشر الروايات الأدبية ويسافر كثيراً، ويدرّس كأستاذ في عدة جامعات مرموقة ويُعد الضمير الأخلاقي لبلاده، فهو المفكر الليبرالي الأكثر تأثيراً.
في الإعلان عن فوزه بجائزة نوبل لعام 2010م جاء أن تكريمه هذا كان: “لبراعته في تجسيد الصراع على السلطة وتصوير المقاومة والثورة والهزيمة داخل الفرد”. وتبرز هذه الموضوعات بقوة في روايتيه: “محادثات في الكاتدرائية” و “حفلة التيس”. إذ لم يتناول فقط موضوع الديكتاتورية باعتبارها عنصراً رئيساً في أدب أمريكا اللاتينية وإنما قدم تحليلاً نفسياً دقيقاً للسلطة المطلقة وقدرتها على تشويه القيم الأخلاقية والجمالية في نفوس الشعب.
رسوم: عمر صبير
اترك تعليقاً