مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو - أغسطس 2023

نجا المهداوي

الحرف العربي فنٌ فريدٌ على المستوى البصري


محمد ناصر المولهي

في خمسينيات القرن الماضي، عايش الفنان التونسي نجا المهداوي كثيرًا من التجارب الفنية التونسية الشابَّة، التي تمرَّدت على ما كان يُعرف آنذاك بـ “مدرسة تونس”. ولأنه كان يرفض كلمة “تمرُّد” بمعناها المجرَّد، فقد لخَّص موقفه حيال تلك التجارب بقوله: “لا تخصني ولا تهمني”. كما وصف علاقته بفناني مدرسة تونس بقوله: “هم في طريق وأنا في طريق”!.

“القافلة” سبرت غور تجربة المهداوي الفريدة، في حوار يسلِّط الضوء على رحلته الفكرية في عالَم الفن التشكيلي، كما كشف عن منظوره تجاه الفنون بصفة عامة وعلاقاتها بالمنظومة الثقافية، فضلًا عن رؤيته العميقة للحرف العربي وآفاقه وكينونته، مرورًا ببحثه عن التراث وقيمه الجوهرية.

جرّب الفنان التونسي نجا المهداوي طرقًا كثيرةً في عالم الفن التشكيلي، حتى وجد ضالته في الحرف العربي، فأعاد تطويع حركاته بكل ثرائها وتعقيداتها، وحفر فيه عميقًا بجهد منقطع النظير، فحرَّره من حدود الكلمات والمعاني، إلى عالم بلا حدود من التعبير التصويري، وأطلق العنان لألوانه وحركاته، فحوّلهما إلى دلالة تشكيلية متكاملة تجاوزت حدود مخارج الحروف والأصوات والمعاني المكتوبة.

 بيئة البدايات

المعرفة، والاجتهاد، والانفتاح، والتجدُّد، والوعي، هي عناصر البدايات التي جعلت من المهداوي رمزًا من رموز الفن العربي المعاصر، وقدَّمته إلى الثقافة العالمية، بكل ما له من فرادة وتجديد وتشرب من التراث، الأمر الذي جعل من تجربته النوعية في عالم الخط تجربة عالمية بامتياز.

في بداياته انتقد نوعًا من الفن المتوارث، منذ وقت الاستعمار الفرنسي في تونس، والذي مثل إرثًا استعماريًّا تواصى به بعض الفنانين التونسيين في تلك الحُقبة. كان متفطنًا إلى هذا الأمر، وعلى الرغم من انتقاده الفني لبعض أعمال الفنانين السابقين والمُكَرّسين، فلم يفكَّر إطلاقًا بمنطق “التمرّد” أو “قتل الأب” أو المزاحمة أو غير ذلك، بل كان له طريقه ولهم طريقهم على حد تعبيره.

مبادئ ومنهج

يؤمن المهداوي بأهمية الخطأ في تطوير تجربة الفنان، وما يدفع الفنان إلى تطوير تجربته هو المجتمع الذي يعيش فيه، “هذا إذا ما واتته الظروف، وعاش في وسط ثقافي مناسب، فالمناخ الذي يعيش فيه كل شخص هو ما يدفعه لتطوير تجربته. لكن الأهم من كل هذا هو أن يخالط الفنان التشكيلي الشعراء والكُتَّاب ورجال المسرح، لا الفنانين فحسب”.

يشدِّد الفنان على أنَّ لكل إنسان خطًا ومنهجًا وطريقًا خاصًا به، لذا كان جهده مصبوبًا على طرق تحسين الواقع من خلال الفن الشامل، فحشد طاقته كلها لأجل الطريق الذي اختاره في الفن، ولإتقان ما يعمله، دون أن يشغل نفسه بما هو جانبي، وكما يقول “معاملتي مقصورة على الأشياء التي بين يدي، لذا أركِّز فقط في عملي دون مؤثرات خارجية”.

تجديد مستمر

على الرغم مما بلغه من شهرة وترسيخ اسمه في عالم الفن التشكيلي، ما زال المهداوي يبحث في كل عمل عن تجديد نفسه، إذ يرفض الانبهار بأعماله، وهو الذي نجا من النرجسية التي أسقطت كثيرًا من التجارب الفنية في التكرار والطمأنينة والاجترار، فهو كما يقول “بعيد كيلومترات طويلة عن النرجسية. كل عمل أتمّه أفكِّر فيما بعده، وكيف أستطيع أن أطوِّر من العمل. سبق أن قلت في يوم من الأيام، إذا وقفتُ أمام إحدى لوحاتي وأبديت إعجابًا مطلقًا بها، واعتبرت أنني وصلت إلى إنجاز غير مسبوق، فقد ارتكبت أكبر خطأ، وإني لأعتبر هذا السلوك، انتحارًا للفنان”.

لا يتوقف المهداوي عن التفكير في تطوير عوالمه، ولا يشتغل أعمالًا موجَّهة في الأساس إلى التظاهرات الفنية والمعارض، أو يكون رهانها النهائي نيل إعجاب الآخرين، إذ يرى أنه على الفنان أن يتعامل مع الفن وكأنه يؤلِّف كتابًا، كلما أنهى صفحة يقلبها ليبدأ في صفحة أخرى.

حروف الفنان التونسي لا تقول ولا تكتب أو تحتضن كلمات لها معنى، إنما هي نوع من الحركة النورانية، تجربة تجلّ صوفي، حروف مسموعة كما هي مرئية بحركاتها وألوانها ودورانها، يُسكنها الفنان كل تلك الحركة والأصوات في سر لا يعلمه غيره.

لكنه يتجنَّب المفهوم العلمي للصوفية في مقاربة تجربته، فالصوفية “علم كبير ومجال واسع وصعب جدًا، وعندما نسمع رسامًا أو مغنيًا أو فنانًا يتكلم باسم الصوفية ويقول أنا صوفي بنوع من “الإطلاقية”، فهو يقع في خطأ كبير. الصوفية بحر، ومن ذا الذي يقدر على الإبحار فيه”. وعلى الرغم من ذلك فلا ينفي أنه استفاد من الحركات الصوفية في جوانب القراءة والاطلاع والاكتشاف، فيما لا يقر بأنه صوفي، فهو يكن كثيرًا من الاحترام للصوفية، ولكنه كما يقول لا يمكن نعت تجربته بالصوفية.

إحياء التراث.. تعبير خطأ

الخط العربي عند المهداوي من أهم أسس فن الإسلام التجريدي الروحاني، وهو يجتذب حاليًّا عددًا قليلًا من الرسامين العرب. يقول إنه في نهجه الخصوصي، انطلق من مبدأ تأمل التراث الحي، وتراث المصادر التاريخية والتراث – الفرد، فالحرف العربي بثرائه وتعقيداته فن فريد على المستوى البصري التشكيلي، لأنه يتضمَّن عالمًا بلا حدود من التعبير التصويري، لذا فقد استمد بحثه من القيم الجوهرية للتراث، لكنه غير معنيّ بالمحاكاة أو استرجاع القيم الموروثة، فما يبحث عنه وراء الخط العربي هو إيجاد قاعدة مرجعية، وهكذا يكون انفجار الأشكال الأكاديمية المستوعبة من الداخل قادرًا على منح الولادة لفن آخر يمتلك ذاته وروحه، فنٌ لا يتجاهل منجزات الآخرين، ويثري التراث الإنساني، فنٌ يحث على التفكير ضد القولبة والاستهلاك.

التراث والمعاصرة، ثنائية اشتغل عليها الفنان طيلة مسيرته تقريبًا، فكانت طريقه الشاق الذي يشبه الحبل، الذي من العسير أن يسير عليه الفنان دون سقوط. فقد عاش فترة وجَّه فيها اهتمامه بشكل لافت إلى الجانب الثقافي في عمله الفني، وحاول فهم معنى التراث، ولما اقترب أكثر منه، وجده ثريًا للغاية، حتى بمقارنته مع الأفكار الجديدة. لاحظ أنه يحمل كثيرًا من العناصر القوية التي تتطلَّب معرفة عميقة لإيجاد فهم مغروس بدقة في صميم الأرض، بينما لم يكن من السهل الوصول إلى التراث والتواصل معه، فالتراث حي.

يقول الفنان، الذي ألِف الرحلة بين التراث والعالم المعاصر في أعماله: “عندما نسمع مثلًا عن فنانين أو مسؤولين يتحدثون عن إحياء التراث، فذلك تعبير خطأ في رأيي. أكرِّر: التراث حي، وله قواعده ويفرض قانونه، أنا أحترم التراث بشدة”.

ارتباط تكاملي

العلاقة حتمية بين الفنون والآداب، هكذا يرى المهداوي، متسائلًا باستغراب “كيف للموسيقيين والمسرحيين والسينمائيين والفنانين وغيرهم، أن يقاطعوا أعمال بعضهم بعضًا؟ وكيف لا يحاول أولئك فهم بعضهم بعضًا؟”. وتسبَّبت هذه القطيعة في وجود ظواهر غريبة، كأن تجد مثلًا مسرحية منقوصة من الجانب “السينوغرافي”، أو فرقة موسيقية تصعد على الخشبة دون أدنى تصور إخراجي جمالي تقدِّمه للمتلقي، فيسمع الأخير الموسيقى لكنه لا يرى عرضًا متكاملًا.

لطالما كان المهداوي حريصًا على جمع الفنون وإلغاء ما يفرقها، وكذلك فيما يتعلق بعملية الارتباط المباشر بين الفنون، بما يجعل كل الفنون تفكر معًا، وتنتقد بعضها بعضًا لتتقدَّم معًا، ولهذا فلم يكن ليتوقف عن محاولاته الحثيثة في تجميع مختلف الفنون، وقد أثبت ذلك عنـدما شوهد في عرض ممتع برفقة العازف العراقي نصير شمة، في مزيج خلَّاق بين الموسيقى والرسم.

بين الاختلاف والانفتاح

في مرسمه الذي هو جزء من بيته، إذ لا انفصال بين المرسم والحياة اليومية عنده، شيّد الفنان التشكيلي من خلال أعماله الكثيرة، وبصبر ووعي، رؤيةً تقف بين فرادة الذات واختلافها عن الآخر، والانفتاح على مدارات متجدِّدة وأوسع دائمًا. هكذا يمكننا أن نلخِّص وصفته الساحرة التي كان وما زال وفيًّا لها في عمله، فالاختلاف هو رهان الفنان، وهو ينبوع غنى وإلهام وإبداع، وهو ما يمكِّننا من تجاوز النظرة القاصرة التي تصنف الحضارات وفنونها إلى راقية وأخرى سافلة، فالاختلاف هو أرض الحوار التي تتحقق فيها الإنسانية، كما أنه العامل الذي يثري العمل والمنجز، وليس التشابه. ففي فعل الرسم يجب التنديد بكل أشكال المحاصرة حتى نتجنب الانطواء المهلك على الذات وننفتح بحرية على الثقافات الأخرى.

وفي تحليل الفنان لنزعة التشكيليين العرب إلى التجريد والإبداع الهندسي يقول: “تعود هذه النزعة إلى التأثير الخاص للفنون الإسلامية، لكنني لا أذيع سرًا عندما أقول إنه رغم هذه التجريدية المبكرة فإن الفنانين العرب والمسلمين اكتشفوا التجريدية من خلال تعاملهم مع الرسم الغربي”.

يدعو الفنان بصوت عالٍ وعلى امتداد عقود من تجربته إلى تحرير فنون مجتمعات العالم الثالث، لا العربية فحسب، الخاضعة لصورة مجرَّدة تناقض في الغالب محيطها المباشر وسلوكها اليومي، وذلك تحت سُلطة وسائل الإعلام المعاصرة، وهذا عندما نتحدث عن الإبداع الشامل الذي يدفع إلى الوعي الشعبي والتفكير والانطلاق من الداخل.

ومن هنا يقترح حلولًا بديلة لـ “لوحة المسند” التي تعود إلى الغرب، وذلك من خلال إعطاء فناني العالم الثالث بُعدًا عالميًا لأعمالهم، والتفكير جماعيًّا، والبحث في التقنيات المعاصرة والمواد واقتباسها، كالرخام والفخار والخزف والزجاج والرسم على الخشب والنسيج والصباغة والتطريز وصناعة الحلي وغيرها، فهذا ما يضمن لنا الخروج من التكرار العقيم عبر إبجاد أشكال وعلامات جديدة، وفك الرموز عبر الدراسة العلمية، والعمل على تكريس الانحراف المدروس عن المسار الغربي.

الذكاء الاصطناعي والملكية الفكرية

لم يتوقف التشكيلي، الذي يعيش عقده التاسع اليوم بروح متوقدة، عن طلب الاستفادة من الزمن المعاصر والثقافات الأخرى وابتكارات العصر. لا يتخوف من التكنولوجيا، لأنه يعتبر أن روح الفنان لا يعوضها شيء. يقول: “الفنانون اليوم متخوفون أكثر فأكثر من تقنيات الذكاء الاصطناعي التي صارت تنجز أعمالًا فنية، وتعتدي على ملكياتهم الفكرية، ولذلك مَنْ يخف فهو حر في ذلك، فبالفنان أو من دونه الذكاء الاصطناعي مفروض على المجتمعات اليوم، وهو ابن مفهوم العولمة التي فرضت نفسها، ولا يمكنك أن تقول أنا ضده أو أنا معه، بل يفترض أن تتماشى معه أو تخرج من اللعبة كلها. وبما أننا دخلنا إلى دوامة مجنونة، فإما أن تكون شاهدًا على اللعبة، أو أن تساند أفكارك وتقوم بعمل جدي بكل المقاييس والمفاهيم”.

الرياضة والوعي والفنانون

كثير من الكُتَّاب والفنانين لا يولون الرياضة أهمية، لا بصفتها لعبة فحسب، بل حتى بصفتها إعادة فهم للجسد وتمثله والوعي به وفتحه على آفاق أخرى. نجا المهداوي ليس من هؤلاء، إذ يعي جيدًا أهمية الجسد في تشكيل عالمه الفني، وهو رياضي سابق، مارس السباحة وكرة القدم في صغره، وعاش طفولته في جو رياضي.

إضافة إلى الرياضات المتعارف عليها تلك، كان اهتمامه كبيرًا بالمسرح والرقص، ولعل هذا ما سيظهر في أعماله الفنية لاحقًا بشكل لافت. على خشبة المسرح، وفي حركات الأجساد الراقصة كان يبحث عن جمالية الحرف وعلاقته بالجسد وحركة الجسد، ليفهم تلك العلاقة ويتخذ منها طريقة للتجريب.

ليس لدى الفنان التونسي رسالة نهائية أو وصايا يقدِّمها للفنانين الشباب، عدا مطالبته المُلحَّة لهم بالاجتهاد الشخصي والاطلاع والتعلُّم والانفتاح، منبهًا من وقوف أي منهم أمام مرآته ليقول لنفسه: “أنا فنان، أنا قمت بعمل جبار”، فهذا ما يمنع الفنان عن التجدد والاجتهاد والبحث انطلاقًا من دواخله إلى الخارج. والاجتهاد عنده ليس مجرد كلمة رنانة أو شعار مكتوب، بل هو عمل شاق ومستمر لا يعرف الاستكانة ليلًا أو نهارًا، إنه حالة وجودية.

الدخول في المعاصرة

علاقة نجا المهداوي مميَّزة للغاية مع المملكة العربية السعودية، التي زارها واشتغل فيها مرارًا. عديد من المطارات والمنشآت تشهد بذلك، فهي كما يذكر: “أكثر بلد سافرت إليه هو السعودية، واشتغلت كثيرًا مع الرسامين السعوديين، منهم الشباب والكبار، واشتغلت على تصميمات في عديد من المطارات مثل مطار جدة ومطار الرياض ومطار الظهران، واشتغلت عليها بصفة رسمية، وعندي احترام كبير للمشهد الفني السعودي”.

ويضيف: “في السعودية اليوم خطوة تطوير مهمة من الصعب اللحاق بها، وهذا يعود إلى قرارات الدولة، التي اتخذت قرار الدخول في المعاصرة بكل صفاتها. هناك في السعودية رسامون من الجيل الجديد الذين فهموا التوجهات الجديدة وقاموا بأعمال جدية ودولية. ففي الأوساط العربية، السعودية تتقدَّم بشكل لافت. وعلى غرار السعودية ومن هذا المنبر، أدعو الدول العربية إلى الاهتمام بالاشتراك في التظاهرات الكبرى مثل بينالي البندقية وغيره”.


مقالات ذات صلة

ينعكس التجريد على حياة الفنانة بلقيس فخرو وسلوكياتها. فهي لا ترسم الأشياء، وإنما ذاكرتها. وفي محترفها، تشير إلى نفسها قائلة: “أحب البساطة في الأشياء؛ ملبسي، محترفي، سلوكي، منزلي… إني أجد المعنى فيها”. فالبساطة تقابل، بمعنى ما، التجريد الذي تنتهجه في تخليق لوحاتها، بما فيها من سكون وطمأنينة تتعدى المعاني التي انطلقت منها في إبداعها، إلى […]

يعبِّر فيلم استفتاح العام “بين الرمال” (2024م) للمخرج محمد العطاوي، عن إحدى الصيغ التمثيلية السينمائية السعودية المقترحة في القصة والتمثيل والزمان والمكان، بعيدًا عن محاولات استنساخ أساليب واتجاهات وطرق عربية وأوروبية وأمريكية.يقوم هذا الفيلم على سردية “مخاوي الذيب”، وهي سردية مكررة في التراث المعنوي والمادي في ثقافة شبه الجزيرة العربية، مبنية على موضوع علاقة الإنسان […]

١- يمشي شجرٌ للماء يستسقي من النهر حكـاياه ويبكي مثلما يستشهد الأطفال بالماء وأخطاء العطش كلَّما مات الورق في غصون الشجر العطشان متنا وتنادينا جناحان بلا ريش وريح تُسعف الطير من الموت وأسماء الشجر هل تناوبنا قُبيل الموت؟ آخينا ضمير النهر أجّلنا الحكايات عن السرد وأمضينا بقايا عمرنا الباقي بغرب الشارع العاري تفادينا قتال الموت […]


0 تعليقات على “نجا المهداوي”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *