في قلب مدينة مونتريال الكندية، حيث يلتقي التاريخ بالحاضر، يتجسَّد مشروع “سيتي ميموار” أو “مدينة الذاكرة” ليُقدِّم تجربة حضرية رائدة من خلال تركيب مبتكر يهدف إلى بعث تاريخ المدينة الغني إلى الحياة. افتُتح هذا التركيب في مايو 2016م، فكان أحد أكبر أعمال الوسائط المتعددة الخارجية في العالم؛ إذ يعرض ماضي المدينة النابض بالحياة وتراثها الثقافي عبر مجموعة من اللوحات المرسومة التي تجمع بين الصور والحوار والموسيقى. وتُعرض هذه الإسقاطات على الجدران، وفي الأزقة، وعلى الطرقات، وعلى الأشجار في جميع أنحاء المناطق التاريخية، مثل: مونتريال القديمة، وميناء مونتريال القديم، ووسط المدينة، ومونتريال الشرقية، وكل المواقع التي شهدت تطور المدينة على مر القرون.
تَصوَّر مشروع “مدينة الذاكرة” ثلاثة من أكثر العقول الإبداعية في مونتريال، وهم المصممان “ميشيل ليميو” و”فيكتور بيلون”، بالإضافة إلى الكاتب المسرحي “ميشيل مارك بوشار”، وقد استغرق تطوير المشروع ست سنوات وشارك فيه أكثر من 800 شخص، من بينهم 400 فنان وحرفي. كان هدف هؤلاء المبدعين إنشاء شيء جديد ومبتكر تمامًا، باستخدام المدينة نفسها بوصفها لوحةً تُصوِّر رؤاهم. وقد تطلب المشروع تركيب 89 جهاز عرض وأسلاك على طول أكثر من 100 كيلومتر لضمان أن تكون العروض حية وجذابة. يقول ميشيل ليميو إن “أساس فكرة مشروع (مدينة الذاكرة) هو أننا ربَّما لا نكون نعرف الأشخاص الذين عاشوا في المدينة وأسهموا في بنائها، لكن أرواحهم لا تزال تعيش في لبنة جدرانها، وأن إعادة تمثيل اللحظات التاريخية العابرة تشبه تلك الأرواح التي تخرج من الجدران لتروي لنا حكاياتها”. ويضيف أن المشروع لا يعتمد على الإبهار من حيث المؤثرات الخاصة، ولكنه يُظهر فقط أشخاصًا، معظمهم على خلفية سوداء، وهم يدخلون في الضوء كما لو كانوا يعودون إلى الواقع للحظات وجيزة.
مع حلول الغسق وتقدُّم الليل تبقى المدينة كما هي، ولكن بعض معالمها تَـكتسب معاني أعمق، فتتحوَّل مع أكثر من عشرين عرضًا نابضًا بالحياة، إلى مسرح يشبه الأحلام، تشارك فيه شخصيات معروفة مثل “مارغريت بورجواي”، الراهبة التي اشتهرت بعملها المتفاني في تطوير التعليم، لا سيَّما بالنسبة إلى الفتيات، وعازف البيانو الشهير “أوسكار بيترسون” الذي لا يزال صدى ألحانه يتردد حتى اليوم بما يرمز إليه من تراث موسيقى الجاز الذي يميز المدينة. وتُسلِّط عروض أخرى الضوء على تأثير مدينة مونتريال في الرياضة العالمية، من خلال قصص شخصيات مؤثرة من أمثال: “موريس روكيت ريتشارد”، أسطورة الهوكي، و”جاكي روبنسون”، رائد البيسبول. بالإضافة إلى عرض لأحداث مهمة عاشتها المدينة مثل: إحراق مبنى البرلمان عام 1849م، وظهور أول دار سينما في كندا في عام 1907م، واعتصام الثنائي الشهير “جون لينون” و”يوكو أونو” من أجل السلام في فندق الملكة إليزابيث عام 1969م.
ولتحقيق تجربة غامرة أكثر، يُضيف تطبيق الهاتف المجاني المصاحب لعروض “مدينة الذاكرة”، الموسيقى التصويرية إلى الصور المرئية، إلى جانب تحديد السياق التاريخي والحوارات لكل لوحة من اللوحات بأربع لغات هي: الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والماندرين. كما تقود خريطة التطبيق الجغرافية الزوَّار عبر مناطق متنوعة، وهو ما يضمن أن يكشف كل عرض عن جانب جديد من تاريخ مونتريال. وبفضل مقاطع الواقع المعزّز، تتجاوز التجربة مجرد سرد القصص، فتدعو المشاهدين إلى وضع أنفسهم مكان أولئك الذين عاشوا لحظات محورية في ماضي المدينة.
تكمن أهمية مشروع “مدينة الذاكرة” في أنه أكثر من مجرد سرد تاريخي، فهو احتفال بالتنوع الثقـافي والمرونة الحضرية في مدينة مونتريال. إنه يذكّرنا بأن المدن ليست مجرد أماكن جامدة، بل كيانات حية، تتشكل من خلال قصص الأشخاص الذين عاشوا فيها. وبينما تتراقص الإسقاطات عبر المباني والأشجار، تستحضر معها شعورًا بالمجتمع والتاريخ المشترك، وتجسر بين الماضي والحاضر. وفي خضم هذا النسيج الحضري، يجد الزوَّار أنفسهم جزءًا من سرد أكبر، سرد يتحدث عن الموضوعات العالمية للتعايش والابتكار وروح الانفتاح.
اترك تعليقاً