مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2025

هوبال

رموز سينمائية لمكوّنات اجتماعية

د. فهد توفيق الهندال

يُعدُّ فيلم “هوبال” (2024م) تجربة سينمائية سعودية بارزة من إخراج عبدالعزيز الشلاحي، وتأليف مفرج المجفل، وهو عمل درامي يتناول ثنائية المسير والمصير في ظل بيئة صحراوية تُشكّل مسرحًا للأحداث. ويعتمد الفيلم على بنية سردية متماسكة مزجت بين الواقعية الرمزية والتعبيرية البصرية، وهو ما يجعله نموذجًا للتحليل السينمائي المعتمد على الرمزية والتكوين البصري. ويأتي تفسير معنى “هوبال” في سياق الفيلم، بوصفه نداء على الإبل التي تستخدمها العائلة في الصحراء، وهذا ما يفتح المجال أمام تفسيرات رمزية عديدة، من بينها الطاعة العمياء، والتيه والبحث عن الخلاص، والمصير المجهول.

تُمثّل الإبل في الفيلم الصراع مع الواقع القاسي. فهي تمتثل لأصحابها في الترحال، لكنها تحمل غضبًا مكبوتًا قد ينفجر في أي لحظة، وهو ما يعكس حال الشخصيات في الفيلم، التي تبدو خاضعة لقرارات الجد ليّام لكنها في أعماقها تعاني التمرد المكبوت.

وليست الإبل في الفيلم مجرد وسيلة نقل، بل هي رفيق الطريق في رحلة البحث عن الخلاص. ومن ثَمَّ، فإن تسميتها بـ”هوبال” قد تعكس القدرية التي تتحكم في مسير العائلة، التي يجد أفرادها أنفسهم عالقين في دوامة من العزلة والتكرار من دون أفق واضح للمستقبل.

وقد يشكّل “هوبال” في الفيلم إشارة إلى أن مصير الشخصيات غير محكوم بأفعالها، بل بقوى خارجية تتحكم فيها، سواء أكانت هذه القوى ممثلة في الجد، أم في الصحراء، أم حتى في العقيدة التي يتمسكون بها مثل الوتد المثبت عند قبور الراحلين.

إذًا، يُسائل الفيلم فكرة العبودية للأفكار والعادات، حيث تتنازع الشخصيات بين الاستمرار في المسير وفق إرادة الجد، أو التمرد على مصيرها المرسوم مسبقًا. وهنا يظهر البُعد الفلسفي للاسم؛ إذ يمكن اعتباره تمثيلًا للقيود الفكرية التي تقيد الإنسان، سواء أكانت دينية أم اجتماعية أم ثقافية.

الفيلم ليس مجرد دراما عائلية، بل هو في عمقه تأمل سينمائي في معنى القدر والاختيار في مواجهة الزمن والمجتمع.

بنية الفيلم السَّردية

يتّبع الفيلم البنية الدائرية في السَّرد، حيث يبدأ وينتهي بمفهوم العزلة. تتناول القصة قرار الجد ليّام بالانسحاب من الحياة الحضرية، متأثرًا بالأحداث السياسية الكبرى مثل الغزو العراقي للكويت (1990م) وما تلاه من اعتقاد باقتراب “أشراط الساعة”. ولعلَّ العمل تعمّد فكرة “التشتت الزمني” ما بين التاريخ الفعلي للغزو العراقي للكويت في 2/8/1990م، وتواريخ أخرى متخيّلة في الفيلم، كما هي تواريخ الحشود العسكرية وبدء حرب تحرير الكويت في الفيلم، باعتبار أن بوصلة الزمن مفقودة تمامًا. وهذا التشتّت الزمني يعكس ما يُعرف بـ”ـالتحول الدرامي القسري”. إذ يجبر الجد عائلته على التكيّف مع بيئة الصحراء، وهو ما يُشكّل صراعًا داخليًا وخارجيًا بين الشخصيات.

ويستند الفيلم إلى ثلاثة مستويات من الصراع:

  1. الصراع الداخلي: ويتمثّل في حالة الجد ليّام الذي يعاني تأنيب الضمير، والرغبة في التكفير عن أخطاء الماضي.
  2. الصراع العائلي: ويظهر بين الأبناء الذين تتباين مواقفهم بين البقاء في الصحراء والعودة إلى المدينة.
  3. الصراع البيئي: حيث تتجلى قسوة الصحراء بوصفها عنصرًا دراميًا مستقلًا، يمثّل تحديًا وجوديًا للعائلة.

بين التمرُّد والخضوع

يعتمد هذا الفيلم على شخصيات متباينة تخدم بنيته الدرامية ورمزيته السينمائية، وتُمثِّل أنماطًا نفسية واجتماعية تعكس ثنائية التمرُّد والخضوع، والبحث عن الحقيقة مقابل التسليم بالأمر الواقع. وتتطور هذه الشخصيات في بيئة قاسية، حيث تفرض الصحراء نفسها عنصرًا دراميًا أساسًا في تحديد مصائرهم.

  1. الجد ليّام (إبراهيم الحساوي): الدور الدرامي يمثل “القائد المنعزل” الذي يحاول فرض رؤيته الدينية والفكرية على أسرته، متأثرًا بالخوف من الحداثة وظنونه باقتراب نهاية العالم. فصراعه الأساس داخلي؛ إذ يعاني إحساسًا بالذنب والخطيئة، وهو ما يدفعه إلى اختيار العزلة بوصفها نوعًا من التطهير الذاتي.

وفي غيابه المفاجئ عن الأحداث، يتحول إلى “الغائب الحاضر”؛ أي أن تأثيره يظل قائمًا حتى بعد خروجه من المشهد، وهو ما يعزز بُعده الرمزي والميثولوجي في القصة.

الرمزية: يجسد الجد ليّام صورة “المتنبي” الزائف، الذي يقود أتباعه إلى الهلاك تحت شعار البحث عن الخلاص. ولعلَّ اختفاؤه المفاجئ في الفيلم يفتح تساؤلات حول مصير الشخصيات، ويترك النهاية مفتوحة للتأويل.

الصحراء أدَّت دورها في اختبار قوة الشخصيات، والإبل ليست مجرد وسيلة نقل، بل هي رفيق الطريق في رحلة البحث عن الخلاص.

  1. شنار بن ليّام (مشعل المطيري): الابن الذي يمثل “المتسلّط النفعي”؛ إذ يستخدم خطاب والده بوصفه أداة للسيطرة على الآخرين، بينما يسعى سرًا لتحقيق رغباته الشخصية. يتمتع شنار بشخصية استغلالية مزدوجة، فيتظاهر بالإخلاص لمبادئ الأسرة، لكنه يستغل أي فرصة للذهاب إلى المدينة بحثًا عن اللذات والمتع.

الرمزية: شنار هو تجسيد للانتهازية، فهو يتبنى خطاب العزلة ظاهريًا، لكنه في الواقع يعيش حياة مزدوجة بين الصحراء والمدينة. ويمثل تناقض الجيل الذي يحاول أن يرث سلطة الأب، لكنه يفشل في الحفاظ على تماسك العائلة.

  1. بتال بن ليّام (حمدي الفريدي): يمثّل “الرجل الممزّق بين عالمين”، بين طاعة والده ورغبته في العودة إلى المدينة، خاصة بسبب حبه لـبنت مرزوق. وتعكس شخصيته التردد الوجودي؛ إذ لا يستطيع اتخاذ قرار حاسم، وهو ما يجعله إحدى أكثر الشخصيات تعقيدًا من الناحية النفسية.

الرمزية: يجسّد فكرة الجيل الذي فقد هويته، فهو لا يستطيع العيش في الصحراء، لكنه أيضًا غير قادر على الاندماج في المدينة. ويعكس بتردده صراع الفرد بين الإرث الثقافي والرغبة في التحرّر منه.

  1. سطّام بن ليّام (دريعان الدريعان): على عكس إخوته، هو الابن الذي تمرّد بالفعل. ترك العائلة وذهب إلى المدينة، ثم عاد لاحقًا طالبًا الغفران. ويمثّل في القصة “الابن الضَّال”، الذي حاول الانفصال عن الأسرة، لكنه لم يجد ذاته في المدينة أيضًا. وتُشير عودته إلى الخوف الوجودي، حيث يدرك أن النهاية قد تكون وشيكة ويريد التصالح مع ماضيه.

الرمزية: يجسد سطّام مفهوم الندم والبحث عن الفداء، لكنه في الوقت نفسه يعكس فكرة أن الهرب من الماضي لا يعني التحرّر منه.

  1. نهار بن ليّام (عبدالرحمن عبدالله): شخصية غامضة، يظلُّ طوال الفيلم مرتديًا الفروة. ويُعدُّ “الحمل الثقيل” للعائلة، حيث لا يُعرف عنه الكثير، لكنه يظهر في لحظات حاسمة ليعكس تطورات الصراع الداخلي في القصة. وتمثّل الفروة التي يرتديها الثقل الرمزي للتاريخ، وكأنها تذكير دائم بأعباء الماضي التي لا يمكن التخلّص منها بسهولة.
  2. عسّاف (حمد فرحان): يمثّل “الباحث عن الحقيقة”، فهو يمتلك قدرة فريدة على قص الأثر، وهو الأكثر ارتباطًا بالواقع. يسعى لإنقاذ ابنة عمه ريفة، وهو ما يجعله رمزًا للجيل الذي يسعى للخروج من الظل والبحث عن إجابات. ويجسّد فكرة التوازن بين الحكمة والفعل، بوصفه الأكثر إدراكًا لحقيقة الأمور، لكنه لا يتخذ قرارات متسرعة.
  3. ريفة (أمل سامي): تمثّل “المرأة المسجونة داخل قيود المجتمع”، بعيشها معزولة في ظل العائلة بسبب مرضها الذي يُستخدم حجةً لمنعها من رؤية العالم الخارجي، وهو ما يعكس القمع الممارس ضد المرأة باسم الحماية. وهي ترمز إلى الحياة التي تُحرم من الضوء، فتعيش في الظل خوفًا من “الخطر الخارجي” الذي هو في الحقيقة مجرد وهم.
  4. الجدة نورة (نورة الحميدي): الشخصية التي تمثّل “الحكمة النسائية”، فتأخذ دور القائد بعد غياب الجد ليّام. وتمتلك شخصية قوية، وتُعدُّ المرجع الأخلاقي للعائلة بعد سقوط سلطة الجد. كما تعكس رمزية “القوة الخفية”، بتأدية دور حاسم من دون أن تكون في مركز الصراع الرئيس.
  5. سرّا أو سارا (ميلا الزهراني): المرأة المتخوفة على مستقبل ابنتها في مصيرها مع المرض، وتبحث عن أي وسيلة لإخراجها من الصحراء، لكيلا تعيش حياتها كمن حُرمت ممن تحب، ولا يكون مصيرها مثل غزيّل التي استسلمت للموت بسبب الحصبة. وهذا ما يتقاطع مع صيته (ريم فهد( أم غزيّل التي تفكر في مستقبل أولادها وسلامتهم من الحصبة، حيث تمثّل كل من سرّا وصيتة “المرأة الواقعية”، التي تحاول التوفيق بين دورها بوصفها أمًّا وبين ضغوطات الحياة في الصحراء، وهو ما يُضفي على الشخصية بُعدًا نفسيًا يعكس التوتر الوجودي.  
  6. معتوقة (راوية أحمد): الابنة التي احتضنتها وربتها الجدّة نورة، وهو ما يجعلها جزءًا من العائلة، لكنها لا تحمل الدم نفسه. ووجودها في القصة يعكس تعددية الانتماء، فهي ليست ابنة ليّام البيولوجية لكنها جزء من إرث العائلة. وترمز إلى فكرة “الانتماء المكتسب”، حيث يُعرّف الإنسان بروابطه العاطفية لا بجذوره البيولوجية فقط.

بكل ما تقدّم ذكره، تمكّن الفيلم من تقديم شخصيات متماسكة ذات عمق نفسي وسينمائي، تتقاطع مصائرهم في سياق يحمل أبعادًا فلسفية واجتماعية. وتتجلّى في شخصيات فيلم “هوبال” ثنائيات الإيمان والشك، العزلة والاندماج، الحرية والخضوع، وهو ما يجعل العمل أكثر من مجرد دراما عائلية، ليصبح في عمقه تأملًا سينمائيًا في معنى القدر والاختيار في مواجهة الزمن والمجتمع.

الصحراء بوصفها شخصية

أدَّت الصحراء دورًا في هذا الانعزال، بما شكّلته من صور سينمائية. فقد عُومِلت البيئة الصحراوية في الفيلم بوصفها كائنًا حيًّا وشخصية سينمائية مستقلة، تؤدي دورًا رئيسًا في اختبار صبر الشخصيات وقوة علاقاتها. وقد وُظّفت اللقطات الواسعة لتعزيز الإحساس بالضياع والعزلة. وفي المقابل، ترمز المدينة إلى الحداثة والتكنولوجيا والذنب، بينما تمثّل الصحراء الطهارة والانفصال عن المادة، لكنها في الوقت نفسه تحمل تهديدًا وجوديًا. وهو ما كان حاضرًا في امتلاء المدينة بالبشر بمختلف ثقافاتهم، والصحراء بكائناتها المتوحدة بالعادة والشكل.

ويبقى التكوين البصري والإيقاع الزمني للفيلم الذي يحقق رؤيته عبر الأسلوب الإخراجي والمونتاج؛ إذ يعتمد المخرج عبدالعزيز الشلاحي على اللقطات البانورامية لتعزيز الشعور بالعزلة، واللقطات القريبة لخلق حالة من التوتر النفسي. كما يتميز الفيلم بإيقاع تدريجي التصاعد، حيث يبدأ بطيئًا، ثم يتسارع مع تصاعد التوترات الداخلية بين الشخصيات.

التمكّن من تقديم شخصيات متماسكة ذات عمق نفسي وسينمائي، تتقاطع مصائرها في سياق يحمل أبعادًا فلسفية واجتماعية.

وإلى ذلك، تتكامل الموسيقى التصويرية لسعاد بشناق مع الصورة، مستخدمة ألحانًا تحمل طابعًا تأمليًا يواكب الصراعات النفسية للشخصيات، فكانت الموسيقى نصًّا مؤثّرًا موازيًا.

أسئلة للتفكير فيها

يُثير الفيلم مجموعة من التساؤلات الفلسفية، من أبرزها: هل يمكن للإنسان الهرب من ماضيه؟ إلى أي مدى يمكن للعائلة أن تبقى متماسكة أمام التحديات؟ هل العزلة توفر السلام الداخلي، أم أنها هرب من الواقع؟

يعكس الجد ليّام محاولة للهرب من تاريخه، لكن الصحراء تكشف أنه لا يمكن التخلي عن الماضي بسهولة. ويعكس الصراع بين الأبناء والجد طبيعة التحولات الاجتماعية داخل العائلات التقليدية. ولعلَّ الفيلم تناول مفهوم “النقاء الروحي” مقابل “الخوف من الحداثة”؛ ليترك الإجابة مفتوحة.

إجمالًا، يُعدُّ فيلم “هوبال” نموذجًا على التطور الذي تشهده السينما السعودية في الوقت الراهن؛ إذ إنه يدمج بين الرمزية الفلسفية والتعبير البصري المتقن، بفعل السيناريو العميق لمفرج المجفل، والإخراج الحساس لعبدالعزيز الشلاحي، والأداء العميق لممثلي العمل، فيُقدّم تجربة سينمائية تتجاوز مجرد الحكاية؛ لتصبح رحلة تأملية في معنى العزلة والمصير البشري.


مقالات ذات صلة

في عصر الجزر المنعزلة نتيجة التطور التكنولوجي وانتشار الأجهزة الإلكترونية، وربَّما الروبوتات الذكية في القريب العاجل، تتعرض فكرة “الجماعة” للخطر. وقد فاقمت أزمة “كوفيد – 19 المستجد” من هذه العزلة، وكان من نتائجها اختفاء الجمهور من قاعات المسرح والسينما والموسيقى وملاعب كرة القدم، وغيرها من نشاطات لها صلة بصناعة وجدان الجماعة. وانتشرت المنصات الإلكترونية للأفلام […]

الأبطال يُخلّدون لأنهم يمثلون القيم العليا لمجتمعاتهم، مثل الشجاعة والحكمة والتضحية. والبطل لا يحقق النصر لنفسه فقط، بل يعود لمشاركة حكمته مع الآخرين، مما يجعله رمزًا يُحتذى به. من هرقل إلى أوديسيوس، ومن بروميثيوس إلى الملك آرثر، جميع الأبطال يتبعون نمطًا واضحًا، ورحلة رونالدو لا تختلف عن هذا النمط.

تأليف: غدير الخنيزي
الناشر: روايات (مجموعة كلمات)، 2024م


0 تعليقات على “هوبال.. رموز سينمائية لمكونات اجتماعية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *