مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

من الجُموح في البراري إلى الاستئناس

كيف غـيَّرت الخيول مجرى التاريخ؟


فاطمة البغدادي

ارتبط تاريخ البشرية ومسار الحضارات بالخيول وما طرأ عليها من تطوّرات جينية وسلوكية خلال الأزمنة المُتعاقبة. وتوطَّد هذا الارتباط بعد الانتقال من مرحلة الجُموح في البراري إلى مرحلة الاستئناس والترويض. وكانت كثير من النقوش والأحافير قد سجّلت الأدوار التي أدَّتها الخيول عبر التاريخ في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والحربية. وما زالت إلى الآن تحتل مكانة مرموقة في ثقافات الشعوب، حيث ترمُز إلى النُبل والشجاعة والفروسية. وفي هذا الصدد، قال عالم الآثار الشهير لودوفيك أورلاندو: “الخيول هي من غيَّر التاريخ”. لكن الغموض كان يلف كثيرًا من فصول تاريخ الخيل، إلى أن كشفت الأبحاث العلمية الحديثة حيثياتها من خلال تتبع الحمض النووي، وأجابت عن الأسئلة الصعبة التي كانت تُطرح بشأن أين ومتى حصل ذلك.

كشفت أحافير عُثر عليها في مناطق مُتفرِّقة من آسيا الوسطى وأوروبا وأمريكا الشمالية، أن الأسلاف الأولى للخيول الحديثة كانت صغيرة الحجم نسبيًا، وظهورها مقوّسة، وتنتهي أرجلها بأقدام مُبطنة بأربعة حوافر وظيفية في كل من القدمين الأماميين وثلاثة في القدمين الخلفيين، على عكس الحصان الحديث ذي القدم غير المبطَّن والحافر الواحد. ويُشير حجم الجُمجمة وشكلها إلى أن الدماغ كان أصغر بكثير وأقل تعقيدًا من دماغ خيول اليوم. كما ظهرت الأسنان بشكل مُختلف إلى حد بعيد عن أسنان الخيول الحديثة؛ لتتكيّف مع النظام الغذائي العام، الذي كان سائدًا في البيئات القديمة.

 ونتيجة عمليات التطوّر الجيني التي ظلَّت مُتواصلة، ازداد حجم البدن وانخفض عدد الحوافر وفُقِد باطن القدَم، مع إطالة في الساقين واستطالة الخطم وزيادة في حجم الجُمجمة وتعقيد الدماغ. وقد اكتملت هذه الخصائص في الجيل التالي من الأسلاف الذي أُطلِق عليه “إيوهيبوس”.

إبان العصر البليوسيني، وتحديدًا بين الفترة الممتدة من 4 ملايين إلى 4.5 ملايين سنة، اكتمل الشكل العام الحديث لجنس الخيول، المعروف باسم “الإيكوس” (Equus). وشهدت هذه الخيول انتشارًا واسعًا في ربوع العالم القديم. وكانت دائمة التنقل بين آسيا وأمريكا الشمالية عبر جسر بيرنغ البري إلى قرون عديدة.

غير أنه مُنذ نحو 10 آلاف سنة مضت، إبان العصر الجليدي الأخير، بدأت أعدادها تتناقص بشكل كبير في القارة الأمريكية، واختفت تمامًا مع اختفاء كثير من الأنواع الضخمة الأخرى، مثل الماموث والقندس العملاق. وقد تباينت تفسيرات العُلماء حول أسباب زوال “الإيكوس” في العالم الجديد. فثمة من يرى أن غرق جسر بيرنغ منع هجرتها. في حين يرى آخرون أن التغيُّرات المناخية وتفشِّي وباء غامض أدَّيا إلى زوالها. ويذهب البعض إلى أن السبب يكمن في التوسُّع بعمليات صيدها من أجل لحومها وجلودها. وترى عالمة الوراثة في جامعة كامبريدج بولاية ماساتشوستس أليسا فيرشينينا، أن هناك أكثر من سبب كان وراء زوال “الإيكوس”، الذي أعاد توطينه من جديد المُستكشفون الإسبان في أوائل القرن السادس عشر.

وبفضل الدراسات والأبحاث التي تتبعت تاريخ الحمض النووي للمخلوقات القديمة والحديثة، توصَّل العُلماء إلى إجابات عن أسئلة كانت غامضة حول تاريخ “الإيكوس”، وكيف شاركت الخيول البريَّة القديمة الجينات عبر مضيق بيرنغ، وكشفوا عن التاريخ المدهش لحصان “برزوالسكي”. ومن خلال العمل على عيِّنات أحدث، لاحظوا كيف أن الإدارة الحديثة من قِبل البشر قد ألغت كثيرًا من التنوُّع في جينومات الخيول، مع إضافة مجموعة من السمات الخاصة بالسلالات. وأبلغ العُلماء عن نجاحهم بتحليل أكثر من 250 جينومًا قديمًا للخيول حتى أواخر عام 2021م. وتقول عالمة الوراثة الحيوانية بجامعة نبراسكا لينكولن، جيسيكا بيترسون: “من الرائع أن نتمكَّن من حل هذه القِطعة الكبيرة من اللُغز حول أصل الخيول”.

الصندوق الأسود لتدجين الخيول

قبل توفُّر تقنيات التحليل الجينومي، كان الغموض يلف تاريخ تطوُّر تدجين الخيول. ووصفه بعض العُلماء بأنه “صندوق أسود” يصعُب تفسير مُحتواه. وذلك لأن جميع عظام “الإيكوس” تبدو مُتشابهة إلى حد بعيد، سواء أكانت بريَّة أم مُستأنسة، وكان من الصعب معرفة أين ومتى دجَّن البشر الخيولَ أوَّل مرَّة.

بحسب جوس كوثران وفريق من المُحررين في الموسوعة البريطانية، كان هناك كثير من الأسئلة الغامضة حول التطوُّر المُبكِّر للأنواع أثناء خضوعها للتدجين. ومن أهم هذه الأسئلة: هل بدأ تدجين الحيوانات في مكان واحد فقط، أم في أماكن متعددة؟

اختلف هذا الوضع بعد أن دعمت نتائجُ الأبحاث الجينومية الاعتقاد أن خيولًا بريّة من أصول مُتنوعة ومناطق جُغرافية مُختلفة، أسهمت في ظهور الخيل المُستأنس، الذي جرى تهجينه على نطاق واسع. وأن سلالة واحدة من الكروموسوم (Y) الموروثة من الأب، لا يوجد فيها أي اختلاف تقريبًا في جميع الخيول المُستأنسة، باستثناء مجموعات الخيول الذكور في جنوب الصين، التي تبيَّن أنها تمتلك مُتغيرًا من الكروموسوم (Y) ليس موجودًا في أي سُلالات أخرى جرى اختبارها. ورُبَّما يُمثل هذا المُتغيِّر سلالة أبويَّة مُختلفة نجت في المنطقة، أو أنه يشكِّل دليلًا على طفرة حديثة واستئناس مُستقل.

أين؟ ومتى؟

من أكثر الفرضيَّات التي حظيت بقبول لدى مجموعة كبيرة من الباحثين والعُلماء المعنيين بتتبُّع تاريخ الخيول وموائل استيطانها، فرضيَّة اعتمدت بالأساس على استنتاجات تجمع بين تأريخ الكربون المُشع، وتسلسل الحمض النووي القديم، وتحليل وراثي للبيانات الجينية. وقد أفضت نتائجها إلى أن مُحاولة أولى لتدجين الخيول جرت مُنذ نحو 5000 سنة، في سهول آسيا الوسطى، من قِبل الصيادين وجامعي الثمار من شعب بوتاي. واستهدفت بالأساس مُعالجة انحدار أعداد الخيول، وتوفير الغذاء للسُكَّان من الحليب واللحوم؛ إلاَّ أنها لم تُكلل بالنجاح.

ثم كانت مُحاولة التدجين الثانية في شمال جبال القوقاز مُنذ حوالي 4200 عام، حيث تمكَّن الإنسان من استئناس الخيول البريَّة وترويضها للركوب والنقل والجر. وسُرعان ما انتشرت هذه الخيول المُستأنسة في عموم آسيا وشرق أوروبا.

ووفقًا لنتائج أفضت إليها دراسة علميَّة دوليَّة مُوسَّعة، شارك فيها 133 باحثًا من 113 مؤسسة حول العالم، ونُشرت في مجلة “نيتشر” في 6 يونيو 2024م، فإن “ظهور تقنيات التربية المُحسَّنة، آنذاك، أسهمت في تعزيز القُدرة السنوية لإنتاج الخيول بشكل كبير، وهو ما ساعد على انتشار الخيول المحليَّة كالنار في الهشيم، في جميع المناطق الأوراسية”. يقول عالم الآثار الجزيئي ومدير مركز الأنثروبولوجيا وعلم الجينوم في جامعة تولوز الثالثة، لودوفيك أورلاندو: “هناك كثير من سُلالات الدم التي تراها حولك، ولكن مُنذ 4200 عام، أصبحت سُلالة الدم التي كانت تقع شمال سلسلة جبال القوقاز عالمية”. ويُضيف: “أن سُرعة الانتشار تُشير إلى أن الناس استأنسوا الخيول، مع وضع القُدرة على الحركة في الاعتبار. لقد أصبحت ظهور الخيل المُستأنسة أقوى ومزاجها أهدأ، وهو ما جعلها مثاليةً للركوب وحمل الأثقال”.

وباستمرار عمليَّات التدجين والتهجين، انبثقت ثلاث مجموعات رئيسة، وهي: الخيول ذات الدم الحار، والخيول ذات الدم الدافئ، والخيول ذات الدم البارد. ومن هذه المجموعات ظهرت مئات السلالات التي وُضِعت ضمن تصنيفات مُتعددة. وقد بدأ الفنانون، آنذاك، في تصوير العربات التي تجرها الخيول، والفرسان الذين يستعرضون مهاراتهم بالركض والمُبارزة على ظهور الخيل. ومن الأعمال الفنية المعبّرة عن ذلك المنحوتة الحجرية التي يعود تاريخها إلى 3300 عام، في مقبرة “حور محب” بمصر، وكذلك بعض المنحوتات التاريخية التي يحتفظ بها الآن متحف سيفيكو الأثري في بولونيا.

الخيول تُغيِّر مسارات التاريخ والحضارة

كان لاستئناس الخيول تأثيرات شديدة الأهمية في تغيير مجرى تاريخ البشرية. ولكن قبل ذلك كان بمنزلة حِصن الأمان والحماية لها من الانقراض في البريَّة. إذ تحوَّلت نظرة البشر إلى الخيول من مُجرَّد فريسة ليس لها سوى الصيد إلى رفيقة وصديقة في إطار من المنفعة المُتبادلة. وفي هذا السياق، تقول عالمة الأحياء الأثرية ومديرة متحف كارنيجي للتاريخ الطبيعي في أمريكا، ساندرا أولسن: “عندما توقَّف البشر عن صيد الخيول البرية، بدؤوا في الاحتفاظ بها، وتوفير الطعام لها، وتربيتها في قُطعان كالمواشي، ومن ثَمَّ الحِفاظ على نسلها”.

وعبر التاريخ، قدَّمت الخيول للبشر خدمات لا حصر لها؛ فكان لها دور كبير في توسيع العُمران، ونشوء مُدن ومُجتمعات حضارية جديدة. لقد صارت وسيلة السفر المُيسَّرة والمُفضَّلة إلى مسافات بعيدة. كما نقلت البريد، وساعدت بشكل كبير ومؤثر في انتشار اللغات والتواصل بين الثقافات المُختلفة.

وأشارت مجلة “نيتشر” العلميـة في عددها الصادر في أكتوبر 2021م، إلى أن توسُّع عائلة اللغات الهندو أوروبية، من سهول غرب أوراسيا، ارتبط تقليديًا بالرعي على ظهور الخيل. وأن انتشار “عربات الخيول والسُلالات المُحسَّنة، غيّرت أحوال مُجتمعات العصر البرونزي الأوراسي عالميًا في غضون بضعة قرون بعد عام 2000 قبل الميلاد تقريبًا”.

وامتدت خدمات الخيول إلى تعزيز الأعمال الفلاحية، من حرث وزرع وحصاد. ودعَّمت أنشطة الرعي والصيد، بتعقُّب الماشية في مراعيها وتتبُّع الطرائد. وأسهمت في توسيع نطاق التجارة بالسِلع والخدمات، وتنمية الاقتصاديات ذات الصِلة.

وظلَّت العربات التي تجرُّها الخيول، والتي كان الظهور الأوَّل لها في منطقة الأورال ما بين عام 2000 و1800 قبل الميلاد، وسيلة النقل الجماعي قرونًا طويلة في آسيا وأوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، ثم انتقلت إلى العالم الجديد إبان فترة الاكتشافات الجُغرافية. وفي أواخر القرن التاسع عشر، أُحصي في الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر من 100 ألف حصان وبغل تعمل على خطوط عربات النقل الجماعي في المُدن. وأسهمت الخيول الثقيلة، المعنيَّة بالمهام الشاقة، بدور كبير في بناء السكك الحديدية؛ حيث كان يُعوَّل عليها في حمل الأربطة والقضبان والإمدادات والخامات والتُربة المُستخرَجة من أنفاق الجبال.

وللخيول دور فاعل في عديد من الحروب عبر التاريخ، حيث كان سلاح الفرسان هو السلاح الأهم والأقوى في الجيوش. وفي هذا الصدد، تقول د. أولسن: “لقد أثبتت فرق الفرسان، أو المجموعات التي يمتطي جنودها ظهور الخيل، أنها أقوى بكثير من الجيوش التي تسير على الأقدام. وكانت سببًا رئيسًا في بناء إمبراطوريات كبيرة، كما في عهود الإسكندر الأكبر وأتيلا الهوني وجنكيز خان، وغيرهم”.

إن رحلة الخيول من الجموح في البريَّة إلى الاستئناس والترويض، رحلة طويلة مفعمة بالحيوية والتأثير الكبير في تاريخ البشرية. وعلى الرغم من انحسار أدوارها التقليدية، نتيجة التوسُّع في استخدام البدائل الآلية، فإن مهابتها وصداقتها الوطيدة مع البشر تظل قائمة. إنها تبثُّ في النفس الشعور بالعِزة والقوَّة، وما أدل على ذلك من سباقات الفروسية التي تحظى بالمكانة العالميَّة. وكذلك الاستعانة بها في فضِّ أعمال الشغب، وإنفاذ القانون، واستتباب الأمن المُجتمعي. وأيضًا وجودها بأناقة في الأنشطة السياحية والترفيهية، وبرامج ركوب الخيل العلاجية. وفي قاموس المعاني السامية بكُل لغات العالم، ترتبط الخيول بالشرف والكرامة والشهامة ونُبل الأخلاق.


مقالات ذات صلة

تُخفي لوحة “ليلة النجوم” في تحفة فينسنت فان جوخ، رؤية علمية لم تُكتشف منذ عام 1889م، وحتى وقت قريب. إذ إنها تثير الآن اهتمام العلماء وليس نقاد الفن فقط.

تُعتبر “المُركَّبات الباقية إلى الأبد” من أخطر المشكلات الصحية المعاصرة، الناتجة عن مبيدات الآفات الزراعية. بينما يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لمواجهة هذه المخاطر..

أحدثت تقنيات تحرير الجينات، مثل “كريسبر كاس 9″، ثورة في علم الأحياء والطب، حيث فتحت آفاقًا لعلاج الأمراض المستعصية بكفاءة وبتكلفة منخفضة. لكن هذا التقدم يثير تحديات أخلاقية، خاصة فيما يتعلق بتحرير “خلايا الخط الجنسي” وتأثيراتها الاجتماعية. لذا، من الضروري الموازنة بين الطموحات العلمية والاعتبارات الأخلاقية لضمان مستقبل مسؤول للبشرية.


0 تعليقات على “كيف غـيَّرت الخيول مجرى التاريخ؟”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *