مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو - يونيو | 2025

كنوز التنوع الحيوي على سواحل الخليج العربي

جزيرة أبو علي: محمية طبيعية تجسّد التوازن بين التنمية والحفاظ على البيئة

محمد الصالح

تعدّ المحميات الطبيعية أحد الركائز الأساسية لحفظ التنوع الحيوي ودعم صحة النظم البيئية. وبالرغم من جمالها الطبيعي الآسر، فإن القيمة الحقيقية لهذه المحميات تتجاوز كونها مواقع للتنزه أو التصوير؛ إذ تشكّل ملاذًا للكائنات الحية، وتساعد في الحفاظ على توازن النظم البيئية، وتحدّ من التدهور البيئي الناتج عن الأنشطة البشرية. في المملكة العربية السعودية، تبرز سلسلة من المحميات التي تمثل نحو %16 من مساحة البلاد، وتغطي تنوعًا جغرافيًا وبيئيًا واسعًا. من بين هذه الكنوز البيئية، تبرز محمية جزيرة أبو علي الواقعة على سواحل الخليج العربي شمال مدينة الجبيل، كنموذج فريد لنجاح الجهود الوطنية في حماية التنوع الحيوي، بالتكامل مع مبادرات التنمية المستدامة. 

المحميات الطبيعية 

تُعتبر المحميات الطبيعية من أهم الوسائل التي تعتمد عليها الدول للحفاظ على تنوعها البيئي ومواردها الحيوية. فهي توفر بيئة آمنة لتكاثر الكائنات الحية، وتُسهم في استعادة الغطاء النباتي وتعزيز جودة الهواء وامتصاص الكربون. 

ولا تقتصر أدوار المحميات الطبيعية على حفظ التوازن البيئي فحسب، بل تمتد إلى الجوانب الاجتماعية والصحية، بوصفها فضاءات تعزّز صلة الإنسان بالطبيعة، وتمنحه متنفسًا نفسيًا وجماليًا، كما تعد من أهم روافد الإلهام. 

من بين هذه المحميات تبرز جزيرة أبو علي الواقعة شمال مدينة الجبيل الصناعية، كإحدى الجواهر البيئية على سواحل المملكة. فقد خُصصت منذ عام 2014 تحت إشراف أرامكو السعودية لحماية التنوع الحيوي، وتبلغ مساحتها نحو 120 كيلومترًا مربعًا، مما يجعلها من أكبر الجزر المطلة على الخليج العربي.  

في جزيرة أبو علي، تتجلّى أهمية “الإشراف البيئي”، نظرًا لكونها نموذجًا حيويًا لحماية الموائل الطبيعية للأنواع النباتية والحيوانية، لا سيما الأنواع المحلية المهددة بانخفاض أعدادها. وقد أظهرت دراسة نُشرت عام 2024م في مجلة “الأرصاد الجوية التطبيقية وعلم المناخ” التأثير المباشر لارتفاع درجات حرارة سطح الأرض على النظم البيئية، بما في ذلك غابات المانغروف. وبيَّنت أن البيئات الساحلية والمسطحات المالحة تعد من النظم الأكثر عرضة للتأثر، لا سيما عند انخفاض الغطاء النباتي، وذلك يعزز من أهمية تخصيص محميات طبيعية لدعم النظم البيئية وحماية الكائنات المحلية والمهاجرة.  

في هذا السياق تتميّز جزيرة أبو علي، بما تضمنته من شواطئ هادئة وغطاء نباتي ساحلي، بوصفها موقعًا ذا أهمية بيئية على مستوى الخليج العربي. إذ تُسهم هذه البيئة في احتضان كائنات بحرية مثل السلاحف البحرية، التي تعتمد على حرارة الرمال وتوازنها الطبيعي في مواسم التعشيش. وتُصنَّف السلاحف الخضراء وسلاحف منقار الصقر – التي وُثِّق نشاطها التكاثري على شواطئ الجزيرة – ضمن الكائنات المهددة بالانقراض حسب تصنيف الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة، مما يعزّز من قيمة الجزيرة البيئية ويدعم الحاجة إلى حماية سواحلها باعتبارها خطوطًا أولى في مواجهة آثار التغير المناخي. 

أرامكو السعودية والإشراف البيئي 

ضمن نهجها الاستراتيجي لتحقيق التوازن بين التنمية والحفاظ على البيئة، تتبنى أرامكو السعودية مفهوم “الإشراف البيئي”، الذي يركّز على خفض انبعاثات الكربون، وتعزيز الاقتصاد الدائري، وحماية التنوع الحيوي. ويشمل هذا النهج إعادة تأهيل البيئات المتدهورة ودعم قدرة النظم البيئية على الصمود والتجدد. ومن أبرز تطبيقات هذا النهج تخصيص مناطق ذات قيمة بيئية عالية، مثل جزيرة أبو علي، كنموذج حيّ يُجسّد أفضل الممارسات البيئية، عبر آليات علمية متقدمة وخطط طويلة الأمد وتعاون مستمر مع المؤسسات الوطنية ذات العلاقة. 

القيمة البيئية لمحمية جزيرة أبو علي 

تتميّز جزيرة أبو علي بتنوعها الجغرافي والبيئي، حيث تحتوي على الكثبان الرملية الساحلية، والسهول الملحية (السبخات)،       والمسطحات الطينية، والمستنقعات المالحة، وتزدهر على أطرافها الشرقية غابات المانغروف، مما يجعل منها نموذجًا فريدًا للنظم البيئية الساحلية في المنطقة. بين اليابسة والبحر، تتجلّى في جزيرة أبو علي لوحةٌ بيئية فريدة نابضة بالحياة. فمحمية الجزيرة تتجاوز اليابسة لتمتد بسلاسة إلى نطاقها البحري، مشكّلة منظومة مترابطة ومتداخلة من النظم البيئية الساحلية. وتتميَّز غابات المانغروف في قلب هذه المنظومة بوصفها رئة بيئية نابضة بالحياة، وتتجلى كعنصر نباتي استثنائي يربط بين اليابسة والبحر، حيث تنمو في البيئات الشاطئية الرطبة والمستنقعات المالحة، ولها قدرة فريدة على التكيف مع الملوحة العالية والمد والجزر. وتقوم المانغروف بقائمةٌ رائعةٌ من المهام مثل تنقية المياه المالحة، وتوفير موائلَ للأنواع البحرية، وحاضناتٍ للأسماك. كما تعتمد جذورها الكثيفة على المد والجزر للتنفس، وهي أساسيةٌ في استقرار السواحل، ومنع التآكل الناجم عن الأمواج والعواصف، والحدّ من الأضرار الساحلية. ويمكن لزائري الجزيرة الوقوف على صور شتى من التناغم الطبيعي، إذ تحوم اليعاسيب المزخرفة برقة كطائرات الهليكوبتر فوق غابة المانغروف الساحرة في جزيرة أبو علي، وبين الجذور، تختبئ السرطانات بحذر، وتبني العناكب أعشاشها بدقة فنية، وتنبت الشتلات لاستمرار الحياة. 

بالإضافة إلى ذلك، تمثل الجزيرة محطة حيوية للطيور المهاجرة، مثل: طيور “الغاق السقرطي” و”الوروار الأوروبي” و”خطاف المخازن” و”القبرة المتوجة” و”طيطوي المستنقع”، وتجد هذه الطيور المهاجرة في الجزيرة وسبخاتها ومستنقعاتها بيئة مثالية ومأوىً للراحة والتغذية، قبل أن تستأنف رحلتها عبر القارات. وقد أظهرت المسوحات أن الجزيرة تُعد من المواقع المهمة على خطوط هجرة الطيور، ذلك بفضل بيئتها الهادئة وغِناها الحيوي. 

نباتات محمية جزيرة أبو علي 

تملك جزيرة أبو علي غطاءً نباتيًا متنوعًا يعكس تفرّد بيئتها الساحلية وتنوّع موائلها الحيوية. فالجزيرة، التي يغلب عليها الطابع السبخي، تحتضن طيفًا واسعًا من المواطن النباتية التي تتباين في خصائصها وفقًا لطبيعة التربة ودرجة ملوحتها. فعلى الكثبان الرملية الساحلية تنمو نباتات مثل “لسان الحمل” و”الحنيطة”، مشكلةً بساطًا نباتيًّا خفيفًا تتوشح به أرض الجزيرة بلون الحياة. أما السبخات الرطبة المالحة، حيث تكتسب الأرض هشاشتها من المد والجزر، فتغمرها نباتات قادرة على الصمود، من أبرزها “الثليث المخروطي” و”السويداء المصرية” و”أشنان إكليل الجبل”، التي تُعدّ عوامل أساسية في تثبيت التربة ومقاومة الانجراف. 

ولا يكتمل الحديث عن التنوع النباتي في جزيرة أبو علي دون التوقف عند آلية توثيقه. حيث أجرت إدارة حماية البيئة في أرامكو السعودية مسحًا ميدانيًا دقيقًا لتوثيق الغطاء النباتي ما أتاح رسم خريطة بيئية دقيقة للجزيرة. وكانت نتائج المسح لافتة، إذ رُصد 32 نوعًا ينتمون إلى 14 عائلة نباتية، من بينها 7 أنواع حولية و24 نوعًا معمّرًا. بالإضافة الى أشجار المانغروف التي تنتشر على أطرافها الساحلية، فتبدو كجسر حيّ يصل اليابسة بالبحر. 

التنوع الحيواني
في محمية جزيرة أبو علي 

أظهرت نتائج المسوحات البيئية التي أُجريت في جزيرة أبو علي تنوعًا يعكس غِنى النظم البيئية فيها. وقد أجرت إدارة حماية البيئة في أرامكو السعودية مسحًا ميدانيًا دقيقًا لحصر الثدييات والزواحف، باستخدام آليات متنوعة شملت “الفحص البصري المباشر” و”تعقّب الآثار” و”فخ الكاميرا”، إلى جانب “المسح الليلي بالمصابيح اليدوية” لتتبُّع الأنواع النشطة بعد الغروب. وسمحت هذه المنهجية بتوثيق أنواع عديدة من الثدييات الصغيرة، من أبرزها “الثعلب الأحمر العربي” و”الجربوع” و”الفأر الأحمر” و”ابن آوى الذهبي”، التي تتوزع بين البيئات الرملية والسبخات الرطبة. 

كما رُصدت في الجزيرة عدة أنواع من الزواحف، من أبرزها “الورل الصحراوي” و”برص الصحراء العربية”، اللذان يستفيدان من حرارة الرمال وانبساط السهول في التكاثر والاحتماء، ما يعكس تنوّع البيئات البرية وملاءمتها لاحتياجات هذه الكائنات. وقد أشار تقرير المسح البيئي إلى أن تنوّع الغطاء الأرضي وتوزّع النباتات المحلية يوفّران لهذه الأنواع من الزواحف موائل طبيعية متكاملة تساعدها على الاستقرار والتكاثر. 

المانغروف: مشروع تنموي
وبيئي رائد  

تشكل غابات المانغروف على جزيرة أبو علي عنصرًا بيئيًا حيويًا. أظهرت الدراسات البيئية أن أشجار المانغروف قادرة على احتجاز كميات من الكربون تعادل خمسة أضعاف الغابات المدارية؛ مما يجعلها أحد أقوى أدوات “الكربون الأزرق”، أو الكربون المحتجز في البيئات الساحلية.  

 انطلقت جهود أرامكو السعودية في زراعة المانغروف على جزيرة أبو علي بإنشاء مشتلين أسهما في تكوين غابتين من هذه الأشجار الحيوية. وقد شكّلت هذه التجربة نقطة تحول دفعت الشركة إلى التوسع في جهود تنمية غابات المانغروف على الجزيرة، حتى تمكنت في عام 2020م من تحقيق رقم قياسي بزراعة مليوني شتلة على امتداد السواحل. 

وفي نوفمبر 2022م، دشّنت الشركة أحد أكبر مشاتل المانغروف في المنطقة بجزيرة أبو علي، بطاقة إنتاجية بلغت ثلاثة ملايين شتلة. ويتميز المشروع، فضلًا عن حجمه الضخم، بكفاءته التقنية وقدرته على إنتاج شتلات بتكلفة منخفضة، ذلك وفق جدول دقيق يُراعي توقيت كل موسم زراعي. وقد أنشئ هذا المشتل كمحطة مركزية لدعم حملات تشجير تمتد لسنوات، ضمن استراتيجية شاملة لاستعادة الموائل الساحلية وتحقيق التوازن البيئي. 

وقد أشارت ورقة تقنية أعدتها جمعية مهندسي البترول (SPE International) وعرضت في مؤتمر أديبك عام 2023 إلى أن هذا المشروع لا يدعم التنوع النباتي فحسب، بل يسهم أيضًا في تعزيز الأمن الغذائي من خلال توفير بيئات طبيعية حاضنة للأسماك والروبيان، وجذب الطيور والكائنات البحرية الأخرى. 

مفرخة الأسماك المتوقع أن تكون الأكبر على ساحل الخليج العربي 

ضمن جهود أرامكو السعودية لتعزيز النظم البيئية البحرية، تعمل الشركة على إنشاء مفرخة للأسماك في جزيرة أبو علي، تستهدف أنواعًا محلية أخذت أعدادها في التناقص، من بينها الهامور والسبيطي، مما يشكل رافدًا مهمًا لتعزيز المخزون السمكي في الخليج العربي. 

وستعتمد المفرخة على تقنية الاستزراع السمكي الدائري (RAS)، وهو نظام مغلق متقدم يقلّل من استهلاك المياه مقارنةً بالطرق التقليدية. ويبدأ مسار الإنتاج بتربية الأسماك الأم التي تُجمع من البيئة البحرية وتخضع للحجر الصحي والمراقبة، ثم تمر بسبع مراحل تشمل حضانة البيض، وتربية اليرقات، وتغذيتها بكائنات دقيقة مثل “الروتيفر” و”الأرتيميا”، قبل أن تُطلق الزريعات السمكية في بحيرة اصطناعية متصلة بالخليج، مما يسهم في توفير بيئة آمنة تحاكي المواطن الطبيعية. 

لا يقتصر المشروع على إنتاج الأسماك فحسب، بل يسهم في استعادة التوازن البيئي ودعم الأمن الغذائي، مما يعكس جهود أرامكو السعودية بتطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري من خلال إدارة الموارد بكفاءة. 


مقالات ذات صلة

الإطارات الجزء الوحيد من السيارة الذي يتصل مباشرة بالطريق، بقيت على وضعها التقليدي لأكثر من قرن دون تغيير يستحق الذكر، إلى أن برزت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أنظمة حديثة. 

لماذا هناك بلدان متقدمة وبلدان أخرى غير متقدمة؟ لماذا يكسب الفرد في أغنى عشر دول في العالم 158 مرة أكثر مما يكسبه الفرد في أفقر عشر دول، وفق شعبة الإحصاء في الأمم المتحدة عام 2023م؟

يشكِّل ذوو الاحتياجات الخاصة 15% من السكان حول العالم، من بينهم نحو 250 مليون طفل. وهذه النسبة في تزايد مستمر نتيجة عوامل عديدة مستجدة في عصرنا، ويعاني الأغلبية منهم من الإهمال على مستوى العالم.


0 تعليقات على “كنوز التنوع الحيوي على سواحل الخليج العربي”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *