١- الغزاة والحكام والتجار
الحصان وصعود الإمبراطوريات
Raiders, Rulers, and Traders: The Horse and the Rise of Empires by David Chaffetz
تأليف: ديفيد شافيتز
الناشر: 2024م، W. W. Norton & Company
2- ضربات الحوافر
كيف شكَّلت الخيول التاريخ البشري؟
Hoof Beats: How Horses Shaped Human History by William T. Taylor
تأليف: وليم ت. تايلور
الناشر: 2024م، University of California Press
قد يكون الكلب أفضل صديق للإنسان، لكن الحصان هو بالتأكيد أعظم حليف له. إذ إن قوة الخيول، بالإضافة إلى مميزاتها البدنية الحسية الفريدة، قد غيّرت مسار التاريـخ، وأسهمت في تطوير المجتمعات البشرية. وقد صدر كتابان، مؤخرًا، يُسلِّطان الضوء على هذا التحالف القوي والعاطفي بين الخيل والإنسان. وبينما يأخذ كتاب “الغزاة والحكام والتجار” للمؤرخ المتخصص في التاريخ الآسيوي ديفيد شافيتز، القارئ في رحلة سريعة عبر تاريخ الحضارات، ويكشف عن الدور المركزي للخيول في الثقافة والتجارة والحروب والغزوات، يُعيد كتاب “ضربات الحوافر” لمؤلفة المتخصص في علم الآثار الحيواني ويليام تايلور، النظر في القصة الملحمية لأهم شريك للبشرية، فينسج قصة جديدة شاملة لحضور الخيل في الحضارة، مدعومةً بأحدث الاكتشافات العلمية؛ لتحُلَّ مكان القصة القديمة التي كانت تُروى على مدى آلاف السنين على شكل أجزاء، كان الكثير منها مشبعًا بالأساطير والرومانسية.
“لم يكن لأي حيوان تأثير عميق في التاريخ البشري مثلما كان للحصان”، هكذا كتب المؤرخ شافيتز في كتابه الذي يتتبع فيه أربعة آلاف عام من التاريخ؛ ليقدِّم تحليلًا مفصَّلًا لدور الخيول في تطوير الإمبراطوريات العظيمة. وأكثر ما يركز على الإمبراطوريات التي نشأت عبر السهوب الأوراسية الواســعة، وهي المنطقة الواقعة بين الشرق والغرب، التي كانت تُعدُّ محورًا للأحـداث في القرون الماضية، بحسب شافيتز. فعلى الرغم من أن سهول أوراسيا لم تكن تضم سوى جزء ضئيل من سكان الحضارات الزراعية العظيمة التي كانت موجودة في الصين والهند وإيران، فإنها كانت تمتلك نصف خيول العالم.
من خلال قراءة قرون من الأدب الأوراسي، يزعم شافيتز أن حليب الخيل هو العامل الذي “تبدأ معه قصة التشابك البشري مع الخيول”. فمع بدء سكان السهوب المنغولية في العصر البرونزي في تربية الخيول للحصول على اللحوم، أحبَّ الرعاة حليب الفرس المخمر المسمَّى “الكوميس”. وساد الاعتقاد أن هذا الحليب يحتوي على “هرمـون الحب”، الذي أدى، وفقًا للفرضية، إلى خلق نوع من التبادل الكيميائي الذي جعل الحصان أقلَّ عدوانية تجاه الإنسان، وهو ما مهَّد الطريق لعلاقة وثيقة بينهما. ومع الوقت تعمقت العلاقة، وقادت الخيـول الرعاة إلى سهول أوراسيا، فربطت ما يُعرف الآن بأوروبا الشرقية بالصين والهند. ومع وجود ظروف المراعي المناسبة، نمت أعداد الخيول بسرعة. حتى إن جنكيز خان، القائد المغولي الشهير، استطاع أن يحشد عشرة ملايين حصـان في ذروة إمبراطوريته؛ أي ما يعادل نصف إجمالي عدد الخيول في العالم. وبفضل هذه الأعداد الهائلة من الخيول، استطاع أحفاده من السيطرة على %16 من مساحة اليابسة على وجه الأرض.
وكل ذلك جعل من الخيول مصدرًا للثروة ومحركًا للتجارة، حتى إن شافيتز عدَّ أن “طريق الحرير” كان ينبغي أن يُطلق عليه في واقع الأمر “طريق الخيول”؛ لأن الخيول كانت تمثِّل السلعة الاستراتيجية الحقيقية آنذاك.
والجدير بالذكر أن شافيتز اعتمد بشكل كبير على الأبحاث الحديثة في علم الوراثة والآثار والنصوص التاريخية، وهو ما وفَّر أساسًا علميًا قويًا لكل ما استعرضه في كتابه، تمامًا كما فعل تايلور في كتابه “ضربات الحوافر” الذي سعى فيه للبحث عن متى وأين قام البشر بتدجين الخيول، فعمل على تلخيص التقارير عن الحفريات الأثرية والحمض النووي المرافق لها، وتأريخ الكربون، ودراسات النمذجة ثلاثية الأبعاد التي تفحص علامات الإجهاد في العمود الفقري للخيول والفك وبنية الأسنان، وهي مؤشرات للاختراقات التكنولوجية التي أعطت معلومات مثيرة عن علاقة البشر بالخيول.
يستكشف ويليام تايلور التطوُّر المبكر للخيول، ويبدأ من طريقة غذائها ويتساءل: كيف يمكن لكائن حي كبير أن يعيش على نظام غذائي من النباتات الرقيقة والصلبة التي تشبه “الشفرات”؟ ليُجيب أن ذلك يعود إلى شكل أسنانها وكثرة عددها التي تعطي الخيول القدرة على المضغ، بل والطحن أيضًا. ومن ثَمَّ، ينتقل للحديث عن قدرة الخيول على التواصل الاجتماعي، التي من المحتمل أن تكون قد مكَّنتها من التنقُّل بأمـان عبر تقلُّبات المناخ العالمي في “حقبة الحياة الحديثة”، وهي الحقبة الثالثة والأخيرة من الحقب الجيولوجية الثلاث لدهر البشائر، التي امتدت من 66 مليون سنة مضت حتى الوقت الحاضر. ويضيف أن الخيول تتمتع بوعي اجتماعي متطور، حتى إنها تستطيـع أن تتنصت على التفاعلات بين الخيول الأخرى داخل مجموعتها.
كان البشر الأوائل اجتماعيين أيضًا، حيث كانوا يتجمعون معًا لنصب الأفخاخ للخيـول في الوديـان، ودفعها إلى الشواطئ وقتلها. كانت هذه الخيول الأُوليات تنمو إلى ارتفاع أربع أقـدام تقريبًا، وقد تعرَّف عليها البشر، وفقًا لتقديرات تايلور، في إفريقيا أو ربَّما في جزء من السهوب الأوراسية التي تُعرف اليوم بجورجيا. قبل هذا الوقت، كانت الخيول موجودة أيضًا في أمريكا الشمالية، وقد أكَّد كثير من التقاليد الأصلية في أمريكا الشمالية وجود الخيول في القارة منذ فترة طويلة، وهو ما أيَّده العلم الحديث من خلال التعاون المثمر مع العلماء الأصليين.
ما يُشير إليه هذان الكتابان هو أن الخيول قد غيَّرت فعلًا مجرى التاريخ البشري، وهي التي كانت قد عُدَّت على مدى قرون من الأصول الاستراتيجية التي لا تقل أهمية عن النفط في القرن العشرين. ومن الدروس المستفادة من هذا التـاريخ المثير للاهتمام، أن مصادر القوة العسكرية التي نعدُّها أمرًا مسلمًا به، مثل الخيول في الماضي والطائرات الآن، وربَّما الطائرات من دون طيار والذكاء الاصطناعي في المستقبل، يمكن أن تفقد أهميتها فجأة وتندثر في حسابات القوة والسلطة والنفوذ.
اترك تعليقاً