قريبًا، سيدخل النقل العام في مدينة الرياض مرحلة جديدة من تاريخه، بافتتاح أحد أضخم مشاريع النقل العام في العالم التي تُنفذ على دفعة واحدة، ألا وهو “مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام في مدينة الرياض” المكوَّن من شبكة قطار أنفاق تتكامل مع شبكة حافلات. ومن المفاعيل الإيجابية المرتقبة للشبكتين ما يتجاوز حل مشكلات الاختناقات المرورية التي تعانيها العاصمة السعودية وتخفيض كلفة التنقل وما إلى ذلك؛ ليصل إلى ما يُعرف باسم “التطوير الحضري الموجَّه بالنقل”.ولهذه المناسبة، تخصِّص “القافلة” قضية هذا العدد للنقل العام الحضري، الذي أصبح مكوّنًا رئيسًا من مكوّنات المدن الكبرى في العالم، ومن أبرز محرّكات الحياة اليومية فيها. فيتناول فريق القافلة ود. عبدالعزيز بن أحمد حنش، الموجبات التي جعلت من النقل العام ضرورة حيوية لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ في حين يتناول بيتر هاريغان لاحقًا، بما يتسع له المجال من التفصيل، شبكة النقل العام الجديدة في الرياض.
تبدَّلت الدوافع الكامنة وراء تطوير النقل العام عبر تاريخه. والمفارقة أن الدافع إلى ولادته يكاد يكون عكس الدوافع العديدة لتطويره اليوم. فمن المدهش أن المؤسس الأول للنقل المشترك هو الفيلسوف الفرنسي باسكال في ستينيات القرن السابع عشر، الذي حصل من الملك لويس الرابع عشر على رخصة لتأسيس شركة من عربات الخيل ذات خمسة مقاعد؛ لتشغيلها على خمسة خطوط في مدينة باريس. وكانت انطلاقتها في عام 1662م. أمَّا الدافع، فكان قلة وسائل النقل المتوفرة للطبقة الوسطى في مدينة باريس. صحيح أن الشركة لم تعمل إلا سنوات معدودة، ولكنها كانت بداية مفهوم جديد للنقل لم يتوقف منذ ذلك الحين عن التطوّر لمواكبة متغيرات الحياة الحضرية واحتياجاتها، وبدأت صورته الجديدة تتكوَّن منذ النصف الثاني في القرن التاسع عشر؛ ليرسو اليوم على وسائل عديدة أبرزها وأضخمها عالميًا على صعيد الجدوى: القطارات والحافلات الحضرية.
النقل العام في الحواضر الكبرى مستمر في التطوُّر بالاستفادة من دروس وعِبر تجمَّعت على مدى قرن ونصف تقريبًا.
سبق القطار الحضري ظهور السيارة، وكان ذلك في لندن عام 1863م، وكانت الغاية الأساس منه توفير وسيلة نقل موثوقة في مواعيدها وزهيدة التكلفة لآلاف العمال الذين كانت أعدادهم تتزايد باستمرار منذ بداية الثورة الصناعية في القرن السابق. وأثبت ذلك القطار الحضري الأول نجاحًا هائلًا؛ إذ نقل 38 ألف شخص في اليوم الأول من تدشينه. فكان ذلك إيذانًا ببداية عصر جديد في عالم النقل، ومستقبل لا مفرَّ منه لأي حاضرة كبيرة. وبالفعل حمل القرن التالي مجموعة من التحديات الإضافية، عندما راحت المدن الكبرى تتضخم أكثر فأكثر وتختنق بالسيارات، مع ما يستتبع ذلك من نتائج سلبية على صُعُد جودة الحياة والبيئة والاقتصاد.
تآكل حسنات السيارة الشخصية
تُحقِّق السيارة الخاصة لمستخدمها السيطرة على الوقت وحرية الانتقال في أي توقيت يشاء، إضافة إلى الرفاهية المتمثلة في التمتع بالخصوصية، وبالنسبة إلى البعض هي وجاهة لعدم الاختلاط مع مستويات مختلفة من الناس. لكن الإفراط في الاعتماد على هذه الوسيلة أصاب الشوارع بالشلل، ومن ثَمَّ، بدد معظم مميزات السيارة؛ وأولها التحكم في السرعة. فإذا كان وقت الانطلاق بالرحلة في اليد، فإن وقت الوصول إلى المكان المقصود لم يعد كذلك. والأمر يعني مشكلة خطيرة بالنسبة إلى شرائح كبيرة من المجتمع تحتاج إلى الوصول إلى مقاصدها في مواعيد دقيقة مثل طلاب المدارس والموظفين والعمال وغيرهم من المتنقلين يوميًا وفق مواعيد ثابتة. وهكذا، فإن كل ما يتبقى لراكب السيارة هو الحفاظ على خصوصيته في سيارة لا تتحرك. وهذا واقع ملموس يعانيه كثير من مدن العالم الثالث التي أهملت الإنفاق على مشاريع النقل العام.
تبدَّد حلم الانتقال السريع، وتبدَّدت معه حرية الانتقال. إذ صار الإنسان يفكر أكثر من مرة قبل أن يُغامر بالخروج من بيته، وأول ما يستغني عنه بالطبع هو الأشياء التي تُعدُّ رفاهية كالتنزه وحضور الفعاليات الثقافية المنعقدة في أماكن بعيدة عنه. وهنا يمكن للنقل العام أن يطلَّ برأسه ليقترح نفسه بديلًا عن السيارة إن كان يضمن الوصول السريع إلى المقاصد. ففي مدن مثل لندن وطوكيو ونيويورك، يشكِّل القطار الحضري (المترو) جزءًا لا يتجزأ من حياة السكان اليومية. شبكة المترو الواسعة في طوكيو، التي يبلغ متوسط ما تنقله من ركاب بشكل يومي حوالي 8 ملايين راكب، تُسهم في تسهيل الوصول إلى مختلف أنحاء المدينة بطريقة موثوقة وسريعة. وفي هذا المجال، لم يعد الحل اختياريًا في بعض الأماكن والمدن، بل فرضته فرضًا السلطات الرسمية، بمنع وصول السيارات إلى أحياء صارت مخصَّصة للمشاة. وفي مشاريع تطوير النقل العام القائمة حاليًا في بعض العواصم، كما هو الحال في باريس، هناك خطط لزيادة الأحياء المخصصة للمشاة التي يُمكن الوصول إليها عبر قطارات الأنفاق. وفي أوسلو أيضًا، يوجد اليوم مشروع يهدف إلى تخصيص مزيد من الأحياء للمشاة والدراجات الهوائية واعتماد النقل العام للوصول إليها.
والواقع، أن ذيول الاختناقات المرورية لا تقتصر على إطالة مدة الرحلة وانزعاج الراكب، بل بلغت من الخطورة في بعض الحواضر الكبرى ما يُحسب حسابه على قيمة ساعات العمل المُهدرة على الطرقات، وهذا أمر يُودي بنا إلى الأبعاد الاقتصادية للنقل العام.
اترك تعليقاً