مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو - يونيو 2023

مكتبات الشخصيات الروائية.. تتبدل النظرة إليها بتبدّل الأبطال


طامي السميري

ما‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬يمزج‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬واقعي‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬متخيل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬المكتبات،‭ ‬حيث‭ ‬تتجاور‭ ‬المعرفة،‭ ‬بكل‭ ‬أطيافها،‭ ‬مع‭ ‬فنون‭ ‬الإبداع‭ ‬الأخرى،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬خيال‭ ‬وفن‭ ‬ومباهج‭ ‬تتجلّى،‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬تتجلّى،‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬السرد. ‬وهناك‭ ‬قد‭ ‬تصادفنا‭ ‬شخصيات‭ ‬روائية‭ ‬قارئة‭ ‬لديها‭ ‬أسبابها‭ ‬ومبرراتها‭ ‬في‭ ‬القراءة،‭ ‬ولديها‭ ‬ميولها‭ ‬في‭ ‬أنواع‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تقرؤها‭ ‬وكذلك‭ ‬لها‭ ‬طقوسها‭ ‬وعاداتها‭ ‬وأماكنها‭ ‬وأوقاتها‭ ‬المفضلة‭ ‬للقراءة. ‬ولأن‭ ‬تفاصيل‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬تتشعب‭ ‬وتتعدد‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬الأعمال‭ ‬السردية،‭ ‬فسوف‭ ‬نقصر‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقالة‭ ‬على‭ ‬محور‭ ‬محدد،‭ ‬وهو‭ ‬مكتبات‭ ‬الشخصيات‭ ‬الروائية.
• طامي السيمري

تختلف‭ ‬المكتبات‭ ‬المتخيلة‭ ‬في‭ ‬الروايات‭ ‬في‭ ‬أنواعها‭ ‬وأهميتها‭ ‬وحضورها‭ ‬بين‭ ‬رواية‭ ‬وأخرى،‭ ‬فهناك‭ ‬المكتبات‭ ‬العامة‭ ‬ومكتبات‭ ‬الجامعات‭ ‬وأحيانًا‭ ‬المكتبات‭ ‬التجارية،‭ ‬وذلك‭ ‬وفق‭ ‬سياق‭ ‬الأحداث. ‬ويأتي‭ ‬ذكر‭ ‬تلك‭ ‬المكتبات‭ ‬غالبًا‭ ‬في‭ ‬إشارات‭ ‬عابرة‭ ‬وفي‭ ‬أوصاف‭ ‬نمطية‭ ‬مكررة،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬تُستثمر‭ ‬كفضاء‭ ‬مكاني‭ ‬لالتقاء‭ ‬الشخصيات‭ ‬الروائية،‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬مكانًا‭ ‬للبحث‭ ‬العلمي‭ ‬كمكتبة‭ ‬جامعة‭ ‬ميزوري،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬فيها‭ ‬بطل‭ ‬رواية “ستونر”‭ ‬لجون‭ ‬ويليامز. ‬لكن‭ ‬وصف‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬يجمع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬جدية‭ ‬البحث‭ ‬والشغف‭:‬ “يتجول‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬الجامعة‭ ‬بين‭ ‬أكداس‭ ‬آلاف‭ ‬الكتب،‭ ‬يشم‭ ‬عبق‭ ‬الجلد‭ ‬والقماش‭ ‬والصفحات‭ ‬الجافة‭ ‬كأنها‭ ‬بخور‭ ‬نقي. ‬يتوقف‭ ‬أحيانًا‭ ‬ويسحب‭ ‬مجلدًا‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬رف‭ ‬يحمله‭ ‬بيديه‭ ‬الضخمتين‭ ‬فتسري‭ ‬فيهما‭ ‬رعشة‭ ‬خفيفة‭ ‬لدى‭ ‬اللمسة‭ ‬غير‭ ‬المألوفة‭ ‬لكعب‭ ‬الكتاب‭ ‬وجلدته‭ ‬وصفحاته‭ ‬الآسرة”.‬

أمّا‭ ‬بطل‭ ‬رواية “البحث‭ ‬عن‭ ‬الزمن‭ ‬المفقود” ‬لمارسيل‭ ‬بروست‭ ‬فينظر‭ ‬إلى‭ ‬المكتبة‭ ‬برؤية‭ ‬حالمة‭ ‬وكأنها‭ ‬الملاذ،‭ ‬إذ‭ ‬يقول: “المكتبة‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬المكان‭ ‬الأفضل‭ ‬الذي‭ ‬يصنع‭ ‬فيه‭ ‬المرء‭ ‬حلم‭ ‬الحياة‭”‬. وعلى‭ ‬النقيض‭ ‬منه،‭ ‬فإن‭ ‬بطل‭ ‬رواية “أعلنوا‭ ‬مولده‭ ‬فوق‭ ‬الجبل” ‬لجيمس‭ ‬بالدون‭ ‬يتهيب‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬المكتبة‭ ‬العامة‭ ‬لأنها‭ ‬مكدسة‭ ‬بالكتب،‭ ‬ويسوق‭ ‬مبرر‭ ‬خوفه‭ ‬من‭ ‬المكان‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة: “لأنه‭ ‬كان‭ ‬ضخمًا‭ ‬للغاية‭ ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنه‭ ‬مليء‭ ‬بالطرقات‭ ‬والسلالم‭ ‬الرخامية،‭ ‬وإنه‭ ‬سيضيع‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المتاهة‭ ‬ولن‭ ‬يجد‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬يريده،‭ ‬حينئذ‭ ‬سيعرف‭ ‬الجميع‭ ‬بالداخل‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يعتد‭ ‬دخول‭ ‬المباني‭ ‬الضخمة‭ ‬أو‭ ‬مقاربة‭ ‬الكتب‭ ‬الكثيرة‭”‬. لكنه‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬وعندما‭ ‬استطاع‭ ‬دخول‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

المكتبات‭ ‬المنزلية‭ ‬ومشاعر الشخصيات‭ ‬الروائية

تحظى‭ ‬بعض‭ ‬المكتبات‭ ‬المنزلية‭ ‬في‭ ‬الروايات‭ ‬بأهمية‭ ‬الوصف‭ ‬عند‭ ‬الروائيين‭ ‬لأنها‭ ‬ترتبط‭ ‬بالشخصية‭ ‬الروائية‭ ‬وتعكس‭ ‬ملامحها،‭ ‬كما‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬ذائقتها‭ ‬وأيضًا‭ ‬على‭ ‬المكانة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬الشخصية. ‬ولهذا،‭ ‬فإن‭ ‬بائع‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬رواية “اليوم‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬السعادة” ‬لأنريكو‭ ‬دي‭ ‬لوكا‭ ‬يقول: ‬إن “أعمق‭ ‬فراغ‭ ‬رأيته‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬هو‭ ‬فراغ‭ ‬جدار‭ ‬كان‭ ‬يسند‭ ‬مكتبة‭ ‬مباعة”. ‬وهذه‭ ‬العبارة‭ ‬تعطي‭ ‬انطباعًا‭ ‬بأن‭ ‬المكتبة‭ ‬قد‭ ‬تصبح‭ ‬جزءًا‭ ‬رئيسًا‭ ‬من‭ ‬مكوّنات‭ ‬المنزل‭ ‬وأنها‭ ‬لا‭ ‬تباع‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الظروف‭ ‬القاهرة‭.‬

وقد‭ ‬يمنح‭ ‬وجود‭ ‬المكتبة‭ ‬المنزلية‭ ‬الشخصية‭ ‬الروائية‭ ‬شعورًا‭ ‬حميميًا‭ ‬ليس‭ ‬بسبب‭ ‬منظر‭ ‬الكتب‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬عند‭ ‬تيريزا‭ ‬بطلة‭ ‬رواية “كائن‭ ‬لا‭ ‬تحتمل‭ ‬خفته” ‬لميلان‭ ‬كونديرا،‭ ‬إذ‭ ‬صوّر‭ ‬الكاتب‭ ‬مشاعرها‭ ‬وهي‭ ‬ترى‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة‭ ‬المنزلية‭ ‬للمهندس‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الآتي: “عيناها‭ ‬متسمرتان‭ ‬إلى‭ ‬الحائط‭ ‬الذي‭ ‬تحجبه‭ ‬تمامًا‭ ‬رفوف‭ ‬مزدحمة‭ ‬بالكتب. ‬سُرَّت‭ ‬تیریزا‭ ‬لذلك. ‬والقلق‭ ‬الذي‭ ‬رافقها‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬أخذ‭ ‬يتلاشى. ‬منذ‭ ‬طفولتها،‭ ‬كانت‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬علامة‭ ‬على‭ ‬أخوّة‭ ‬سرية‭.‬ فمن‭ ‬يملك‭ ‬مكتبة‭ ‬كهذه،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬مستطاعه‭ ‬إذًا‭ ‬أن‭ ‬يؤذيها”. ‬لكن‭ ‬كونديرا‭ ‬لم‭ ‬يكتف‭ ‬بدهشة‭ ‬تيريزا‭ ‬الحميمية‭ ‬بالمكتبة،‭ ‬بل‭ ‬وصف‭ ‬مشاعرها‭ ‬وهي‭ ‬ترى‭ ‬مسرحية‭ ‬أوديب‭ ‬ضمن‭ ‬الكتب‭ ‬أيضًا،‭ ‬فتستعيد‭ ‬ذكرى‭ ‬توماس‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أوصاها‭ ‬بقراءة‭ ‬تلك‭ ‬الرواية‭ ‬وقد‭ ‬اعتبرت‭ ‬الأمر‭ ‬بمثابة‭ ‬إشارة. ‬والأمر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬دهشة‭ ‬تيريزا‭ ‬بتلك‭ ‬المكتبة،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬كانت‭ ‬تقرأ‭ ‬رواية “آنا‭ ‬كارنينا” ‬لتولستوي،‭ ‬وقراءتها‭ ‬لتلك‭ ‬الرواية‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬توماس‭ ‬يميزها،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬تأثير‭ ‬تلك‭ ‬الرواية‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬تسمية‭ ‬كلبتهما‭ ‬باسم “كارنينا‭”.

لكن‭ ‬ليس‭ ‬الشعور‭ ‬الحميم‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تولّده‭ ‬المكتبة‭ ‬عند‭ ‬الشخصيات‭ ‬الروائية،‭ ‬فهناك‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬أخرى‭ ‬مختلفة‭ ‬ومغايرة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬عبرت‭ ‬عنه‭ ‬شخصية “نك” ‬بطل‭ ‬رواية “غاتسبي‭ ‬العظيم” ‬لفيتزجيرالد،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬شاهد‭ ‬المكتبة‭ ‬في‭ ‬منزل “غاتسبي‭”‬،‭‬ وكان‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة‭ ‬لا‭ ‬تعني “غاتسبي” ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬ولا‭ ‬تعكس‭ ‬اهتمامه‭ ‬بالقراءة،‭ ‬بل‭ ‬تتماهى‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬الثراء‭ ‬المريب‭ ‬الذي‭ ‬يتمتع‭ ‬به: “لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك. ‬ولم‭ ‬نستطع‭ ‬أن‭ ‬نراه‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬الدرجات،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬الشرفة،‭ ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬ما‭ ‬جربنا‭ ‬بابًا‭ ‬تبدو‭ ‬عليه‭ ‬الأهمية،‭ ‬فدخلنا‭ ‬مكتبة‭ ‬على‭ ‬الطراز‭ ‬القوطي،‭ ‬صُنعت‭ ‬رفوفها‭ ‬من‭ ‬خشب‭ ‬البلوط‭ ‬الإنجليزي،‭ ‬وربما‭ ‬نقلت‭ ‬بكاملها‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬البيوت‭ ‬التي‭ ‬دُمرت‭ ‬عبر‭ ‬البحار”.‬

وفي‭ ‬مواقف‭ ‬روائية‭ ‬أخرى‭ ‬تحاول‭ ‬الشخصية‭ ‬أن‭ ‬تتباهى‭ ‬بمكتبتها‭ ‬وبما‭ ‬تحتويه‭ ‬من‭ ‬عناوين. ‬فعندما‭ ‬علِم‭ ‬السيد “هوميه‭‬”،‭ ‬الصيدلي‭ ‬في‭ ‬رواية “مدام‭ ‬بوڤاري” ‬للروائي‭ ‬الفرنسي‭ ‬فلوبير‭ ‬بأن “إيما” ‬اشتركت‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬تُعير‭ ‬الكتب،‭ ‬عرض‭ ‬عليها‭ ‬عرضًا‭ ‬ظاهره‭ ‬المساعدة،‭ ‬لكن‭ ‬فيه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التباهي‭ ‬الشخصي‭ ‬الذي‭ ‬يتناغم‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬حكاية‭ ‬الرواية: “هل‭ ‬للسيدة‭ ‬أن‭ ‬تشرفني‭ ‬بالإفادة‭ ‬من‭ ‬مكتبتي‭ ‬الخاصة،‭ ‬إن‭ ‬لديَّ‭ ‬تحت‭ ‬تصرفها‭ ‬مكتبةً‭ ‬تضمُّ‭ ‬خيرة‭ ‬المؤلفين،‭ ‬مثل‭ ‬فولتير‭ ‬وروسو‭ ‬ودوليل،‭ ‬وولتر‭ ‬سكوت،‭ ‬وصحيفة “صدى‭ ‬الأدب‮”.

أما “سكارلت” ‬في‭ ‬رواية “ذهب‭ ‬مع‭ ‬الريح” ‬للكاتبة‭ ‬الأمريكية‭ ‬مارغريت‭ ‬ميتشل،‭ ‬فكانت‭ ‬مشاهدة‭ ‬أعداد‭ ‬الكتب‭ ‬الكثيرة‭ ‬تغمها‭.‬ وهذا‭ ‬الموقف‭ ‬العدائي‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬والمكتبات‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬شخصيتها‭  ‬ذات‭ ‬الطموح‭ ‬المادي: “كانت‭ ‬المكتبة‭ ‬شبه‭ ‬مظلمة،‭ ‬ستائرها‭ ‬مسدلة‭ ‬لاتقاء‭ ‬حرارة‭ ‬الشمس‭.‬ فغمَّتها‭ ‬الغرفة‭ ‬المعتمة‭ ‬بجدرانها‭ ‬الشاهقة‭ ‬المليئة‭ ‬بالكتب،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تختاره‭ ‬للقاء‭ ‬ودي‭ ‬كهذا،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تأمل. ‬إن‭ ‬أعداد‭ ‬الكتب‭ ‬الكثيرة‭ ‬تغمها‭ ‬دائمًا،‭ ‬كما‭ ‬يغمها‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يحبون‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب‭ ‬الكثيرة،‭ ‬أعني‭ ‬جميع‭ ‬الناس‭ ‬باستثناء‭ ‬آشلي”.‭

لكن‭ ‬هناك‭ ‬شخصيات‭ ‬يُدهشها‭ ‬وجود‭ ‬المكتبة‭ ‬المنزلية. ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬الدهشة‭ ‬مضاعفة‭ ‬عندما‭ ‬تصدر‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬مثل “هانا” ‬في‭ ‬رواية “القارئ” ‬لبيرنهارد‭ ‬شلينك،‭ ‬تلك‭ ‬المرأة‭ ‬الأمية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحب‭ ‬القراءة‭ ‬لكنها‭ ‬تخفي‭ ‬جهلها. ‬وهنا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬وصف‭ ‬السارد‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬دهشة “هانا‭” ‬بالكتب،‭ ‬والمفارقة‭ ‬أن “مايكل” ‬الذي‭ ‬يحضر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬بأنها‭ ‬امرأة‭ ‬أمية،‭ ‬بل‭ ‬إن “هانا” ‬استطاعت‭ ‬وهي‭ ‬تتأمل‭ ‬الكتب‭ ‬بشغفها‭ ‬البصري‭ ‬أن‭ ‬توهمه‭ ‬بأنها‭ ‬امرأة‭ ‬قارئة: “أطلقتْ‭ ‬عينيها‭ ‬لتطوف‭ ‬على‭ ‬أرفف‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬ملأت‭ ‬الحائط،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬تقرأ‭ ‬نصًا. ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬رف‭ ‬ورفعت‭ ‬سبابتها‭ ‬اليمنى‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬صدرها،‭ ‬ومررتها‭ ‬ببطء‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬الكتب،‭ ‬وانتقلت‭ ‬إلى‭ ‬الرف‭ ‬الذي‭ ‬يليه،‭ ‬ومررت‭ ‬إصبعها‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬لآخر‭ ‬وهي‭ ‬تقطع‭ ‬الغرفة‭ ‬كلها‭ ‬مشيًا،‭ ‬وتوقفت‭ ‬أمام‭ ‬النافذة،‭ ‬وحدّقت‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ ‬خارجها،‭ ‬وفي‭ ‬انعكاس‭ ‬أرفف‭ ‬الكتب،‭ ‬وفي‭ ‬انعكاس‭ ‬صورتها‭.”

المكتبة‭ ‬في‭ ‬حضورها‭ ‬البراغماتي

في‭ ‬رواية “الحالة‭ ‬الحرجة‭ ‬للمدعو‭ ‬ك” ‬لعزيز‭ ‬محمد،‭ ‬كان‭ ‬البطل‭ ‬يجابه‭ ‬مرضه‭ ‬بالشغف‭ ‬وبالمزيد‭ ‬من‭ ‬القراءة. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬ذكر‭ ‬المكتبة‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬وحيد،‭ ‬أراد‭ ‬به‭ ‬الراوي‭ ‬أن‭ ‬يبيّن‭ ‬استياء‭ ‬الأم‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الكتب. ‬وهذا‭ ‬الطابع‭ ‬البراغماتي‭ ‬لحضور‭ ‬المكتبة‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬استحضر‭ ‬مؤلفها‭ ‬المكتبة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬غاية‭ ‬محددة‭ ‬ومشهد‭ ‬وحيد،‭ ‬وهي‭ ‬رواية “صمت‭ ‬البحر” ‬للفرنسي‭ ‬ڤيركور،‭ ‬حيث‭ ‬وظّف‭ ‬السارد‭ ‬عناوين‭ ‬الكتب‭ ‬لتأكيد‭ ‬التمايز‭ ‬الإبداعي‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الأوروبي. ‬ففي‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬وصف‭ ‬فيه‭ ‬وقوف‭ ‬الضابط‭ ‬الألماني‭ ‬أمام‭ ‬المكتبة‭ ‬المنزلية‭ ‬للعائلة‭ ‬الفرنسية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقاسمها‭ ‬السكن،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬ضابطًا‭ ‬مثقفًا‭ ‬قرأ‭ ‬أدب‭ ‬كبار‭ ‬الكتّاب‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬استثمر‭ ‬السارد‭ ‬هذه‭ ‬الوقفة‭ ‬ليجعل‭ ‬الضابط‭ ‬يسرد‭ ‬أسماء‭ ‬عظماء‭ ‬المبدعين‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الأوروبية،‭ ‬مفضلًا‭ ‬عليهم‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الأمر‭ ‬أدباء‭ ‬ومفكّري‭ ‬الثقافة‭ ‬الفرنسية‭.‬

رواية‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬مكتبة

غالب‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬المكتبات‭ ‬تكتفي‭ ‬بذكر‭ ‬مكتبة‭ ‬واحدة‭ ‬تخص‭ ‬إحدى‭ ‬الشخصيات،‭ ‬ومن‭ ‬النادر‭ ‬أن‭ ‬توجد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مكتبة‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬واحدة. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬يتحقق‭ ‬في‭ ‬رواية “نساء‭ ‬صغيرات” ‬للويزا‭ ‬ماي‭ ‬ألكوت،‭ ‬إذ‭ ‬نجد‭ ‬فيها‭ ‬مكتبة‭ ‬العمة “مارش” ‬ومكتبة‭ ‬جد “لوري” ‬وكذلك‭ ‬مكتبة “جوزفين”.

وسنلاحظ‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬اختلافات‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬كل‭ ‬مكتبة‭ ‬عن‭ ‬الأخرى،‭ ‬وهذا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬اعتبارات‭ ‬ترتبط‭ ‬بمرجعية‭ ‬كل‭ ‬شخصية‭ ‬في‭ ‬الرواية. ‬كما‭ ‬سنلاحظ‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المكتبات‭ ‬المذكورة‭ ‬ترتبط‭ ‬بتواجد‭ ‬شخصية “جوزفين” ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬تحضر‭ ‬فيه‭ ‬المكتبة،‭ ‬فهي‭ ‬الشخصية‭ ‬الأكثر‭ ‬اهتمامًا‭ ‬بالقراءة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية. ‬لهذا‭ ‬يأتي‭ ‬وصف‭ ‬المكتبة‭ ‬المهملة‭ ‬للعمة “‬مارش” ‬منذ‭ ‬وفاة‭ ‬زوجها‭ ‬كمكان‭ ‬مفضّل‭ ‬لجوزفين: “‬ولعل‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يجتذب ‬‮«‬جو»‬‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬عمتها‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة‭ ‬العامرة‭ ‬بأغلى‭ ‬المؤلفات،‭ ‬وكان‭ ‬زوج‭ ‬عمتها‭ ‬قد‭ ‬ترك‭ ‬هذه‭ ‬المكتبة‭ ‬ضمن‭ ‬تركته،‭ ‬فظلت‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬مهملة‭ ‬تنسج‭ ‬عليها‭ ‬العناكب‭ ‬خيوطها”. ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬يتداعى‭ ‬وصف‭ ‬الساردة‭ ‬للمكتبة‭:‬ “كانت‭ ‬غرفة‭ ‬المكتبة‭ ‬متربة‭ ‬معتمة،‭ ‬تنتثر‭ ‬فيها‭ ‬التماثيل‭ ‬النصفية‭ ‬والمقاعد‭ ‬المريحة،‭ ‬وتغطي‭ ‬رفوفها‭ ‬كتب‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭ ‬ونماذج‭ ‬مختلفة‭ ‬الأحجام‭ ‬للكرة‭ ‬الأرضية”.

أما‭ ‬المكتبة‭ ‬الثانية‭ ‬فهي‭ ‬مكتبة‭ ‬جد “لوري” ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬مختلف،‭ ‬فعندما‭ ‬دخلتها “جوزفين” ‬برفقة “لوري” ‬صفقت‭ ‬بيديها‭ ‬طربًا‭ ‬على‭ ‬عادتها‭ ‬كلما‭ ‬رأت‭ ‬شيئًا‭ ‬يعجبها: “كانت‭ ‬الجدران‭ ‬مغطاة‭ ‬برفوف‭ ‬انتظمت‭ ‬عليها‭ ‬مئات‭ ‬الكتب‭ ‬والمؤلفات،‭ ‬وأركانها‭ ‬مزينة‭ ‬بالتماثيل‭ ‬والصور،‭ ‬وكان‭ ‬فيها‭  ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬خزائن‭ ‬زجاجية،‭ ‬تحوي‭ ‬نقودًا‭ ‬أثرية‭ ‬وتحفًا‭ ‬تاريخية،‭ ‬وتحيط‭ ‬بهذه‭ ‬الخزائن‭ ‬مقاعد‭ ‬وثيرة‭ ‬وموائد‭ ‬أنيقة. ‬وكان‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬كلها‭ ‬مدفأة‭ ‬واسعة،‭ ‬صنعت‭ ‬من‭ ‬القرميد‭ ‬المنقوش”.

والمكتبة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬رواية “نساء‭ ‬صغيرات” ‬هي‭ ‬مكتبة “جوزفين” ‬نفسها،‭ ‬وهي‭ ‬مكتبة‭ ‬صغيرة‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬الحالة‭ ‬المادية‭ ‬لعائلتها‭ ‬وكذلك‭ ‬مع‭ ‬عمرها‭ ‬كمراهقة. ‬وقد‭ ‬وصفت‭ ‬الساردة‭ ‬تلك‭ ‬المكتبة‭ ‬بطرافة: “كانت‭ ‬مكتبة “جو” ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الغرفة‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬منضدة‭ ‬صغيرة‭ ‬مغطاة‭ ‬بالصفيح،‭ ‬وكانت‭ ‬تحتفظ‭ ‬في‭ ‬درج‭ ‬محكم‭ ‬منها‭ ‬بمسودات‭ ‬كتاباتها‭ ‬وبعض‭ ‬كتبها،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تصل‭ ‬إليها‭ ‬أنياب “سكرابل” ‬ذي‭ ‬المزاج‭ ‬الثقافي،‭ ‬الذي‭ ‬يدفعه‭ ‬إلى‭ ‬قرض‭ ‬الكتب”.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬رواية “نساء‭ ‬صغيرات” ‬تصف‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مكتبة،‭ ‬فإن‭ ‬الروائية‭ ‬إديث‭ ‬وارتون‭ ‬لا‭ ‬تتخلى‭ ‬عن‭ ‬وصف‭ ‬المكتبات‭ ‬في‭ ‬رواياتها‭ ‬الثلاث: “عصر‭ ‬البراءة” ‬و “صيف” ‬و “رباعية‭ ‬نيويورك‭ ‬القديمة”. ‬ففي‬ “عصر‭ ‬البراءة‭”‬، ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬شخصية “نیولاند‭ ‬آرتشر‭”‬،‭‬ الأرستقراطي‭ ‬الذي‭ ‬يقرأ‭ ‬بأسلوبه‭ ‬الخاص،‭ ‬تتماشى‭ ‬مع‭ ‬وصف‭ ‬المكتبة “المزدانة‭ ‬بخزائن‭ ‬الكتب‭ ‬المصنوعة‭ ‬من‭ ‬خشب‭ ‬الجوز،‭ ‬وكراسیها‭ ‬المزخرفة‭ ‬الظهور‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬قوطي”. ‬وقد‭ ‬تكرّر‭ ‬كثيرًا‭ ‬حضور‭ ‬المكتبة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬كما‭ ‬تكررت‭ ‬مشاهد‭ ‬القراءة،‭ ‬وكذلك‭ ‬الأمر‭ ‬في “رباعية‭ ‬نيويورك‭ ‬القديمة”. ‬أما‭ ‬في‭ ‬رواية “صيف‭”‬، ‬فقد‭ ‬قدّمت‭ ‬وارتون‭ ‬المكتبة‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬لمكتبة‭ ‬القرية‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬فيها‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية “تشاريتي” ‬أمينةً‭ ‬للمكتبة‭ ‬حضور‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭.‬

محتويات‭ ‬المكتبة‭ ‬والعناية‭ ‬بها

استعراض‭ ‬محتويات‭ ‬المكتبة‭ ‬يحضر‭ ‬أحيانًا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الروايات‭ ‬مثلما‭ ‬حضر‭ ‬في‭ ‬رواية “عزازيل” ‬ليوسف‭ ‬زيدان،‭ ‬حيث‭ ‬كان “هيبا” ‬يسرد‭ ‬نواياه‭ ‬بشأن‭ ‬ترتيب‭ ‬مكتبته: “يمكنني‭ ‬أن‭ ‬أجعلها‭ ‬مكتبةً‭ ‬أصفُّ‭ ‬فيها‭ ‬كتبي،‭ ‬وبعض‭ ‬الكتب‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مكدّسة‭ ‬في‭ ‬صناديق‭ ‬بالغرفة‭ ‬المجاورة‭ ‬لمطعم‭ ‬الدير.‬‭ ‬أسعدتني‭ ‬الفكرة،‭ ‬وأمضيتُ‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬أيامًا‭ ‬طوالًا‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬فيها‭ ‬مرضى،‭ ‬فوجدت‭ ‬الفرصة‭ ‬لمعاودة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كتبي،‭ ‬وتصفُّح‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬أخرجتها‭ ‬من‭ ‬الصناديق”.‭

في‭ ‬حالة‭ ‬أخرى،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬المكتبة‭ ‬عند “جوناثان‭ ‬نويل”‬،‭ ‬بطل‭ ‬رواية “الحمامة‭”‬ لباتريك‭ ‬زوسكند،‭ ‬هي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬رفّ‭ ‬وحيد،‭ ‬وهذا‭ ‬يتناغم‭ ‬مع‭ ‬شخصيته‭ ‬ومع‭ ‬حجم‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يسكنها. ‬لكن‭ ‬القارئ‭ ‬يستدل‭ ‬من‭ ‬عناوين‭ ‬تلك‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬يحتويها‭ ‬ذلك‭ ‬الرف‭ ‬على‭ ‬ذائقة‭ ‬واهتمامات‭ ‬البطل‭ ‬المتنوعة،‭ ‬وهي‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬شخصيته‭ ‬الدقيقة،‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تتنقي‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬ما‭ ‬يناسبها،‭ ‬لكي‭ ‬تتجنب‭ ‬المآزق. ‬فهو‭ ‬إذًا‭ ‬ينتقي‭ ‬الكتب‭ ‬كما‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬في‭ ‬الحياة: “بتركيب‭ ‬رفّ‭ ‬صفَّ‭ ‬عليه‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬سبعة‭ ‬عشر‭ ‬كتابًا: ‬موسوعة‭ ‬جيب‭ ‬طبية‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أجزاء،‭ ‬بعض‭ ‬الكتب‭ ‬المصورة‭ ‬الجميلة‭ ‬عن‭ ‬إنسان‭ ‬الكرومانيون،‭ ‬وكتاب‭ ‬آخر‭ ‬عن‭ ‬تقنية‭ ‬صب‭ ‬وتشكيل‭ ‬البرونز‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬البرونزي،‭ ‬وثالث‭ ‬عن‭ ‬مصر‭ ‬القديمة،‭ ‬ورابع‭ ‬عن‭ ‬الأتروسكيين‭ ‬والثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وخامس‭ ‬عن‭ ‬السفن‭ ‬الشراعية،‭ ‬وسادس‭ ‬عن‭ ‬أعلام‭ ‬الدول،‭ ‬وسابع‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬الحيوانات‭ ‬المدارية. ‬ثم‭ ‬روايتان‭ ‬لألكساندر‭ ‬دوما‭ ‬الأب،‭ ‬ومذكرات‭ ‬القديس‭ ‬سيمون،‭ ‬وكتاب‭ ‬لتعليم‭ ‬الطبخ،‭ ‬وقاموس‭ ‬لاروس‭ ‬الصغير،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس‭ ‬الخاص‭ ‬برجال‭ ‬الحراسة‭ ‬والحماية‭ ‬مع‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الحالات‭ ‬التي‭ ‬يُسمح‭ ‬فيها‭ ‬باستعمال‭ ‬السلاح‭ ‬الناري”.

وإذا‭ ‬كان “جوناثان‭ ‬نويل” ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬سوى‭ ‬رف‭ ‬للكتب،‭ ‬فإن “سعيد‭ ‬مهران” ‬بطل‭ ‬رواية “اللص‭ ‬والكلاب” ‬لنجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يملك‭ ‬مكتبة‭ ‬ولا‭ ‬مكانًا‭ ‬لتلك‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تورط‭ ‬في‭ ‬حملها. ‬فعندما‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬السجن‭ ‬وذهب‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬طليقته “سناء” ‬مطالبًا‭ ‬بكتبه،‭ ‬تهكّم‭ ‬عليه‭ ‬المخبر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرافقه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الزيارة: “من‭ ‬أين‭ ‬لك‭ ‬هذا‭ ‬العلم؟‭ ‬أكنتَ‭ ‬تسرق‭ ‬فيما‭ ‬تسرق‭ ‬الكتب؟!.

ولا‭ ‬تقدَّم‭ ‬كل‭ ‬المكتبات‭ ‬الروائية‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬حال،‭ ‬بل‭ ‬أحيانًا‭ ‬قد‭ ‬يُقدّم‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تالفة،‭ ‬كشاهد‭ ‬على‭ ‬الخراب‭ ‬وعلى‭ ‬أنها‭ ‬نتاج‭ ‬ويلات‭ ‬الحرب،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬رواية “المريض‭ ‬الإنجليزي” ‬لمايكل‭ ‬أونداتجي،‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاقتباس‭ ‬المؤلم‭ ‬الذي‭ ‬يصف‭ ‬حال‭ ‬الكتب: “فَقَدَ‭ ‬الدرج‭ ‬عتباته‭ ‬السفلى‭ ‬بسبب‭ ‬النار‭ ‬التي‭ ‬أُضرمت‭ ‬قبل‭ ‬مغادرة‭ ‬الجنود. ‬ذهبَتْ‭ ‬إلى‭ ‬المكتبة‭ ‬وجلبَت‭ ‬عشرين‭ ‬كتابًا‭ ‬ثبّتتها‭ ‬مكان‭ ‬العتبات‭ ‬بمسامير،‭ ‬بعضها‭ ‬فوق‭ ‬بعض،‭ ‬وهكذا‭ ‬أعادت‭ ‬بناء‭ ‬العتبتين‭ ‬السفليّتَين”. ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬المتردية‭ ‬للمكتبة‭ ‬لم‭ ‬تمنع‭ ‬الكاتب‭ ‬من‭ ‬تقديم‭ ‬أعمق‭ ‬مشاهد‭ ‬القراءة‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬بين‭ ‬الممرضة “هانا‭” ‬وبطل‭ ‬الرواية‭ ‬الذي‭ ‬يُعرف‭ ‬بالمريض‭ ‬الإنجليزي‭.‬

إنني‭ ‬أتطلع‭ ‬طوال‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬المساء،‭ ‬ثم‭ ‬أضع‭ ‬كلمة “مشغولة” ‬على‭ ‬الباب،‭ ‬وأضيء‭ ‬المصباح‭ ‬النحاسي‭ ‬بقربي‭ ‬وأقرأ. ‬وقراءة‭ ‬كتاب‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬تكفي،‭ ‬أحيانًا‭ ‬أقرأ‭ ‬أربعة‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬آنٍ‭ ‬واحد“.

جودي، من رواية “صاحب الظل الطويل”

المكتبات‭ ‬وشغف‭ ‬الشخصيات‭ ‬القارئة

“كان‭ ‬خالي‭ ‬يكره‭ ‬أن‭ ‬يعير‭ ‬كتبه‭”‬؛‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬بطل‭ ‬رواية “البحث‭ ‬عن‭ ‬الزمن‭ ‬المفقود‭‬”،‭ ‬بينما‭ ‬يجد “كمال‭ ‬عبدالجواد”‭ ‬في‭ ‬ثلاثية‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬لذّة‭ ‬ومتعة‭ ‬في‭ ‬إعارة‭ ‬الكتب‭ ‬لأصدقائه‭ ‬وأبناء‭ ‬عائلته. ‬أمّا‭ ‬السيد “هيرست”‭‬،‭ ‬في‭ ‬رواية “كبرياء‭ ‬وهوى‭” ‬لجين‭ ‬أوستن،‭ ‬فيقول‭ ‬للآنسة “إليزابيث‬”: “إنني‭ ‬أقدّم‭ ‬لكِ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬المكتبة،‭ ‬وأتمنى‭ ‬أن‭ ‬تُحقّق‭ ‬مجموعتي‭ ‬هذه‭ ‬لكِ‭ ‬أكبر‭ ‬استفادة،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬مفخرة‭ ‬لي”.

ومثلما‭ ‬للشخصيات‭ ‬الروائية‭ ‬طقوسها‭ ‬ومواقفها‭ ‬بشأن‭ ‬مكتباتها‭ ‬المتخيلة،‭ ‬فإن‭ ‬لكل‭ ‬شخصية‭ ‬شغفها‭ ‬الخاص‭ ‬بالقراءة‭ ‬ولها‭ ‬تعبيراتها‭ ‬الخاصة. ‬فنجد “جودي” ‬وهي‭ ‬تخاطب “صاحب‭ ‬الظل‭ ‬الطويل‭‬”، ‬في‭ ‬رواية‭ ‬جين‭ ‬ويبستر،‭ ‬قائلة‭:‬ “إنني‭ ‬أتطلع‭ ‬طوال‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬المساء،‭ ‬ثم‭ ‬أضع‭ ‬كلمة “مشغولة” ‬على‭ ‬الباب،‭ ‬وأضيء‭ ‬المصباح‭ ‬النحاسي‭ ‬بقربي‭ ‬وأقرأ. ‬وقراءة‭ ‬كتاب‭ ‬واحد‭ ‬لا‭ ‬تكفي،‭ ‬أحيانًا‭ ‬أقرأ‭ ‬أربعة‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬آنٍ‭ ‬واحد‭”.‬

وفي‭ ‬رواية “أعلنوا‭ ‬مولده‭ ‬فوق‭ ‬الجبل” ‬يقول‭ ‬البطل‭:‬ “كنت‭ ‬أقرأ‭ ‬الكتب‭ ‬كأنها‭ ‬نوع‭ ‬عجيب‭ ‬من‭ ‬الطعام”. ‬أما‭ ‬شخصية‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬رواية “زوربا” ‬لنيكوس‭ ‬كازانتزاكي،‭ ‬فيعبّر‭ ‬بهذه‭ ‬الرومانسية‭ ‬عن‭ ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬سيقرؤه: “وقد‭ ‬حملت‭ ‬كتاب‭ ‬الجيب‭ ‬لدانتي‭ ‬في‭ ‬يدي،‭ ‬مغتبطًا‭ ‬بحريتي. ‬إن‭ ‬الأشعار‭ ‬التي‭ ‬سأختارها‭ ‬باكرًا‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬ستهب‭ ‬إيقاعها‭ ‬ليومي‭ ‬كله”.

من‭ ‬هذه‭ ‬التعبيرات‭ ‬التي‭ ‬نقرؤها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬تتسرب‭ ‬للقارئ‭ ‬أحاسيس‭ ‬ومشاعر‭ ‬تربطه‭ ‬بتلك‭ ‬الشخصيات،‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحرضه‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬ما‭ ‬تقرأه‭ ‬وتزيد‭ ‬في‭ ‬محبته‭ ‬وشغفه‭ ‬بهذا‭ ‬العالم‭ ‬المتخيل‭.‬

أخيرًا،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استثنينا‭ ‬تلك‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬توظف‭ ‬حضور‭ ‬الكتب‭ ‬والمكتبات‭ ‬بشكل‭ ‬صارخ‭ ‬في‭ ‬عناوينها‭ ‬مثل “مكتبة‭ ‬ساحة‭ ‬الأعشاب”‬،‭ ‬و “الكتب‭ ‬التي‭ ‬التهمت‭ ‬والدي”‭‬،‭ ‬و “بائع‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬كابول”‭‬،‭ ‬و “جامع‭ ‬الكتب‭”‬.. إلخ،‭ ‬فإننا‭ ‬نسترجع‭ ‬تساؤل‭ ‬السيد “دارسي” ‬في‭ ‬رواية “كبرياء‭ ‬وهوى”‬،‭ ‬الصادرة‭ ‬عام ‭‬1813م‭ ‬إذ‭ ‬يقول: “لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أفهم‭ ‬إهمال‭ ‬مكتبة‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأيام”.

ونحن،‭ ‬بدورنا،‭ ‬نتساءل‭ ‬هل‭ ‬قلّ‭ ‬أم‭ ‬زاد‭ ‬اهتمام‭ ‬الروائيين‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحالي‭ ‬بعوالم‭ ‬الكتب‭ ‬والقراءة‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الروائي؟


مقالات ذات صلة

ينعكس التجريد على حياة الفنانة بلقيس فخرو وسلوكياتها. فهي لا ترسم الأشياء، وإنما ذاكرتها. وفي محترفها، تشير إلى نفسها قائلة: “أحب البساطة في الأشياء؛ ملبسي، محترفي، سلوكي، منزلي… إني أجد المعنى فيها”. فالبساطة تقابل، بمعنى ما، التجريد الذي تنتهجه في تخليق لوحاتها، بما فيها من سكون وطمأنينة تتعدى المعاني التي انطلقت منها في إبداعها، إلى […]

يعبِّر فيلم استفتاح العام “بين الرمال” (2024م) للمخرج محمد العطاوي، عن إحدى الصيغ التمثيلية السينمائية السعودية المقترحة في القصة والتمثيل والزمان والمكان، بعيدًا عن محاولات استنساخ أساليب واتجاهات وطرق عربية وأوروبية وأمريكية.يقوم هذا الفيلم على سردية “مخاوي الذيب”، وهي سردية مكررة في التراث المعنوي والمادي في ثقافة شبه الجزيرة العربية، مبنية على موضوع علاقة الإنسان […]

١- يمشي شجرٌ للماء يستسقي من النهر حكـاياه ويبكي مثلما يستشهد الأطفال بالماء وأخطاء العطش كلَّما مات الورق في غصون الشجر العطشان متنا وتنادينا جناحان بلا ريش وريح تُسعف الطير من الموت وأسماء الشجر هل تناوبنا قُبيل الموت؟ آخينا ضمير النهر أجّلنا الحكايات عن السرد وأمضينا بقايا عمرنا الباقي بغرب الشارع العاري تفادينا قتال الموت […]


0 تعليقات على “مكتبات الشخصيات الروائية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *