حضور العلاقات الإنسانية بكل أشكالها وصفاتها متجذر في الروايات، ومن ضمن تلك العلاقات الجِيرة التي تجمع ما بين الجار وجاره. وعلى الرغم من أن حضور هذه العلاقة الاجتماعية محدود في السَّرد، فقد تشكّلت ملامح متعددة تجعلها جديرة بالبحث والتقصي في تتبع مساراتها من الناحية الفنية، وهو أمر لم ينل الاهتمام المستقل في الدراسات والأبحاث العربية.
يُشكّل وصف علاقة الجِيرة من ناحية حضورها الفني حالة من التنميط، ونادرًا ما نرى وصفًا مبتكرًا في هذا الجانب. فعندما يُشار إلى شخصية الجار، غالبًا ما تكون تلك الشخصية هامشية في السَّرد. ربَّما يعود الأمر إلى أن هذه العلاقة مبجلة وقيمها ثابتة في كل المجتمعات والثقافات. وهذا يعني أن وجودها في الرواية وجود مقنن، ولكنه ملحوظ في عدد من الأعمال العالمية.
تعدد ألوان حضور الجار
ثمة نماذج في الأدب العالمي تحتل فيها علاقة الجِيرة دورًا مركزيًا، أبرزها على الإطلاق “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست، التي يعتمد السَّرد فيها على علاقات الجيران في الطبقة الأرستقراطية باهتماماتها الشكلية بالسهرات.
وفي رواية “غاتسبي العظيم” للكاتب الأمريكي فرنسيس سكوت فيتزجيرالد، يجري السَّرد على لسان “نك كاراويه” عن شخصية جاره “غاتسبي”. وتبدأ دهشة “كاراويه” هذا أولًا من قصر جاره المضاء بشكل يدل على فخامة ذلك القصر، ثم يتصاعد إعجابه بشخصية الجار حتى أطلق عليه لقب “غاتسبي العظيم”. ونلاحظ في هذه الرواية أن شخصية السارد الرئيسة كانت تحت مظلة شخصية الجار الذي استحوذ على ثيمة الرواية.
كذلك في رواية “نساء صغيرات” للكاتبة لويزا ماي ألكوت، سنجد أن للجار دورًا مهمًا فيها. وتتجلى هذه الأهمية في شخصية السيد “جيمس لورانس” الذي يعيش في قصره مع حفيده “لوري”. كان للجار العجوز الثري مواقف إيجابية من تلك الأسرة بسبب غياب الأب لاشتراكه في الحرب، ومنها أنه عندما سمح لابنة عائلة “بيث” بأن تعزف على البيانو، سمح أيضًا لجوزفين التي تحب الكتب أن تقرأ في مكتبته. ومن خلال تلك الزيارات كانت الساردة تصف لنا تفاصيل ذلك القصر من الداخل. وإذا كان حضور الجار الثري في تلك المساعدات، فإن حفيده لوري أخذ مساحة شاسعة في السَّرد، سواء في علاقته بجوزفين كصديقة أو بزواجه من إيمي. لكن مع كل ذلك الحضور الشاسع في الرواية، إلا أنه ظلَّ في مرتبة الجار الذي كان حضوره في كل المشاهد مرتبطًا بالشقيقات الأربع بطلات الرواية.
بيوت الجيران عند محفوظ
في الأدب العربي، يبدو نجيب محفوظ رديف مارسيل بروست في الحضور القوي للجِيرة والجيران. وربَّما يعود ذلك إلى أن المكان محدود في سرد نجيب محفوظ؛ إذ إنه ملتزم في غالبه بالحارة والزقاق. في “زقاق المدق”، يذكر محفوظ كل الشخصيات بأسمائها ويقدمها في مستوى سردي متقارب. وفي رواية “خان الخليلي” هناك حضور للجيران في حالات متعددة، وتحديدًا أثناء غارات الحرب واجتماع الجيران في القبو. ولكن علاقة “أحمد عاكف” بابنة الجيران “نوال”، ثم علاقة “رشدي عاكف” بالفتاة نفسها كانت هي المحور الرئيس في الرواية. لذا، لا تحضر “نوال” إلا من خلال الأخوين (أحمد ورشدي عاكف)، في حين تبقى عائلتها في الظل وحضورها هامشي في أحداث الرواية.
وتكرَّر ذلك في رواية “بداية ونهاية”، حيث علاقة “حسنين” بابنة الجيران كانت سببًا لوجودهم في السَّرد، لكن الاختلاف بين الروايتين هو أن القارئ يتعرَّف في “بداية ونهاية” على تفاصيل شقة الجيران، حيث كان حسنين يعطي ابنهم دروسًا خصوصية، وكان المقابل الذي تدفعه له أسرة الجيران أشبه بالمساعدة، بعد أن فقَدَ حسنين وأشقاؤه أباهم وأصبحت الأسرة في حالة فقر. بينما لا تبدو في “خان الخليلي” تفاصيل منزل “نوال”، إلا من تلك النافذة التي تطلُّ منها. وربَّما كانت “حكايات حارتنا” أفضل مثال على هذه المساواة. في كل الأحوال، يبدو حضور الجار لدى نجيب محفوظ قويًا، وهو ما يجعله مناسبًا لدراسة مستقلة.

في الأدب العربي، يبدو نجيب محفوظ رديف مارسيل بروست في الحضور القوي للجِيرة والجيران.
إبقاء الجار مجهول الهوية
أحيانًا، يستكثر الروائي أن يُسمِّي شخصية الجار، ويكتفي بالقول إنه الجار أو ابنة الجيران، أو يذكر الاسم مع صفة الجار. وكأنه يريد أن يؤكد تلك المسافة بين بطلة الرواية وما بين الجار. بينما يدل وصف علاقة الجيران أحيانًا على السلوك الاجتماعي، ونتعرَّف من خلالها على ملامح المرحلة الزمنية التي تجري فيها الأحداث.
ففي رواية “شارع العطايف”، استثمر الروائي عبدالله بن بخيت ظهور البث التلفزيوني في مدينة الرياض، وقدَّم مشهدًا سرديًا يُعبِّر فيه عن علاقة الجيران في ذلك الزمن، الذي من الصعب تكرار حضوره في الزمن المعاش. فعندما اشترى والد “سعدني” أول جهاز تلفزيون في الحارة، وضعه في البداية في “الروشن”، ولكن مع تكاثر زيارات الجيران للمشاركة في مشاهدة التلفزيون اضطر إلى أن ينقله إلى “المصباح” الذي يُغطّي مدخل الروشن حتى يمكن مشاهدته من الداخل والخارج؛ “فصارت النساء يجلسن في داخل الروشن والرجال في المصابيح الخارجية”.
لا يعتني الروائيون بوصف كل أفراد أسرة الجيران، فهم غالبًا ما يركِّزون على إحدى الشخصيات مثل: الأب أو الأم أو أحد الأبناء أو البنات، ويكتفي بتلك الشخصية. وهذا النموذج نرصده في رواية “العَدَامة” لتركي الحمد، حيث لا نعرف من جيران أسرة هاشم العابر إلا ابنتهم “نورة”، التي كانت الرسول الذي يقوم بإيصال الأشياء بين الأسرتين، وكانت من جهة أخرى فتاة أحلام بطل الرواية هشام العابر. وعلى الرغم من غياب ملامح أسرة الجيران، فإن العادات والتواصل الاجتماعي الذي جمع الأسرتين كان يُعبِّر عن علاقة الجيران في ذلك الزمن. فعندما انتقل هشام العابر إلى الرياض في رواية “الشميسي”، الجزء الثاني من ثلاثية “أطياف الأزقة المهجورة”، نجده لا يعرف من الحارة سوى جارته سارة، ولا يعرف القارئ عن سارة إلا أنها جارة هشام العابر، وفي محيط تلك العلاقة كان وصف الجِيرة في تلك الرواية.
في روايات عبده خال، التي تتخذ من الحارات مسرحًا للأحداث (فسوق، الأيام لا تخبئ أحدًا، نباح، لوعة الغاوية)، نراه يُقدِّم علاقات الجيران في شكلها العام الذي يلائم أجواء الحارات، لكنه لا يخص جِيرة أحد من الشخصيات بميزة عن الأخرى، إلا إذا كانت هناك علاقة عاطفية. وغالبًا ما يستخدم “خال” أصوات الجيران وحضورهم في القضايا التي تُلمّ بالحارة، وتجيء أصوات تلك الشخصيات بالحكم والوصايا أو بالرفض والاحتجاج. وتبدو مشاهد عبده خال في الحارة أشبه بالمحكمة، فيها يختلف الجيران ويتصالحون.
غالبًا ما يستخدم “خال” أصوات الجيران وحضورهم في القضايا التي تُلمّ بالحارة، التي تبدو مثل المحكمة، يختلف فيها الجيران ويتصالحون.

الأشكال المختلفة للجِيرة
للجِيرة في الروايات أشكال متعددة، منها الجِيرة الدائمة وهي جِيرة المنازل، وأحيانًا مؤقتة مثل جِيرة الشقق السكنية. وهناك العابرة لبضعة أيام مثل الجِيرة في الشاليهات أو في رحلات السفن أو الفنادق. لكن مدة الجِيرة ليست الأساس، وإنما الأمر مرتهن بقدرة الروائي على التوغل في تفاصيل تلك العلاقة، وبمدى إضافة تلك العلاقة لحكايته السَّردية. ومن الروايات التي قدَّمت نموذج جِيرة الشقق السكنية رواية “عمارة يعقوبيان” للروائي علاء الأسواني، حيث يكشف السَّرد العلاقات بين سكان تلك العمارة وكيف أن كل شخصية ساكن تُمثِّل حكاية سردية مختلفة. لكن محور الجِيرة كان حاضرًا بشكل ما في تلك الرواية، ليس في خصوصية المكان، ولكن بما تفرضه الحياة من تقاطعات لأناس يسكنون في عمارة سكنية واحدة.
أمَّا رواية “عناقيد الغضب” لجون شتاينبك، فتُقدِّم نموذج الجِيرة المؤقتة، وذلك من خلال ارتحال الأسرة أبطال الرواية أثناء السفر، وفي كل مرة كانوا يعيشون علاقة الجِيرة في المخيمات المؤقتة.
أحيانًا يكون الهدف من استحضار الجار تقديم حالة مغايرة عن شخصيات الأسرة الرئيسة في الرواية، إمَّا لمغايرة طبقية أو دينية أو أسلوب الحياة. وهذا ما نرصده في رواية “خزي” للروائي ج. م. كوتزي، حيث “لوسي” ابنة بطل الرواية الأستاذ الجامعي تملك مزرعة في “كيب تاون”، ولكن لأنَّها امرأة بيضاء يستكثر جارها أن تملك مزرعة، ويبدأ في مضايقتها وتدبير اعتداء جسدي عليها. ومع ذلك، لا تستلم ولا تسلّم بمضايقة الجار. إن وصف تلك الجِيرة في تلك الرواية كان ذا أبعاد تتجاوز وصف علاقة الجِيرة في مستواها الطبيعي. يقول والدها لبطرس: “تريد ابنتي أن تكون جارة طيبة، مواطنة طيبة وجارة طيبة. تحب كيب الشرقية. تريد أن تعيش حياتها هنا، تريد العيش في وئام مع الجميع. لكن كيف تفعل ذلك؟”.
اترك تعليقاً