مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين

من بطون التاريخ

وفاء


في قرية الحُميْمَة، إحدى قرى الشام، كان يسكن أبناء عبد الله بن العباس تحيط بهم عيون الخلفاء الأمويين. وكان جُلهم يشتغل بالسياسة ويجدُّ في الطلب وراء الخلافة ويتطلع إلى الحكم والوثوب إلى السلطان، فإن كانت عين الخليفة يقظةً ويده قوية عدلوا عن السياسة إلى العلم.

وكان نصيب البيت العباسي (من العلم) نصيبًا موفورًا، فقد كان عبدالله بن العباس المعلّم الأول للقرآن والحديث، واتخذ من مساجد البصرة والمدينة مدارس يجلس فيها يُبصّر الناس في شؤون دينهم. وكان أفراد هذه الأسرة أيضًا يميلون في شوق وخوف إلى الجدل الكلامي حول العقائد وتفسيرها، الذي كان يتولاه زعماء المعتزلة والخوارج وغيرهم، وكان ذلك الحديث مشوبًا بالفلسفة التي بدأت تمس العقلية العربية مسًا خفيفًا من بيزنطية .

في هذا الجو الذي اتسع لصوت العلم وبدأت فيه الفلسفة، وُلد صبيٌ لعبدالله بن محمد العباس وعاش وترعرع في القرية الشامية، فعلم من أمور دينه كثيرًا كما أخذ من شؤون دنياه نصيبًا. وكان العباسيون لا يزال حديثهم همسًا وعيونهم تحذر الرقباء، فلم تقوَ أعصاب هذا الشاب على السكون الممل. وكان قوي الشكيمة، مُدَّرب الإرادة، صلب الرأي، يتحكم في عواطفه، ويحرص على التقاليد الموروثة. وكان وافر الذكاء، متوقد الشعور، واسع الخيال، ورث عن أبيه الحزم وتحكيم العقل والإرادة في ظروف الحياة وملابساتها. وكانت أمهُ “سلامة” التي انحدرت من سلالة بربرية تحدّثه عن الحياة الخصبة الحافلة بضروب الخطر وتصور له المجد والسلطان .

قَويَ عقل الشاب واشتد ساعده فاختفى عن الحميمة، وتتبعت أمه أخباره فإذا هو راحلٌ تجاه الشرق يختفي حينًا ويظهر حينًا. ثم اختفى ولم يظهر إلا في خلافة مروان بن محمد موثوق الأيدي مطروحًا على الأرض في قصر حاكم الأهواز، والجلاد يرفع سوطًا ثم يهوي به على ظهر الشاب. وقد جلس صاحب القصر سليمان بن حبيب ابن المهلب يشهد ضرب الفتى المغوار، فلما اشتد الضرب وزاد العذاب توسط كاتب الوالي يسأل الصفح ويتشفع، ويأبى الحاكم ويستكبر فيكرر الكاتب الطلب ويلح ثم يذكر فيقول: “أيها الأمير توقف عن ضرب هذا الفتى، فإن الخلافة إن بقيت في بني أمية فلن يسوغ لك ضرب رجل من بني عبد مناف، وإن سار الملك إلى بني العباس لم تكن لك بلاد الإسلام دارًا”.

ولكن الحاكم لم يقبل الشفاعة ولم يسمع التذكرة. وتبلغ ضربات السوط اثنتين وأربعين فيقف الكاتب بين الضارب والمضروب، ويكرر الشفاعة ويطلب الصفح ويشتد في طلبه ويلح، فيأمر الوالي بالإمساك عنه ولكن يزج به في أعماق السجون. ماذا صنعت وماذا دهاك حتى حل بك هذا المصير المهلك يا أبا جعفر المنصور؟! لا بد أنها كانت مغامرة عنيفة.

أجل لقد ضرب أبو جعفر في الأرض يطلب المجد حتى وصل إلى بلاد فارس، وكان عبد الله بن معاوية الطالبي يقود ثورةً سار أبو جعفر في ركابها، وتغلب الثوار على مناطق كثيرة كان لأبي جعفر منها ولاية صغيرة هي “ايزج”، فجمع منها من المال ما يعينه على الحرب وسار يقصد البصرة فبلغ خبره والي الأهواز فقبض عليه وضُرب ذلك الضرب المبرح.

أفاق أبو جعفر من غشيته فتذكر سريعًا ما كان من أمره وأمر الكاتب الذي أنقذه من الضرب والعذاب الأليم، بل أنقذه من التلف والهلاك المبين، فقال: “إنها والله ليدٌ عندي لأبي أيوب الكاتب لن أنساها له إن كان لي من الأمر ما أطلب”.

ارتفع صوت الثورة في كل مكان وتزلزلت الدولة الأموية، وجاءت الحوادث أسرع مما قدر أبو جعفر، فتحركت المُضرية لضربه وحبسه وساروا إلى الحبس فكسروه وأطلقوا السجين وأنقذوه. ثم قامت دولة العباسيين فكان أول خلفائها أبو العباس السفاح، وكان أبو جعفر محور الارتكاز في الدولة فكتب له أخوه السفاح عهده بالبيعة من بعده .

سافر أبو جعفر إلى مكة أميرًا على الحج، وترك أخاه السفاح في الأنبار مريضًا واشتدت عليه العلة فمات، وأسرع عيسى بن موسى يأخذ البيعة للخليفة الجديد أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور .

وما كاد أبو جعفر يجلس على العرش حتى تذكر أبا أيوب الكاتب وحَضَرته ذكريات داخلية غريبة فيها الرضى وفيها الغضب، فيها الراحة وفيها التعب، فماذا هو صانع بأبي أيوب الكاتب؟ أمُجزيه خيرًا على فعله الجميل وإحسانه الذي كان سببًا في تشييد دولة عاشت ما يقرب من خمسمائة سنة؟ وأي إحسان يكافئ به ذلك الإحسان؟ جلس أبو جعفر يفكر ويطيل التفكير ويبحث عن جزاء عظيم يليق بذلك الرجل العظيم فتتكافأ الكفتان، والنفس العظيمة لا تنسى الجميل وإن صغر، فكيف بالجميل الذي أنقذ الروح وكون الدولة.

لم يجد أبو جعفر جزاء يكافئ به أبا أیوب غير توزيره وجعله الوزير المقرب، الذي يُستنار به في الملمات.


مقالات ذات صلة

قليلة هي التجارب التي تنضح بالصدق والبراءة والالتحام بالحياة، كما هو حال الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة (1903م – 1947م)، فالشعر عنده لا يتغذّى من الأفكار التي يحملها الشاعر عن الأشياء، بل من حرائق الداخل واصطدام الشاعر بنفسه وبالعالم، بحيث تصبح اللغة محصلة طبيعية لهذه الحرائق وذلك الاصطدام. ولأنه ليس شاعر الأفكار المجردة والتوليد الذهني، […]

في قصيدة نُشرت عام 1903م عنوانها “اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها”، شبَّه شاعر النيل حافظ إبراهيم اللغة العربية بشخص أدرك أنه لا محالة هالك فقرَّر أن ينعى حياته. اشتهرت القصيدة وذاعت بعدما أثارت الشجن حول ما تواجهه العربية من مِحن، إلا أنه لم يبقَ حاضرًا من القصيدة الطويلة في الأذهان بعد ما يربو على […]

أثار إعلان فوز الكاتب الجزائري الأصل كمال داود، مطلع نوفمبر الماضي، بجائزة الجونكور نقاشًا محتدمًا يتجدد عادة في هذه المناسبات، يتجاوز حدود النقد الأدبي إلى اتهامات سياسية تطول الكاتب. على صعيد النقد الرصين، أسهمت الأبحاث ما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية في اشتباكها مع تحليل الأدب، في الكشف عن التحولات التي طالت الثقافة في المجتمعات التي […]


0 تعليقات على “من بطون التاريخ.. وفاء”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *