لا يمكن استعراض أنواع المراكب من دون التوقُّف أمام نوع خاص من المراكب التي كانت مَعلمًا في هوية المجتمعات الخليجية فترةً طويلة من الزمن، وهي مراكب الداو الشراعية، التي ظلت حتى أوائل القرن العشرين تطوف في مياه المحيط الهندي والبحر الأحمر. فقد أدَّت هذه السفن دورًا حاسمًا في التجارة ونقل السلع الثمينة، مثل التوابل والمنسوجات والتمور واللؤلؤ، بين شرق إفريقيا وشبه الجزيرة العربية والهند وما وراءها، وفي صيد الأسماك بحيث إن تصميمها الخاص كان يسمح لها بالملاحة في المياه الضحلة القريبة من الشاطئ، والتبادل الثقافي لأنها سهَّلت التفاعلات الثقافية بين المجتمعات المتنوعة عبر المحيط الهندي، إضافة إلى أنها كانت تُستخدم بوصفها منصات للغوص بحثًا عن اللؤلؤ.
شكَّل تاريخ سفن الداو نسيجًا غنيًا عكس تراث شعوب منطقة الخليج العربي، وجسَّد براعتهم وحرفيتهم في صناعة السفن والمراكب، لا سيَّما أنهم كانوا يمتلكون مهارات خاصة في الملاحة ومعرفة مميزة في علم الفلك والأنواء. كما كان للموقع الجغرافي والإستراتيجي للخليج العربي دور في تطوُّر الحركة الملاحية والتجارية ووصول الخليجيين إلى أماكن بعيدة شملت وادي السند وشرق آسيا.
أصل اسم “الداو”
من حيث تسميته، هناك روايات عديدة لأصل كلمة “داو”. ففي السابق، كان يُعتقد أنها قد تكون من أصل عربي أو فارسي، وعلى الرغم من أن البحوث الحديثة لا تدل على وجود مثل هذه الكلمة في أي من اللغتين العربية أو الفارسية، فإن بعض الوثائق الهولندية من القرنين السابع عشر والثامن عشر، تُشير إلى أن الكلمة الفارسية “داو” كانت تعني “سفينة صغيرة”. ولكن في الآونة الأخيرة، يميل معظم الباحثين إلى الاعتقاد أن هذا المصطلح يأتي من اللغة السواحلية في شرق إفريقيا، حيث كلمة “داو” تعني “سفينة”.
وينضوي تحت اسم “الداو” عدد كبير من السفن التي تحمل أسماء مختلفة، ولكن هناك أربعة أنواع أساسية منها هي التي تشكِّل معظم هذه السفن، وهي: السنبوك، والبوم، والباجالا، والجالبوت، وهي تختلف من حيث الشكل وعدد الصواري، وكذلك الاستخدامات. بيْدَ أنها جميعها، تقريبًا، كانت تستخدم ترتيبًا للشراع المثلث الذي ميَّز تلك المراكب التي كانت تُبحر في المحيط الهندي، عن غيرها من السفن التي تطوَّرت في البحر الأبيض المتوسط والتي كانت تتميز بشراع مربع. ولأن هذه الأشرعة المثلثة تساعد على الإبحار بشكل أفضل في الرياح المتغيرة، أُعجب بها الأوروبيون واعتمدوها نقلًا عن السفن الخليجية، ولكنها صارت تُعرَف في الغرب باسم “الشراع اللاتيني”. ومما يؤكده الباحثون أنه لولا الشراع الخليجي المثلث لما قام الأوربيون برحلاتهم المحيطية التي استكشفوا فيها مناطق مجهولة من العالم.
كانت صناعة تلك السفن عملًا فنيًا بحد ذاتها، فإلى جانب أشرعتها المثلثة، كانت مراكب الداو تتميز ببنيتها المخيطة، حيث كان يجري جمع ألواح الهيكل الخشبية بواسطة الخياطة باستخدام الألياف أو الحبال أو الأربطة. ففي القرن الثاني عشر الميلادي، قدَّم المؤرخ ابن جبير في كتابه “تذكرة بالإخبار عن اتفاقات الأسفار”، وصفًا للخيوط المستعملة في تثبيت الألواح، فكتب يقول: “إن هذه السفن مخيطة بأمراس من القنبار وهو قش جوز النارجيل يرسونه؛ أي صنَّاع السفن، إلى أن يتخيط، ويفتلون منه أمراسًا يخيطون بها المراكب”. كما تحدث عن هذه الميزة الرحَّالة ماركو بولو في كتاب “أسفار ماركو بولو” من القرن الثالث عشر الميلادي، عندما رأى السفن المخيطة في مضيق هرمز عند مدخل الخليج العربي، فقال عنها: “كانت هذه السفن مخيطة بألياف لتثبيت ألواح السفينة. وهي تظل صالحة للاستخدام، ولا تتآكل بفعل مياه البحر، ولكنها لا تصمد في وجه العاصفة”.
قوارب النجاة
ومن مميزاتها أيضًا أنها تحمل فوق ظهرها مراكب صغيرة للنجاة، وهي على نوعين: القارب الذي يُمكنه أن يحمل حوالي 15 شخصًا، والدونيغ الذي يتسع حوالي 4 أشخاص. ولهذه السفن صارٍ يُسمَّى “الدقل” وهو من جذع النخيل، وقد يصل ارتفاعه إلى 76 قدمًا. أمَّا “الأنكر” أو المرساة، فكانت غليظة وتُصنع من الحجر وفي وسطه ثقب للحبال. ومن الطريف الإشارة إلى أن السفن العربية الخليجية، لقوتها ومتانتها، عُرفت في الهند باسم “ماداراتا” التي كانت مأخوذة من الكلمة العربية “مدرعات”.
أمَّا اليوم، فقد تراجع حضور مراكب الداو في منطقة الخليج بسبب عوامل عديدة، من بينها التقدم التكنولوجي، حيث أدى إدخال السفن البخارية في القرن التاسع عشر وسفن الحاويات، في وقت لاحق، إلى إحداث ثورة في النقل البحري؛ فقدَّمت وسائل أسرع وأكفأ لنقل البضائع، ومنها التحولات الاقتصادية وتوسع التجارة العالمية، وهو ما زاد الطلب على النقل السائب؛ فعانت “الداو”، المصممة في المقام الأول للتجارة الإقليمية على طول سواحل المحيط الهندي والخليج العربي، صعوبةَ المنافسة مع سفن الشحن الأكبر حجمًا التي يمكنها نقل البضائع بتكاليف أقل، بالإضافة إلى المشهد الجيوسيـاسي الذي أثَّر في تراجع السفن الشراعية. فمع تحوُّل طرق التجارة وتطوُّر الموانئ الجديدة، أصبحت طرق السفن الشراعية التقليدية أقل أهمية، وفُضِّلت السفن الأكبر حجمًا القادرة على خدمة هذه الموانئ بشكل أفضل.
جهود لإنقاذها قبل أن تُبحر نحو الاندثار
على الرغم من هذه التحديات، فإن هناك جهودًا مستمرة لإحياء تراث الداو وتعزيز استخدامها في سياقات مختلفة، منها استكشاف بعض روَّاد الأعمال الأسواق المحتملة والترويج لها بوصفها تجارب سياحية فريدة، بحيث يمكن استخدامها في جولات لمشاهدة المعالم السياحية، أو رحلات الصيد، أو التجارب الثقافية التي تسمح للزوَّار بالتفاعل مع التقاليد المحلية. وهنا، يُمكن تسليط الضوء على أحد أقدم مراكز بناء القوارب في شبه الجزيرة العربية، وهو ولاية صور على خليج سلطنة عُمان، حيث لا يزال الحرفيون يصنّعون، يدويًا، مراكب الداو بجميع أحجامها باستخدام تقنيات عمرها قرون. ولكنها في معظمها مخصصة لصناعة السياحة بدلًا من الحياة على طول طرق التجارة، وبعضها بتكليف من أفراد بارزين.
فقد أوصت شخصيات بارزة بتصنيع مراكبها الشراعية في ولاية صور، ومن أبرز هؤلاء الملك عبدالله بن الحسين ملك الأردن. كما قدِم المستكشف والمؤرخ البريطاني تيم سيفيرين، إلى مركز صناعة المراكب الشراعية في صور قبل رحلته الملحمية التي سعى فيها إلى تتبع رحلة “السندباد البحري” الواردة في حكايات “ألف ليلة وليلة”. وقد بنى صنَّاع السفن هناك سفينته “صحار”، خلال 165 يومًا، وهي نسخة طبق الأصل، بطول 87 قدمًا، عن مركب شراعي عربي من القرن التاسع، مزود بشراع قطني، أبحر فيه سيفيرين بعد ذلك من صور إلى الهند، ثم إلى الصين.
ومن الجهود الأخرى لإعادة إحياء تراث الداو الشراعي، المهرجانات والفعاليات التي تحتفي بالحرف اليدوية وتسلِّط الضوء على أهمية صناعة القوارب التقليدية، ومن أبرز الأمثلة عليها مهرجان الساحل الشرقي، وهو المهرجان الذي أقيم منذ بضع سنوات بالمنطقة الشرقية، وتحديدًا في الواجهة البحرية لمدينة الدمام، والذي سعى إلى تصوير مجتمع الساحل الشرقي التراثي بكل تفاصيله. ونظرًا لأن المنطقة الشرقية كانت قد شهدت ازدهار صناعة السفن اليدوية فيها منذ زمن بعيد، بشكل خاص، أضاء المهرجان على التراث البحري للمنطقة أكثر من خمسين فعالية بحرية وتراثية بمشاركة حرفيين ونواخذة وبحارة وفرق شعبية من دول مجلس التعاون الخليجي. وكذلك اهتم بالتعريف بتاريخ أهم میناء في المملكة وهو ميناء العقير. كما كان هناك استعراض للمراكب الشراعية ورحلة غوص شارك فيها بعض أشهر النواخذة في المنطقة، لنقل حياتهم اليومية في رحلات الغوص وصيد اللؤلؤ.
وفي يناير 2024م، نظَّمت شركة “البحر الأحمر الدولية”، المطوّرة لأكثر المشاريع السياحية المتجددة طموحًا في العالم، مبادرة ترميم السفن الشراعية بالشراكة مع “جمعية تمكين”، وذلك بهدف إعادة إحياء الموروث البحري والمحافظة عليه. وتتضمن المبادرة كثيرًا من الأنشطة للمجتمع المحلي، مثل العروض الشعبية وورش العمل التي تستهدف تثقيف الجيل الحالي وتعليمه كيفية بناء السفن الشراعية وهياكلها.
أمَّا المحافظة على “القلاليف”، فكانت مسعى آخر من المساعي المبذولة للمحافظة على تراث صناعة السفن الخليجية. والقلاليف هم صنّاع السفن التقليدية ومهندسوها. فهم من يحددون المقاسات بدقة، ثم أعمال النجارة، وانتقاء الأخشاب المناسبة للقوارب أو السفن، واستخداماتها؛ أي هم من يمارسون مهنة القلافة. والقلافة لفظ عربي مشتق من قلف الشجرة، أي إزالة اللحاء عن جذعها. فـ “القلاليف” اليوم هم أحفاد الذين بنوا ذات يوم الباجلات والسنبوك والبوم والجالبوت، التي انقرضت تقريبًا بصناعة السفن الشراعية الأنيقة ذات المحركات في الوقت الحاضر. والأحفاد مثل أجدادهم، لا يزالون يتعالون على الخطط والمخططات احترامًا لتقليد وصفه أحد بناة السفن الكويتيين عندما طلب منه ضابط بحري إنجليزي رؤية مخططات سفينة شراعية كان يعمل عليها، فقال له صانع السفن وهو يشير إلى رأسه: “الخطط؟ أي خطط؟ الخطط موجودة هنا!”. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى إنشاء ما يُعرف بـ”ديوانية القلاليف” في الكويت عام 1983م، التي تؤرخ لصناعة السفن القديمة، وترعى عددًا من القلاليف الذين يصنعون نماذج من السفن الصغيرة تُباع بوصفها هدايا تذكاريةً.
في القرآن الكريم
الفُلك والجَوار للنقل والنجاة وإظهار عظمة الخالق
ورد المركب البحري في أكثر من آية في القرآن الكريم، ولكن بتسميات أخرى للدلالة عليه، وهي الفُلك والجوار. ومنها:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾. (البقرة: 164).
وهنا يدعو الله، سبحانه وتعالى، الناس للتفكر في مظاهر الخلق، وكيف أن السفن تجري في البحر بقدرة الله لتحقق منافع لهم.
﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾. (يس:41).
إذ يُفهم أن “الفُلك” تشير إلى سفينة نوح، عليه السلام، التي حمّل فيها الله، عزَّ وجلَّ، مَن نجا مِن بني آدم وأجناس أخرى من المخلوقات؛ لاستمرار الحياة بعد الطوفان.
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ﴾. (الرعد: 32).
وتُبرز هذه الآية نعمة الله، سبحانه وتعالى، في تسخير البحر والسفن لتلبية احتياجات البشر.
﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾. (الإسراء:66).
وهي آية تدل على أن الفلك تُستخدم للبحث عن الرزق.
﴿حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾. (يونس: 22).
وتعني هذه الآية أنه عندما جرت الفُلك (السفن) بالناس بريح طيبة (في البحر)، فرح ركبان الفُلك بالريح الطيبة التي يسيرون بها، بينما ينقلب الحال إلى خوف عندما تهب ريح عاصف، مما يدفع الإنسان ليلجأ إلى خالقه.
وفي سورة الرحمن يُشار إلى السفن بلفظة الجَوار، وهي السفن الجارية في البحار، كما في قوله تعالى:
﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾. (الرحمن: 24).
ويُذكر أن أول من صنع السفن هو نبي الله نوح عليه السلام، بأمر من الله تعالى له لصناعة السفينة، في قوله:
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾. (هود: 37).
اترك تعليقاً