مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2025

متحف فضائي في المدار


حسن الخاطر

مضى وقت طويل على أول رحلة فضائية أعلنت بداية عصر الفضاء في عام 1957م. ومنذ ذلك الوقت، تعدَّدت الرحلات وتنوَّعت مهامها بشكل كبير مخلِّفة وراءها آثارًا كثيرة من أنواع مختلفة، وليس هناك متحف ليوثقها نتيجة وجود أغلبها في الفضاء وعلى سطحي القمر والمريخ؛ وهو ما حدا بالعلماء إلى تفكير جامح في تحويل مدار حول الأرض إلى متحف فضائي يُمكن أن يشكّل معلمًا سياحيًا يستقبل سيَّاح الفضاء.  

منذ تاريخ إنشائها في عام 1957م، أحصت شبكة مراقبة الفضاء الأمريكية وجود أكثر من 24500 جسم فضائي من صنع الإنسان تتجاوز أقطارها 10 سم حول الأرض. لكن غالبية هذه الأجسام سقطت في مدارات غير مستقرة، واحترق بعضها أثناء الدخول إلى الغلاف الجوي. وجاء في إحصاء آخر لـ”ناسا” صدر في نشرة “كلّ العلم” (All the Science) في 21 مايو 2024م، أن هناك حاليًا حوالي 8000 جسم فضائي من صنع الإنسان يدور حول الأرض، من بينها 300 قمر صناعي.  

وهناك خطة لتحويل بعض هذه الأجسام الكبيرة بعد إحالتها للتقاعد إلى وجهة لسيَّاح الفضاء، مثل: تلسكوب هابل وتلسكوب كيبلر ومحطة الفضاء الدولية وغيرها؛ لأنها تشكّل سجلًا أثريًا للجهود البشرية خارج الغلاف الجوي خلال القرن العشرين. 

تحديات وإيجابيات 

تواجه مشاريع الفضاء مصاعب عديدة. أهمها غياب درع تحميها كما يفعل الحقل المغناطيسي حول الأرض في حمايتها من الإشعاعات الكونية الخطرة والمميتة، إذ يُحبَس معظمها على مسافة آمنة وبعيدة من سطح الأرض في منطقتين تُسميان “أحزمة فان ألين”. كما أن الفضاء يفتقر إلى الغلاف الجوي الذي يحتوي على الهواء وغيره من الغازات الضرورية للحياة. ولكن هناك أيضًا جوانب إيجابية لإقامة مثل هذه المشاريع في الفضاء حيث تساعد بيئة الفضاء الخارجي في الحفاظ عليها؛ لأنها لا تحتوي على هواء ورطوبة قد يتسببان في تشويه المواد وتعرضها للعفن والصدأ. ولا توجد في الفضاء كوارث طبيعية مثل الزلازل والبراكين، إضافة إلى المخاطر الأخرى مثل: الحرائق أو السرقات أو العبث بمحتويات المتحف.

وعلى الرغم من وجود الإشعاعات الكونية والأجسام الكونية وما يصاحبها من مخاطر مثل ضربات النيازك، فإن تأثيرها يعدُّ ضئيلًا جدًّا. ثم إن المركبات الفضائية صُمّمت لتتحمل ظروف الفضاء القاسية، كما جاء في مجلة “أتلانتيك” في 3 ديسمبر 2018م.  

محتويات المتحف الفضائي 

بداية، فات الأوان على إمكانية الحفاظ على بعض الأجسام الفضائية، مثل القمر الصناعي سبوتنيك، وهو أول قمر يخرج إلى الفضاء، لكنه سقط عائدًا إلى الأرض بعد عدة أشهر من إطلاقه في عام 1957م. في المقابل، عديد من المكونات التي صنعها الإنسان في عصر الفضاء لا تزال موجودة، ويمكن الحفاظ عليها وغيرها في متحف منظّم بعناية، ليس على الأرض بل في الفضاء، كما جاء في كتالوج “ناسا” الصادر في عام 2012م حول المواد التي تركها الإنسان على سطح القمر.  

كما أن هناك قائمة من الأجسام الفضائية التاريخية المرشحة أن تكون جزءًا رئيسًا من متحف الفضاء، ومن أبرزها محطة الفضاء الدولية، التي تشهد على الإبداع البشري والتقدُّم التكنولوجي، وتشكِّل أحد أعظم إنجازات الحضارة البشرية. وتعتزم وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” إيقافها عن العمل في نهاية عام 2030م، كما جاء على موقعها في 18 يوليو 2024م. فبعد ذلك ستتحطم المحطة في بقعة نائية من المحيط الهادئ تُعرف باسم “نقطة نيمو”، وسوف تكون نهايتها حزينة ولا تبعث على السرور إطلاقًا، وتلقى نفس مصير عديد من الأجسام الفضائية التاريخية الأخرى، مثل أول قمر صناعي “سبوتنيك” وكلبة الفضاء “لايكا”، ومختبر “سكاي لاب”، ومحطة الفضاء “مير”. لذلك اقترح عدد من العلماء جمعها في متحف فضائي عائم، كما جاء في موقع “فوربس” في 9 نوفمبر 2024م. 

إضافة إلى القيمة التاريخية والعلمية التي تقدمها محطة الفضاء الدولية، فهي تحمل قيمة إنسانية مشتركة تتمثل في نسج روابط العلاقات الدولية بما فيها الدول المتخاصمة. إذ بُنيت هذه المحطة بمشاركة كثير من الدول ذات الأيديولوجيات المختلفة من أجل أهداف علمية نبيلة تتمثّل في تمكين اكتشاف الفضاء وتحسين جودة حياة الإنسان على الأرض. لذلك، فإن إغراقها ربَّما يعيق من طموحاتنا العالمية المشتركة، بدلًا من الاستمرار في تعزيز روح التعاون والتشارك العلمي وإثرائه من خلال تحويلها إلى متحف فضائي.  

المواقع المقترحة للمتحف 

بداية، ينبغي اختيار منطقة معينة في الفضاء تكون مناسبة لإنشاء هذا المشروع التخيلي وتطوير البنية الأساسية له. فالمدار الأرضي المنخفض، الذي يلامس الغلاف الجوي للأرض، مزدحم بالأجسام الفضائية، إضافة إلى أنه ليس فارغًا كليًا؛ فهو يحتوي على ما يكفي من جزيئات الهواء لإنتاج بعض السحب وإبطاء الأجسام بفعل قوة الاحتكاك. وبمرور الوقت تقل سرعة الأجسام إلى الحد الذي تسيطر فيه الجاذبية الأرضية عليها وتدخل للغلاف الجوي وتحترق. وهذا هو سبب وجود أنظمة دفع في محطة الفضاء الدولية. 

عند نقاط لاغرانج 

وهناك مواقع محددة في الفضاء اُقترِحت تُعرف باسم “نقاط لاغرانج”، وهي نقاط تتوازن فيها القوى الطبيعية للحفاظ على الأجسام الفضائية في مداراتها، ولا يتطلب الدوران في هذه المدارات سوى قدر ضئيل جدًّا من الطاقة. فالنقطة المقترحة لتنفيذ هذا المشروع هي نقطة لاغرانج الأولى. ومع مرور الزمن، سوف يتوسّع المتحف الفضائي إلى بقية النقاط. 

لكن المهمة الرئيسة لتحقيق هذه الغاية هي اختيار التقنية المناسبة لدفع محطة الفضاء الدولية إلى النقطة المحددة. وهناك تقنيات عديدة للقيام بذلك؛ إذ يمكن استخدام الدفع الكهربائي المقترن بمصفوفة من الخلايا الشمسية الضخمة في دفعها إلى الموقع المحدد. ومن الممكن أيضًا استخدام محركات أيونية أو مدافع ليزرية عملاقة، كما جاء في مجلة “سبيس ريفيو” في 11 أغسطس 2024م.  

إن فكرة استخدام أنظمة الدفع المتقدمة لنقل محطة الفضاء الدولية إلى مدار أعلى ليست مستحيلة، بل هي ممكنة علميًا. ومما لا شك فيه أن البحث في مثل هذه الأفكار غير المألوفة قد يؤدي إلى اختراقات تكنولوجية لم نتخيلها بعد، فالتاريخ مليء بالأفكار التي كانت مستحيلة حينذاك وأصبحت في النهاية حقيقة. والطريقة الوحيدة لاكتشاف حدود الممكن هي المغامرة في الذهاب أبعد منها إلى المستحيل، وهذا ما يُعرف بالقانون الثاني لآرثر سي كلارك. 

على سطح القمر 

القمر أيضًا قد يكون مكانًا محتملًا لمثل هذا المتحف، خاصة أننا نقترب أكثر من أي وقت مضى من استيطانه وإنشاء القواعد على سطحه.  

تأتي أهمية مكان القمر لمثل هذا المتحف لوجود أشياء عديدة تركها الإنسان على سطحه منذ أن وضع قدمه للمرة الأولى على أرضه في عام 1969م. فهناك كثير من آلات التصوير، وحطام المركبات الفضائية، والعربات المتنقلة، ومجموعات الطاقة، والملاقط، وأدوات الحفر، وأدوات التجارب العلمية التي كانت تقيس الاهتزازات الزلزالية والرياح الشمسية وإثبات النظريات العلمية.  

فقد استخدم ديفيد سكوت، أحد روَّاد بعثة أبولو 15، التي أرسلتها “ناسا” في عام 1971م، المطرقة والريشة اللتين أسقطهما على سطح القمر لإثبات نظرية جاليلو حول تساقط الأجسام في غياب مقاومة الهواء. ولا تزال بعض هذه القطع الأثرية تخدم غرضًا علميًا؛ فقد استخدمت العاكسات التي وضعها روَّاد الفضاء لقياس المسافة بين الأرض والقمر بأشعة الليزر على مدى السنوات الخمسين الماضية، كما جاء في صحيفة “الجارديان” في 19 يوليو 2019م.  

استشراف المستقبل  

بدأت السياحة بوصفها صناعة اقتصادية منظمة مع صياغة كلمة “سائح” في نهاية القرن الثامن عشر في أوروبا. وتطوَّرت مع الوقت لتشمل جميع الأماكن على الكرة الأرضية من القطب الجنوبي إلى القطب الشمالي. ومن شبه المؤكد أن هذه السياحة ستتوسع في المستقبل إلى الفضاء الخارجي. وبهذه الحالة سيشكل المتحف الفضائي استثمارًا مربحًا جاذبًا للشركات الكبيرة وللسيَّاح على السواء. 

ومع تطوُّر التقنيات خلال العقود المقبلة، ستكون السياحة الفضائية من أمور الحياة اليومية، وهكذا ستظل المتاحف الفضائية التخيلية، التي ربَّما يزورها أحفادنا، شاهدًا على إبداع حضارتنا البشرية، حتى لا ننسى كيف بدأنا وكيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. 


مقالات ذات صلة

يتزايد الاعتقاد الشعبي بوجود ظواهر غريبة وأجسام طائرة غير محددة تزور الأرض من الفضاء الخارجي.

رحلة البحث عن جمال الذات عبر تحسين صورة الجسم، رحلة قديمة تمتد جذورها إلى ما قبل التاريخ. وقد سُجّلت بعض محطاتها في رسومات جدارية ومنحوتات. ومع تنوُّع الأعراق البشرية واختلاف الثقافات، تباينت النظرة إلى صورة جسم الإنسان ومعايير الجمال، مُتأثرة بعوامل اقتصادية واجتماعية وغذائية وبالعلاقة بين الجنسين. وقد وصلنا إلى ذروة التأثّر في ظِل طُغيان […]

يجتاح العالم وباء من نوع جديد لم يشهده من قبل، هو وباء الوحدة. وهي، كما حددها المركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها، “شعور المرء أنه لا يمتلك علاقات وثيقة أو ذات معنى أو شعورًا بالانتماء”. وتشير آخر الإحصاءات إلى أن نصف سكان العالم يعانون الوحدة الآن. كما استنتجت دراسة أجرتها جامعة هارفارد على مدى […]


0 تعليقات على “متحف فضائي في المدار   ”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *