مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2025

مدخل إلى الفلسفة السياسية للذكاء الاصطناعي


يبدأ أستاذ فلسفة الإعلام والتكنولوجيا بجامعة فيينا، مارك كوكيلبيرج، كتابه باقتباس السطور الأولى من رواية “المحاكمة” لـ”كافكا” المنشورة عام 1925م، التي أشارت إلى واقعة القبض على “جوزيف. ك” صبيحة أحد الأيام دون أن يرتكب خطأ ما، والذي سيُعدم لاحقًا بعد محاكمة افتقرَت إلى العدالة؛ وذلك لأجل أن يُقارِبَ بين هذه الواقعة المتخيلة، وأخرى واقعية بطلها الأمريكي روبرت جوليان ويليامز، الذي تلقى ظهيرة أحد أيام شهر يناير عام 2020 مكالمة من قسم شرطة ديترويت للحضور؛ ولأنه لم يرتكب أي خطأ هو أيضًا رفض الامتثال إلى ذلك، فجرى اعتقاله، وحين أطلعه المحققون على تصوير فيديو من إحدى كاميرات المُراقبة لرجل أسود يسرق من متجر راقٍ، نفى أن يكون هو الشخص نفسه الذي يظهر فيه؛ ولأنه كان صادقًا فقد أُطلق سراحه.

وما يبقى صحيحًا في هذه الواقعة كذلك هو أنه كان ضحية نتيجةٍ خاطئة صدرَت عن خوارزمية التعرُّف على الوجه الذي يَستخدم الذكاء الاصطناعي وفقًا لتقنية التعلم الآلي، وعلى هذا الأساس، اعتُقل دون وجه حقٍّ.

وتُمثِّل خلاصة هذه المقاربة بين قصة كافكا وحكاية روبرت جوليان ويليامز الطرح الأساس الذي قدَّمه كوكيلبيرج في هذا الكتاب، وطالَبَ فيه بضرورة التفكير في الفلسفات الحاكمة لاستخدام التقنيات فائقة الذكاء، وأهمية إجراء نوع من “التصالح” مع الفكر التكنولوجي الخاص بها لتُوجَّهَ أخلاقيًّا بحيث لا تُمثِّل في نهاية المطاف أداة لتكريس ضروب من التفاوتات تفضي إلى سيادة أنماط جديدة من الظلم والعنصرية وسلب الحريات.

وقد قسَّم المؤلف، في إطار سعيه إلى مناقشة القضايا الأخلاقية التي يثيرها الذكاء الاصطناعي والتقنيات المرتبطة به مثل الروبوتات و”الأتمتة” وأُطر فلسفتها السياسية المتباينة، الكتابَ إلى سبعة فصول بخلاف المقدمة، طرح فيها مجموعة من الأسئلة منها: ماذا تعني الحرية حين يتيح الذكاء الاصطناعي طرائقَ جديدة لاتخاذ قراراتنا والتلاعب بها؟ وهل يؤدي استبدال الروبوتات بالعمَّال إلى ترسيخ فكر الاستغلال الرأسمالي؟ وما الآثار السياسية، التي عادة ما تكون غير مقصودة، من حيث المساواة والتمييز؟ كما يبحث المؤلف في فصول الكتاب موضوعات أخرى مثل تأثيرات تقنيات الذكاء الاصطناعي في الديمقراطية، خاصة في فترات الانتخابات، وإمكان أن تُوجِدَ نوعًا من أنواع “استعمار البيانات” وخلق “فقاعات” من المعلومات المضللة التي لا ترتبط بالواقع لخدمة أغراض سياسية محددة، وفكرة “المراقبة” المدعومة بالتقنيات الذكية التي قد تعتمدها السلطات السياسية على مستوى المؤسسات والعلاقات الإنسانية على السواء.

ويتجاوز مضمون الكتاب رصد الفلسفة السياسية وتحليلها الخاصة باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في عالم البشر، إلى استعراض عواقبها على غير البشر، فيطرح المؤلف كذلك أسئلة حول إمكان تمتُّع أنظمة الذكاء الاصطناعي والروبوتات بوضعٍ سياسي بعينه، مثل المواطنة وحقوقها وما يستدعيه ذلك من إعادة التفكير في مفاهيم الحرية والعدالة لتشمل الآلات أيضًا.

ويؤكد مارك كوكيلبيرج، بعد بحثه المتعمق في كثير من النظريات السياسية الكلاسيكية والمعاصرة وربط فرضياتها بموضوع عمله الرئيس المرتكِز على الفلسفات السياسية للذكاء الاصطناعي الذي بدأ يُهيمن على الواقع اليومي للحياة الإنسانية في مجالات شتى، أن خوارزميات هذا النمط من الذكاء غير البشري الفائق ليست محايدة أبدًا على المستوى السياسي، ولكي نتجنب تأثيراته المُجتمعية الضارة ثمَّة حاجة ملحة إلى ما سمَّاه “التفكير معًا” في العلاقة بين السياسة والتكنولوجيا لجعل “سياسات الذكاء الاصطناعي أكثر تشاركية وعامة، وديمقراطية وشاملة”، تضع في اعتبارها السياقات العالمية، والاختلافات الثقافية التي تنشأ فيها القضايا المرتبطة بها، مع ضرورة تحديد ما التكنولوجيات التي نحتاج إليها فعليًّا، وكيف نستخدمها على أفضل وجه.


مقالات ذات صلة

تأليف: منيرة بن مصطفى حشّانة الناشر، يافا للبحوث والدراسات، 2024م يُقدِّم هذا الكتاب إلى المكتبة البحثية العربية، من منظور نوعي متفرد، مفهوم “الأجواء” محاولًا تأصيله والكشف عن مدلولاته المتنوعة من أجل فتح آفاق للعمل البحثي والنظري والتطبيقي في مجال الجماليات والإنسانيات، وذلك بعد أن لاحظَت مؤلفته أستاذة الجماليات والفلسفة المعاصَرة بجامعة تونس منيرة بن مصطفى […]

تأليف: بول تايلر ترجمة: سلمى الحافي الناشر: الساقي، 2025م على غلاف النسخة الإنجليزية من هذا الكتاب، سيشاهد القارئ هيكلًا عظميًّا متمددًا على أريكة مريحة يُتابِع التليفزيون، وبيده ما يبدو أنه هاتفه المحمول، ومن حوله تتناثَرُ وجبات الطعام السريعة. ويشكل هذا، باختصار، المعنى العام للمضمون، الذي أراد أن ينقله مؤلِّف هذا العمل خبير التغذية والباحث في […]

تأليف: جوزويه باجيو ترجمة: عبدالفتاح عبدالله الناشر: هنداوي، 2024م اللُّغويات العصبية، كما نقرأ في مقدمة هذا الكتاب، هي “دراسة الأساسات العصبية للغات البشرية”، وهي ترتبط بشبكات الخلايا العصبية في المخ، والطرائق التي تتفاعَلُ بها، بما يسمح للبشر بالتعلُّم والتمكُّن من لغة أو أخرى. وهي نتيجة لتلاقي علم الأعصاب وعلم اللغة، لكن يدخل في نِطاق عملها […]


0 تعليقات على “مدخل إلى الفلسفة السياسية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *