من المؤكد أن الأخبار الكاذبة ليست وافدًا جديدًا على بيئة العمل الإعلامي. هي جزء من وجود الإعلام منذ ظهور الصحافة مصدرًا منتظمًا للمعلومات في بداية القرن السابع عشر. فما دام لوسائل الإعلام مُلّاك ومصالح تبتغي تحقيقها، ترتفع إمكانية التضليل في ظروف بعينها. لكن يظل ذلك في حدود لا تدمر مصداقية الوسيلة الإعلامية بالكامل، وما يستتبعه ذلك من عزوف الجمهور عنها وانهيارها اقتصاديًا وتلاشيها. وبهذا ظلّت وسائل الإعلام الجماهيرية مسيطرة، تنتشر رسائلها في اتجاه واحد منها إلى الجمهور.
مع بداية ظهور تحدي شبكة الإنترنت، لم يتصوّر أحد أن هذه العلاقة الخطية ستتغير، وأن ميزان القوة بين الوسيلة الإعلامية وجمهورها سيهتز. فكل وسائل الإعلام التقليدية الرئيسة وجدت نفسها مضطرة لمواكبة التطورات الرقمية المتلاحقة مع انتشار الإنترنت في بداية الألفية الثالثة، في ظِل ما كانت تواجهه من أزمات تتعلق بالتمويل لانخفاض إيراداتها من الإعلانات. فلم يكن أمامها سوى إنشاء مواقع إلكترونية خاصة بها، وبعد ذلك إنشاء صفحات على أبرز مواقع التواصل على شبكة الإنترنت.

عند ظهور شبكة الإنترنت، لم يتصوَّر أحد أن هذه العلاقة الخطية بين الإعلام والمتلقي ستتغير، وأن ميزان القوة بين الوسيلة الإعلامية وجمهورها ستهتز.
ومنذئذٍ لم تعد الوسيلة الإعلامية وسيطًا واحدًا، لكنها صارت هي ذاتها متعددة الوسائط، وصار لزامًا عليها أن يكون لها حضورها الرقمي. فثمة قارئ مُفترَض، مُتأهِّب دومًا “يمسح” سريعًا بعينيه المضامين المعروضة على شاشات أجهزته الرقمية، ويختار منها ما يتوافق مع اهتماماته في إطار من التلقي المرن غير المسبوق المتحرر من التقيد بالزمان أو المكان، والمُتخَم بكمٍّ هائل متجدد من المعلومات، يختلف تمامًا عمَّا تعوَّده مع جريدته المطبوعة أو قناته التليفزيونية المُفضَّلة.
من الشراكة إلى الخضوع
اللافت أن الدراسات تشير أيضًا إلى أن وسائل الإعلام الجماهيرية، أو البوابات المحروسة جيدًا، صارت تابعة لمنصات التواصل التي أصبحت مصدرًا خاصًّا يزودها، هي نفسها، بالموضوعات التي تتداولها تلك المنصات. فعلى سبيل المثال، وفقًا لدراسة جمع فيها باحثون فرنسيون عينة تمثيلية من التغريدات التي نُشرت باللغة الفرنسية بين أغسطس 2018م ويوليو 2019م على منصة تويتر (إكس حاليًّا) ومقارنتها بالمحتوى المنشور عبر الإنترنت على جميع الوسائط من صحف وقنوات تلفزيونية ومحطات الراديو ووسائل الإعلام عبر الإنترنت كافة، تبيَّن أن “تويتر” لم يُحدِّد فقط بتغريداته أجندة هذه الوسائل الإعلامية، بل كان مصدرًا اعتمدت عليه هذه الوسائل فيما نشرته على صفحاتها، من دون عناية كافية بتقصي صدقها أو كذبها. وهنا تحديدًا تكمن المشكلة.
فالوسائل الإعلامية تحرص عبر بواباتها الرقمية على نشر المضامين المتوافقة مع القيم الخبرية الشهيرة التي حدَّدتها دراسات الصحافة والإعلام، التي إن توافرت كلها أو بعضها في مضمون ما زادت قابليته للنشر، وأهمُّها قيم الصراع التي تتضمنها أخبار الحروب والمحاكمات والانتخابات، والأخبار السلبية المرتبطة بمضامين العنف المؤجِّجة للمشاعر التي تعمل بمبدأ “إذا كان ينزف، فهو في الصدارة” (If It Bleeds, It Leads)، وكذلك قيمتا الشهرة والغرابة. وبسبب هذا التعلُّق بمثل هذه القيم الخبرية، فقد تتورط بعض هذه الوسائل في الترويج لموضوعات صنعتها برامج “التزييف العميق” المعتمدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي تنشر أقوالًا لشخصيات شهيرة لم يتفوَّهوا بها قطُّ، وتجعلهم أبطالًا لأحداث لم تجرِ أصلًا، وذلك كله بحثًا عن نقرات الإعجاب، وما يستتبعها من تعليقات و”مشاركة” للمضمون، أو حتى نقرات “عدم الإعجاب” التي تؤكد أن ثمة تفاعلًا مع ما يُنشر ولو برفضه، فهذا يضمن كثافة في عدد المشاهدات، ومن ثَمَّ، يُتيح إمكان زيادة العائدات الإعلانية. ويستوي في ذلك النشر الخاص بموضوعات خطيرة مثل ارتباط مرض جدري القرود بمضاعفات التلقيح ضد فيروس كورونا، أو بأخبار المشاهير.
وفي الإطار نفسه، بدأت المؤسسات الإعلامية تتسابق على إثبات ولائها للجمهور عبر نشر مواد أعدَّها هُواةٌ ضمن ما يُعرف بـ”صحافة المواطن”. وقد أصبح من الثوابت في كثير منها تضمين قصص إخبارية من خارج جهازها التحريري، كما تفعل صحيفة “الجارديان” البريطانية، وأيضًا الأمر نفسه تفعله شبكات التلفزيون المعروفة.
من الكاذب إلى الخيالي!
قبل أكثر من سبع سنوات، وتحديدًا في ديسمبر عام 2017م، أطلق أحد مستخدمي موقع “ريديت” (Reddit) على نفسه اسمًا مستعارًا هو “ديب فيك” (deepfake)، وبدأ بنشر مقاطع فيديو غير لائقة لمشاهير يبدو لمَن يراها أنها واقعية، في حين أنها كاملة التزييف.
وعلى الرغم من انتباه الموقع وحَظْرِ حساب المستخدم لاحقًا، فإن آثار فعلته بقيت، بل ترسَّخت، وانتقلت مثل العدوى لتشمل الفضاء الرقمي وتصير نهجًا. وصار تاريخ نَشْرِ هذه الفيديوهات الزائفة إعلانًا رسميًّا عن “مُنتج ذكي”، تبيَّن أن ضرره أكبر من نفعه، ويتكوّن من مضامين سمعية بصرية مُختلقة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس من السهل تحديدها؛ لصعوبة تعيين مصدرها، أو ما يمكن وصفهم بـ”ملاكها الأصليين”. لكن الثابت أن أبرز ميدان تتجلى فيه تأثيرات “التزييف العميق” هو عالم الإعلام الرقمي بمنصاته كافةً؛ وذلك باختصار لأنه يمثل “ساحات العرض” التي إن غابت فستختفي معها منتجات الواقع المزيف نفسها.
طال هذا التزييف الوسائل الجماهيرية، فاختلطت في المشهد الإعلامي الرقمي الراهن الأخبار الكاذبة والمُضللة بمستوياتها المتنوعة في درجتها من تضليل “سطحي” يتمثّل في صياغات مُغرية لعناوين الأخبار لا تتوافق مع مضامينها، إلى تضليل “عميق” عالي الجودة لمواد سمعية تستنسخ الصوت، وبصرية تُحاكي الوجوه عن موضوعات وأشخاص وأحداث “كأنها” الواقع، لكنها ليست كذلك. وهذا ما يدعو إلى إعادة التفكير جذريًا في ماهية وسائل الإعلام ووظائفها.
فهل يشفع لبعض الوسائل الإعلامية أن تعرض، مثلًا، على مواقعها ومنصاتها الإلكترونية فيديو صُمم بتقنية التزييف العميق؛ لأن مضمونه إيجابي؟ ومثال ذلك فيديو لاعب كرة القدم الإنجليزي، ديفيد بيكام، الذي استهدف زيادة الوعي بمرض الملاريا عبر رسالة قالها بتسع لغات. وهل صار سلوك تلك المؤسسات نتيجة طبيعية للفورية، ولطغيان سرعة نقل الأخبار في الإعلام الرقمي، فيمكن عدُّها ضحية لا يجب إلقاء اللوم عليها؟
ساخن وبارد
في هذا السياق، ربَّما يبدو منطقيًّا العودة إلى أفكار فيلسوف الاتصال الكندي، مارشال ماكلوهان، الذي صنَّف وسائل الإعلام إلى باردة كالهاتف وساخنة كالراديو، واعتبارها
امتدادًا لحواس الإنسان؛ أي بوصفها قطعة بديلة عن العين والصوت. تبقى أهم أفكاره التي جعلته في بداية الستينيات يتنبأ بما صار إليه واقعنا الحالي، تأكيده قُدرة وسائل الاتصال الجماهيري على إيجاد ما يُشبه “القرية العالمية” التي تتلاشى فيها الحدود.
وقدرة وسائل الإعلام تلك ترجع، وفقًا له، إلى كونها وسيطًا، من هنا يمكننا أن نفهم مقولته الشهيرة “الوسيط هو الرسالة”، وكذلك وصفه للإعلام الإلكتروني بأنه “كل شيء في الوقت نفسه” (all-at-once-ness). ولعلَّ هذا الوصف ينطبق تمامًا على المضامين المنشورة بتقنيات التزييف العميق على المواقع الخبرية على الإنترنت، لإيهام المستخدم بحدث لم يقع أو بتحريف حدث وقع فعليًّا، مثلما جرى مع نشر مقاطع فيديو زائفة لرؤساء دول يقولون أشياء، لو صَّحت لتغيَّرت معطيات الواقع السياسي في دولهم.
الاضطراب المعلوماتي في القرية العالمية
وإذا سلمنا بمقولة “ماكلوهان” الخاصة بالقرية العالمية التي جاءت في كتابه “مجرة غوتنبرغ” الصادر في عام 1962م، فإننا نحيا فعليًّا في قرية عالمية تقلَّصت فيها الحدود بفضل وسائل الإعلام الإلكترونية. لكن هذا لا ينفي أنها تحمل في فضائها قدرًا معتبرًا من “الاضطراب المعلوماتي”، وهو مصطلح نقتبسه من الأستاذة المشاركة في قسم الاتصالات بجامعة كورنيل الأمريكية، كلير واردل، التي تركز أبحاثها على المحتوى الذي ينشئه المستخدمون، وكيفية التحقُّق من المعلومات المُضلِّلة. فهو مفهوم يصلح لتوصيف المضامين الكاذبة كافة التي تنتشر على الإنترنت. فداخل حدود هذه القرية العالمية الصغيرة، قد تحدث تأثيرات غير محمودة نتيجة لتداوُل معلومات خاطئة ومغلوطة فيما يخص دولًا ومؤسسات وكيانات وأفرادًا بعينهم. بمعنى آخر، في ظل تنامي أخطار “التزييف العميق” للأخبار، الذي قلَّص الحدود هذه المرة بين الحقيقة والخيال، ودمج بينهما باحترافية، وانتشارها على منصات رقمية لوسائل إعلامية تتبايَن درجة سُمعتها تبعًا لمدى حرصها على المصداقية أو عدم اكتراثها بها، تتنامى فرص إرباك وخِدَاع عقول المتلقين بسبب عدم الوضوح بشأن ما يجري تداوله من أخبار بالقدر الكافي الذي يُؤكِّد صِدقَها؛ وذلك لخدمة مصالح معينة بطبيعة الحال، وهو الوضع الذي كان قد حذر منه عالم الاجتماع، هربرت شيللر، في كتابه “المتلاعبون بالعقول”، منذ أكثر من خمسين عامًا، حين رأى أن ثمة قدرة لوسائل الإعلام على خلق “وعي مُعلَّب” عبر تداوُل الصور والمعلومات التي تُشكِّل معتقداتنا ومواقفنا وسلوكنا.
“انشر فيديو مزيفًا ثم صححه لاحقًا”
للتحقق من “عمق” مثل هذه الظواهر الخاصة ببيئة الإعلام الرقمي الجديد والتهديد الذي تمثله، تكفي زيارة سريعة لمحركات البحث على الإنترنت باستخدام كلمة “التزييف العميق” أو “الأخبار الكاذبة” لنتبيّن حقيقة ما تُمثِّله من تحوُّل في النموذج الإرشادي الأصلي لخصائص الوسيلة الإعلامية ووظائفها. وهنا تُطرح مجموعة من الأسئلة باتت مُلحة، منها: على مَن تقع مسؤولية استفحال ظاهرة الأخبار الكاذبة؟ وكيف يمكن التصدي لها؟ وهل غاب مفهوم حراس البوابة الإعلامية الذي لا تكاد تخلو مؤسسة تعمل في مجال الاتصال الجماهيري من ممثليه، أولئك الذين يسمحون بمرور الأخبار المقبولة، سواء من حيث قيمها الخبرية، أو لتوافقها مع السياسات التحريرية التي تتبنَّاها كلُّ مؤسسة ويمنعون غيرها؟ هل باتوا يغمضون أعينهم للسماح بخبر أو آخر لا يحمل في جوهره السِّمات التي يتفق عليها الأكاديميون المتخصصون، وكذلك الممارسون أنفسهم؟ وهي باختصار الصحة والدقة والصدق، طمعًا في زيادة عدد زوار مواقعهم أو منصات مؤسساتهم، وعملًا بمنطق “انشر فيديو مزيفًا وصححه لاحقًا”.
صارت هذه الأسئلة وغيرها مشروعة من أجل توصيف أدق لتلك الظواهر التي تُقوِّض معنى العمل الإعلامي من الأساس، مع الوضع في الحسبان الجهود المبذولة كافةً، التي تأخذ أحيانًا الطابع الرسمي بإصدار قوانين أو تعديلها، فمن شأن ذلك الحد من تدفُّق الأخبار الكاذبة.
اترك تعليقاً