صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد من العلم إلى الثقافة إلى الديموقراطية إلى القانون إلى غير ذلك، لكن لعل من أكثر المفاهيم الطارئة تأثيرًا وإثارة للإشكاليات مفهوما التقدم والتنوير اللذان يحضران بقوة في كتابات عدد من أوائل النهضويـين العرب مثل: شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى وطه حسين وتوفيق الحكيم ومصطفى عبدالرازق وغيرهم.
قبل هؤلاء كان الطهطاوي قد مهد لمفهوم التقدم في كتابه المعروف “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، الذي نشره بعد عودته من فرنسا أواسط القرن التاسع عشر.
يقول المؤرخ اللبناني ألبرت حوراني في كتابه “الفكر العربي في عصر النهضة” إن الطهطاوي حين رأى المبتكرات الحديثة في الغرب، وجد فيها ما يبشر بتحسن أحوال البشر: “كان يعتقد أن هذه المبتكرات إنما تسجل بدء تطور سيستمر ويؤدي، في آخر الأمر، إلى التقاء الشعوب بعضها ببعض وإلى العيش بسلام. لذلك توجب على مصر أن تتبنى العلوم الحديثة والمبتكرات المنبثقة عنها، دون أن تخشى من ذلك خطرًا على دينها”.
التبيئة والبحث عن الجذور
وكان من المهم سواء لدى الطهطاوي أو غيره أن يبيّئوا المفاهيم الجديدة أو يؤصلوها بالبحث عن جذور إسلامية لها. وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة تلك التبيئة (وأظنها صحيحة جزئيًا على الأقل) فإن ما يهمنا هو النظر في انتقال المفاهيم وما تركته من أثر هو دون شك أثر عظيم؛ إذ من المستحيل تخيل الحياة العربية اليوم وليس الثقافة وحدها دون تلك المفاهيم التي تولّد منها كثيرٌ من القوانين والمؤسسات وأساليب العيش.
غير أن المهم أيضًا أن نقف أمام عملية التلقي والكيفيات التي أمكن من خلالها لتلك المفاهيم أن تشتغل وتحدث أثرها. فالتبيئة التي حدثت كانت من نوعين أو على مستويين: واعٍ أو مخطط له، ولا واعٍ أو غير مقصود. تمثل النوع الواعي في خطين متوازيين ولكنهما متعارضان، أكد الأول أن المفاهيم أوروبية أو غربية وأن من المهم استيعابها على ذلك الأساس، في حين أكد الثاني على أصالة المفاهيم في الشريعة أو في الموروث العربي الإسلامي، أي التأكيد على أن المفهوم ليس مفهومًا غربيًا أو غريبًا أصلًا.
أما المستوى الثاني فقد تمثل في تغير المفهوم نتيجة لتفسيره أو استيعابه على نحو مخالف قليلًا أو كثيرًا لما قصد به في منبته. وهذا أمر طبيعي، بل حتمي في تاريخ العلاقات الحضارية؛ فالمعرفة ومنها المفاهيم لا بد أن تتلون بلون المكان، لكن مدى وعمق ذلك التلون موضوع يختلف فيه المفكرون ومؤرخو الفكر. ومن أبرز الأمثلة على ذلك مفهوما التنوير والتقدم وكيف كان النظر إليهما وكيف جرى توظيفهما.
العقل الأوروبي
تأسس التنوير الأوروبي في المقام الأول على العقل البشري من حيث كونه متصلًا بالعلم التجريبي والمنطق وكونه مفارقًا للغيبيات أو المعتقدات الإيمانية الدينية بصفة خاصة. هكذا نجده لدى كانط وفولتير وروسو وغيرهم. لكن المثقفين العرب الذين تلقفوا ذلك المفهوم أكدوا هويته الأوروبية بوصف تلك الهوية جزءًا من التنوير نفسه.
فإذا كان الأوروبيون مشغولين بالعقل بوصفه عقلًا أولًا، فإن العرب انشغلوا بالعقل بوصفه عقلًا أوروبيًّا أو غربيًّا وليس بوصفه عقلًا فحسب، وأن الأنوار ليست أنوار العقل بحد ذاته وإنما أن ذلك العقل كان عقلًا أوروبيًّا، أي أن التنوير تحول بصورة تلقائية ولا واعية غالبًا إلى تبنٍّ للعقل الآخر الأوروبي (وليس العقل كما هو في التراث العربي الإسلامي، مثلًا)، فليس للعقل العربي الحديث من منقذ سوى ديكارت ومن تلاه وليس لثقافة مصر سوى أوروبا، كما نادى طه حسين في اثنين من كتبه الشهيرة «في الشعر الجاهلي» و«مستقبل الثقافة في مصر». يقول طه حسين في كتابه «في الشعر الجاهلي» حين دعا إلى مذهب الشك الديكارتي مبررًا تلك الدعوة: “وهذا لأن عقليتنا نفسها قد بدأت منذ عقود في التغير لتصبح غربية أو قل أقرب إلى العقلية الغربية منها إلى الشرقية…”.
الوجه المظلم للتنوير
كان على ذلك التلقي للتنوير أن يتجاهل الارتباط الذي اكتشفه الأوروبيون فيما بعد وهو أن العقل لم يستطع أن يحقق التقدم بمعنى التحسن وإيثار السلام على العنف والرقي بدلًا من الانحدار، أي التقدم الذي سعى إليه المثقفون العرب، فظل مفهوم التنوير العقلاني بعيدًا عن النقد، أي بعيدًا عن الربط بين التنوير وبين الاستعمار، أو بين التنوير والعنف المدمر الذي تعرضت له أوروبا في حربين عالميتين. لم يكتشف العرب، أو لم يريدوا أن يكتشفوا الحقيقة الصادمة المتمثلة في أن ذلك العقل الأوروبي هو ذاته الذي قاد إلى ما أسماه الفيلسوف الفرنسي المعاصر إدغار موران “بربرية أوروبا” في كتابه “ثقافة أوروبا وبربريتها”؛ أي استعمارها للعالم ونهبها لخيراته وموروثاته.
ذلك الاستعمار البربري سبق التنوير بالطبع لكن تنويريي أوروبا لم يكن لديهم مشكلة مع استعمار أوروبا للعالم، بل لم يكن ذلك في متخيلهم العقلاني. نقد التنوير تحديدًا جاء بصفة خاصة من مدرسة فرانكفورت الألمانية وتمثل في الكتاب الشهير “جدلية التنوير”. ومثل تنويريي أوروبا، كان معظم النهضويين أو التنويريين العرب.
لقد ظهر فيما بعد مفكرون عرب متنبهون للجوانب المظلمة للتنوير الأوروبي. وإذا كان هؤلاء لم يرفضوا الجوانب الإيجابية فيه، مثل: إشاعة الوعي والتخلص من الجهل والخرافات إلى غير ذلك، فقد تنبهوا أيضًا إلى أن مبادئ التنوير لا تكفي بحد ذاتها لتحقيق مفهوم “التقدم”، أي تحسين أوضاع البشر، وأن مبادئ التنوير تنطوي على ما يؤدي إلى الانحدار بوضع الإنسان ومستقبله. من بين أولئك المفكرين مالك بن نبي وعبدالوهاب المسيري وطه عبدالرحمن.
نقد الذات أولًا
وسواء أتفقنا أم لم نتفق مع ذلك النقد، فإن روح النقد بحد ذاتها كانت أهم الأسس التي انطلق منها التنوير الفرنسي، والنقد يشمل الذات أولًا، أي قدرة الأفراد والثقافة ككل على مراجعة ما استقر في الذات أو العقل من مفاهيم بغية استكشاف نقاط قوتها وضعفها. المشكلة هي في تحول التنوير أو التقدم أو غير ذلك من المفاهيم إلى أيديولوجيات أو فكر جامد لا يقبل المناقشة.
المؤكد في كل الحالات أن مفاهيم مثل التنوير أو الأنوار والتقدم تركت أثرًا في الثقافة العربية، وتحليل ذلك الأثر موضوع دراسات أوسع من ملاحظاتي هذه، وإنما أردت أن أبين ما أقصده بالمفاهيم حين تنتقل من بيئة إلى أخرى وكيفية التعامل معها في البيئة التي انتقلت إليها مقارنة بمآلاتها في ثقافة المنبت.
وليست تلك البيئات مقصورة على البيئة العربية الإسلامية، وإنما هي أشمل من ذلك. مفكرون من الصين واليابان وغيرهما، فضلًا عن المفكرين الغربيين الأوروبيين تحديدًا، تناولوا بعض تلك الجوانب، كما نجد اليوم لدى مفكري ما بعد الكولونيالية، ابتداءً بإدوارد سعيد، ومرورًا بالمفكرين الهنود والأفارقة (هومي بابا ونغوغي واثيونغو وغيرهما).
وكانت أوروبا نفسها بيئة خصبة وضخمة لمفاهيم مهاجرة، وأبرزها ما هاجر زمنيًّا من ثقافات أو حضارات سابقة. ولعل الفلسفة بين أبرز تلك المفاهيم. لكن موضوع الفلسفة، وهي الحقل الفكري الضخم الذي يتضمن مفاهيم عديدة، سيأخذنا في اتجاهات أخرى ليس هذا مكان التوسع فيها.
ما نحتاج إلى الوقوف عليه وتأمله على أية حال هو أن الفكر يتشكل وفق رؤى ومصالح وظروف يسيطر الإنسان على بعضها ويعجز عن السيطرة على بعضها الآخر. المفاهيم عامل أساس من عوامل التحول الفكري والثقافي، وجانب من قدرتها على التغيير يقع بيد المشتغل في حقول الفكر والعلوم والمعرفة بصفة عامة، سواء كان ذلك بصورة مباشرة بالبحث والتحليل أو غير مباشرة عن طريق الترجمة. ولا شك في أن دراسة المفاهيم والتأريخ لها واستيعاب كيفية تشكلها وما تحدثه من تغيير جزء أساس ومهم مما يمكن عمله.
اترك تعليقاً