ضع جانبًا، عزيزي القارئ، عاطفتك المفرطة تجاه القراءة، كي تتمكن من النظر إلى هذا السؤال من زوايا متعددة، وكي تجمح بخيالك إلى أشكال مختلفة من الغد الذي ينتظرنا. تخيَّل أنك الآن لا تعرف القراءة، ودَع جانبًا مسألة التعامل مع الموضوع من زاوية العيب المجتمعي، فهل تتصور أنك تعيش حياة كريمة طبيعية في عالمنا اليوم؟
إذا نظرنا إلى تاريخ البشر، سنجد أن الكتابة، ومعها القراءة، كانت فكرة عبقرية استجابت لحاجة حياتية ملحة ترتبط بالتواصل والتعبير البشري. ومع أن هذه الممارسة من بديهيات اليوم، لكنها لم تكن مطلبًا ضروريًا حتى فترة متأخرة، وإنما كانت ميزة تحتكرها نخبة معينة من الناس.
بمرور الوقت، تضاعفت أهمية القراءة بوصفها سلاحًا للمعرفة، وصار تنافس الأفراد والشعوب مرتبطًا بذلك إلى حد كبير. ولاحقًا، أصبحنا نتحدث عن مشكلة الأمية على مستوى الأفراد الذين لا يُحسنون القراءة، وأصبحت القراءة والتعليم مفتاحًا لسوق العمل. بل صرنا نتكلم عن القراءة بوصفها أداة تنوير ينبغي للشخص أن يستثمر فيها ليوسِّع من إدراكه للكون. وتجليات ذلك كثيرة، ومنها الحديث عن تنمية التعلق بهذه “الهواية” لدى الأجيال الناشئة.
لا تدوم الأمور على حالها. اليوم، يعتقد كثيرون أن سلاح المعرفة والتفوق الأهم هو التقنية، وأن شكل اللغة المقروءة وقنواتها، وأغراض القراءة وعاداتها، بل حتى الحاجة إلى القراءة من الأصل، هي محكومة مثل كل شيء آخر بسلطة التقنية ومن يملكها ويطورها ويحرّكها ويوجّهها.
يمكن محاكمة هذا الرأي، ولنا أن نختلف أو نتفق معه جزئيًا وكليًا. لكن علينا أن نُدرك أن الحديث هنا أعم من أن يقتصر على الجانب الورقي من معادلة القراءة. فالتقنية أصبحت تُتيح قدرات واعدة لصناعة المحتوى المسموع والمرئي، بحيث يمكن أن نتخيل مثلًا معهدَ تدريب لا يعتمد على أشكال الكلمة المكتوبة، حتى الرقمي منها، بل يستغني عنها بالصوت والصورة. ومع قدرة الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي على تعزيز الجانب التفاعلي من التجربة، فإن هذا الفرض يبدو قريبًا من التحقق، إن لم يكن قد تحقق بالفعل. فيمكن إذًا أن نتصور أن القراءة ستفقد بتقدم التقنية كثيرًا من أغراضها لانتفاء الحاجة إليها.
وفي مقابل الحاجة، التي ترتبط بالمعرفة والعلوم تحديدًا، يعتقد كثيرون أن مستقبل الكلمة المقروءة بوصفها وسيطًا للترفيه والمتعة والثقافة قد يكون في خطر أكبر. فدواوين الشعر يمكن أن تتحول إلى عالم الصوت والفيديو، ومثلها قد تتحول الروايات إلى أفلام. ومن الواضح أن عدد من يلجؤون إلى القراءة لمعرفة الجديد والاطلاع، أو تزجية الوقت والاستمتاع، يتراجع في ظل الخيارات الهائلة التي تتيحها التقنية.
هل القراءة إذًا أمام مستقبل أسود؟ للتفاؤل متسع، وخبر الغد في طيّ الغد! فإذا كانت التقنية هي رهان المستقبل، فالأكيد أننا ما كنا لنصل إلى واقعنا اليوم من دون القراءة. والأكيد أيضًا أن تطور التقنية هو في جوهره تطور للفكر البشري، ولا يمكن تصور قالب يمكنه أن يخدم تطور الفكر مثل القالب المقروء، فالكلمة المقروءة هي أسمى أنواع الفكر. وبالتالي، إذا كنا سنتقدم غدًا فسيكون ذلك انطلاقًا من كلمة مقروءة.
ومع هذا، علينا ألا نُغفل الجانب البشري من المعادلة. فالتعبير حاجة ملحة من دون ريب، والماضي يخبرنا أن أيًا من أشكاله المختلفة لم تقتل الكتابة منذ أن عرفها الإنسان. فهل يعني هذا أن عدد القرّاء، ومعدلات القراءة، وطبيعة المحتوى المقروء وجودته، ستكون بمنأًى عن تأثير التقنية الجارف؟ الجواب بالنفي يبدو أقرب إلى الصحة. ولكن، يمكن أن نقول: ما دامت هنالك كلمة مكتوبة فهنالك قارئ، وما دام هنالك قارئ فهنالك كلمة مكتوبة!
إذًا، تستحق القراءة أن ننحاز إليها. وهذا ما يسعى إليه حفل “أقرأ” الختامي، الذي ينظمه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء”، وتنعقد نسخته التاسعة لعام 2024م في شهر أكتوبر، تحت شعار “القراءة جسر عبور”. ونحن بدورنا في القافلة نبقى أوفياء للقراءة وجمهورها منذ الإطلالة الأولى قبل 71 عامًا وإلى ما شاء الله؛ وبين يدي القارئ الكريم، نضع عددًا جديدًا نرجو أن يجده مليئًا بالفائدة والمتعة معًا
اترك تعليقاً