مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
2024

أكثر من رسالة

لماذا نتفلسف؟


د. فندي أبو لطيف

قد لا يكون من الضروري أن نعرف ما هي الفلسفة حتى نتفلسف، كما لا يلزمنا معرفة مدارس الفن التشكيلي وفنانيه حتى نصوّر الوجوه والأشياء ونرسمها. وذلك لأن كلًا من الفلسفة والفن ينهضان على أسس موجودة قبل تبلور فكرتيهما التقنيتين، أو بتعبير آخر، فقد تفلسف الإنسان ورسم الأشكال والوجوه قبل أن تنشأ الفلسفة بالمفهوم الاصطلاحي بوصفها منظومة فكرية ومفاهيمية متسقة، وقبل أن يظهر الفن بوصفه نظامًا تعبيريًا يستند إلى أدوات معينة وبقواعد محددة إن جاز التعبير.

فعلى سبيل المثال، يعرّف أرسطو الفلسفة بأنها دراسة الوجود بما هو وجود؛ أي معرفة اشتراك الموجودات بصفة الوجود، بصرف النظر عن نوع هذه الموجودات الجزئية، وهذا في أحد وجوهه ترجمة لمفهوم الكلي الذي طوّره الإنسان نتيجة تشابك علاقاته بعضها ببعض، كأن تقول مثلًا: كلمة “كرسي”، فيفهم من قولك أنك تقصد أداةً للجلوس، كائنًا ما كان شكل هذه الأداة أو لونها أو صنع مادتها. وما دام الإنسان إنسانًا يحيا ويفكر ويموت، لن يستطيع ممارسة إنسانيته إلا بالتفلسف، حتى وإن تباينت أصناف تفلسفه أشد التباين. ويمكننا القول إن تزايد التباين في طرائق التفكير بين البشر، جعل مولد الفلسفة بمعناها الاصطلاحي أقرب أجلًا وأكثر وضوحًا.

دعونا الآن نضع الأمور في نصابها الدقيق، ليس كل طريقة في حياة المرء، أو كل سبيل نهجه، هو تفلسف أصيل؛ لأن محور “التفلسف” هنا هو الخبرة الشخصية للمرء وتسيير حياته وفقًا لذلك النهج، ولم يرتقِ بعدُ إلى ما هو أوسع من التجربة الشخصية. في حين أن التفلسف الأصيل يتجاوز الجزئي والمؤقت ويتجه إلى العام والكلي والثابت. ولا بدّ من الإشارة إلى أن الرابط بين الخاص والعام ما زال موجودًا في التفلسف، من حيث إن الرؤية الشاملة والواسعة تنطوي بجوفها على المنظور الشخصي. لنأخذ مثالًا يوضح هذه الفكرة: يقول الإنسان العادي إن الكذب رذيلة ويجب تجنبه، ثم يضيف: ولكن ثمة نوعًا من الكذب يسمّى الكذب الأبيض لا ضير منه إن كان يعود بنفع على من يقع عليه الكذب، كأن تقول لأحد وقد شُخّص بمرض السرطان، إن أموره جيدة على وجه العموم وعليه اتباع كذا وكذا حتى تتحسن حاله ويتعافى؛ لأنك لو أعلمته بوجود السرطان في جسمه لساء وضعه الصحي وربما قد يتدهور. أمَّا المتفلسف، فإنه ينظر في كل هذه الجزئيات وأدقها ويدرسها ليصل إلى حكم كلي وشامل بشأن أمر الكذب، فيقول مثلًا بعد البحث والنظر والتدقيق إن الكذب رذيلة ولا استثناء في ذلك، ويبرهن بالأدلة المنطقية والعقلية على سلامة دعواه، وهو يحاول بذلك التأسيس لمعرفة ثابتة وراسخة تتجاوز التباينات القائمة بين مختلف أنماط الشعوب بكل أعراقها وتقاليدها وأعرافها.

وإذا كان التفلسف ينظر في الكلي وعلاقاته، فإنه من باب أولى ينظر في الإنسان وماهيته؛ لأنه منطلق الدروب ونقطة تلاقيها، فنجد بعضهم يعرّف الإنسان بعقله، وبعضهم الآخر يعرفه بإرادته، وبعضهم الثالث يعرفه بأخلاقه وما إلى ذلك. والمقصود بذلك أن جوهر الإنسان إمَّا هو عقل، أو إرادة، أو أخلاق أو… إلخ، وهذا الجوهر هو ما يميزه عن سائر الموجودات. وهنا نلاحظ الرافعة الضخمة التي يرفع بها التفلسف قيمة الإنسان؛ إذ يمنح المعنى لحياة الإنسان ويجعله يعيش في هذا المعنى ويعيش لأجله. ونحن حينما نتفلسف بشأن الإنسان ننظر فيما يتشارك به جميع الناس ونتحيز إلى هذه المشتركات التي تصبح جزءًا من صميم برنامج تفكيرنا؛ وبمعنى آخر، يجعلنا التفلسف نعيش إنسانيتنا في أبهى حلة لها.

يثير التفلسف في الإنسان أسئلته الطفولية البريئة والجريئة أيضًا، ولكن ما يمتاز به المتفلسف هو امتلاك الإرادة والعزيمة على المتابعة في طرح الأسئلة إلى الحدود النهائية غير عابئ بالمخاطر التي تتهدده خلال هذا المسير، وكما كان يقول الفيلسوف الألماني كانط: “علينا أن نتجرأ على عقولنا”؛ أي أن نتجاوز المسلمات والعادات والتقاليد والموروثات إبان طرح الأسئلة والبحث عن أجوبة متسقة عنها. وهذا الأمر لا تتعارض نتائجه بالضرورة مع الموروث والمعاش، بل الغاية منه منح الإنسان برهةً كي يتحرر فيها مما يقيد فكره، وفي أحيان كثيرة تكون مآلات هذا التحرر إعادة استنهاض الموروث بطريقة تجعله مؤثرًا ومتخففًا من أعباء تاريخية أثقلته وجعلته موروثًا عاطلًا يعيق حركة الفكر والتطور.

خلاصة القول، إننا نتفلسف لنكتشف أنفسنا ونرتقي بها ونثريها بصفوة عقول البشر وإبداعاتهم، فلا يحيا الإنسان بتفلسفه مجرد فرد معدود من الناس، بل يحيا حياة كل من مروا ومن حضروا. وبكلمات أخرى، التفلسف يجعل الإنسان يعيش الإنسانية بأقصى أبعادها، وليس بوصفه مجرد فرد عبر في هذه الدنيا ومضى.


مقالات ذات صلة

أكثر من ثمانية مليارات إنسان يعيشون على هذه الأرض. وأضعاف هذا الرقم هو عدد المرايا الرقمية التي باتت تحاصرنا بما يشبهنا من نسخ. لا غرابة إذًا أن يكون التفرُّد حلمًا بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى؛ التفرُّد بمعنى أن تكون نسخة واحدة لا يُشبهها شيء. غير أن السعي نحو ذلك الحلم ضمير مشترك بيننا، […]

في منتصف التسعينيات الميلادية، كتبتُ عن طليعية التحديث المبكرة للتجربة الشعرية النبطية المجددة للشاعر الراحل الحاضر الأمير بدر بن عبدالمحسن، رحمه الله، وذلك عبر مقال من سلسلة مقالاتي “قراءة ذاتية لتيار جماعي” المتبادلة مع الشاعر علي الدميني. وقد تكون هذه أحد الأسباب، التي حدت بمجلة القافلة أن تطلب مني المشاركة بمقال عن تجربته الشعرية، حرصًا […]

الحديث عن الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن ليس ببعيد عن البحث عن لغة مختلفة يمكن أن تصفه أو تصف تجربته الشعرية المختلفة، بكل ما للكلمة من معنى. لكن الحديث في نهاية الأمر أصبح واجبًا في غمرة الحزن الذي انتابنا برحيله، باللغة التي نراها أقرب إلى ملامسة ما أمكن من أطراف تجربته المتفردة. رسم: عمر صُبير […]


0 تعليقات على “لماذا نتفلسف؟”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *