مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو - أغسطس 2023

كلمة القافلة

في الترك شفاء


فريق القافلة

باختيار “المتروكات” موضوعًا لملف هذا العدد، كان لا بُد للعدسة أن تركن شيئًا قليلًا إلى جانب “الأشياء” من المعادلة. لكن لعل الفكرة في أصلها كانت بإلهام من واقع حياتنا اليومي الحافل بتركنا نحن البشر للأشياء؛ لا لشيء سوى الانبهار ببريق الجديد الخاطف. 

فعلى الجانب المقابل من “المتروكات” نجد أنفسنا في موقف “التارك”، والفاصل بين الجانبين هو فعل الترك في حدّ نفسه. وهناك سؤال جوهري قد نصل إليه بشيء من التأمل: لماذا نترك الأشياء؟ بطبيعة الحال يقفز إلى الجواب “تركٌ لا بُد منه” يجعل هذا الفعل في دائرة الإجبار لا الاختيار. في هذه الدائرة يمكن النظر مثلًا إلى مفهوم “الترِكة”، التي يخلِّفها الإنسان قهرًا بعد فنائه، ولعلّه لو أمهلته الفرص ثانية واحدة لتشبّث بها فما تركها لغيره! 

لكن الترك “الحيَّ” الذي نعيشه يوميًا جديرٌ بالتأمل أيضًا. ربما نظّن أننا نترك الأشياء استغناء عنها، فالحياة التي نعيشها اليوم مليئة بالأشياء الجديدة، التي تُغني عن أخرى قديمة تشبهها. وهذا الأمر قد يبرز في مجال التقنية على وجه الخصوص، فما إن تظهر تقنية جديدة حتى تصرع وراءها “كومة” من التقنيات القديمة التي لا محلّ لها من الإعراب. 

لكن هذا الغنى الظاهري هو في جوهره افتقار متبدِّل الصورة، فغاية الأمر أننا ندع شيئًا لنتمسك بآخر يُشبهه، وأما حاجتنا، واقعية كانت أم متكلَّفة، فهي باقية كما هي، بل ربما صاحبها ما هو أسوأ منها من إدمان الجديد أو الولع بالتغيير لمجرّد التغيير، وهي حالة قد تتحوّل في بعض أحوالها إلى مرض حقيقي مزمن يصعب الخلاص منه. 

إن الأمر في حقيقته قد يُشبه انبهار طفل بدُميته الجديدة، لا لأنها أحسن من تلك التي تركها، بل لأنها جديدة وحسب. والمشكلة أنها حلقة مُفرغة تدور حول نفسها، وهذا الأمر بالتحديد هو رهان اقتصادي رابح يلعب على أوتار النفس البشرية ليسوِّق لها بضاعته تحت وهم “الجديد”؛ و”الموديلات” السنوية وعالم الموضة حافلة بالأمثلة التي تُغني الإشارة إليها عن التفصيل. لكن المُدهش في الأمر هو تلك القدرة البشرية “الجدلية” على إيهام الغير، والنفس أيضًا بما تهواه، وتبرير ذلك وتلبيسه بشتى الأسباب “المُقنعة” التي يصعب نقض غزلها. 

نحن إذًا، أو لنقل بعضنا، لسنا بـ “تاركين” من موطن قوة، بل من هوّة ضعف تُطلّ علينا في قعرها أشكال المغريات والحِيَل والأنماط الحياتية التي تتشكّل وتترسّخ في المجتمع فتُحكم سُلطتها علينا نحن الأفراد. وربما من صِدق هذا الإدراك انطلقت تيارات التقليليّة “minimalism”؛ بحثًا عن “ترك” حقيقي يُشعرنا بغنى النفس الذي هو في جوهره القناعة التي لا تفنى. 

الملاحظ أن تلك التيارات “التقليليّة”، التي تتصاعد أصواتها في الغرب، تتأثر في أفكارها وتقتبس وتتقاطع مع أفكار شرقية مُعرقة في القِدم، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر مفهوم “الزهد” الحاضر بوضوح في ثقافتنا الإسلامية، مع الإشارة إلى الاختلافات بين المفاهيم الشرقية والغربية، التي قد تكون جوهرية في المنطلقات والأهداف. لكن التحدي الذي يقابل رواج معظم تلك الأفكار “التقليليّة” من الناحية العملية يكمن في صعوبة التطبيق، فمن يسبح وسط التيّار قد يتعذّر عليه مقاومته. ولهذا نجد أن كثيرًا من الذين يسعون إلى تبني مثل تلك الأفكار قد ينتهي بهم الأمر إلى نوع من أنواع العُزلة التي تجعل من الترك أمرًا ممكنًا دون أن يضيق بك الفضاء. 

لكن، لعلّ هناك حدًّا متاحًا من الترك يمكن أن نصطلح على تسميته بـ”ترك الاستشفاء”، وهو خيار ربما كان مفيدًا بل ضروريًا في الصمود أمام أعاصير التغيرات التي تعصف بحياتنا، ولا سيما اجتياح التقنية وفقاعاتها الجديدة التي تنفجر فيها كل يوم. هذا النوع من الترك، المؤقت أو الجزئي أو ضيق النطاق، وبما يسمح للإنسان أن يمارس حياته دون عزلة تقذف به خارج دائرة المألوف البشري، ربما كان علاجًا ناجعًا نتوازن به ونستشفي لأرواحنا المنهكة من حالات الإدمان والإرهاق والإرباك التي تساورها وهي في خضمّ مخاطر العالم الرقمي. 

التخلّي عن الهاتف الجوّال يومًا أو بعض يوم، أو الإعراض عن “هبّة” جديدة مفتعلة في عالم التواصل الاجتماعي، أو التفويت المؤقت لجديد أخبار العالم التي لا تنفكّ تهدِّدنا بمستقبل غامض، ربما كانت “تُروكًا” نافعة للروح تسكن إليها فتطمئن بها. بالطبع حتى هذه التروك المحدودة ربما لا تكون خيارًا مُتاحًا لكلّ أحد، فلكل ظروفه وأسبابه ورغباته، لكن مدار الفكرة هي أن “في الترك راحة” كما قيل. 


مقالات ذات صلة

أكثر من ثمانية مليارات إنسان يعيشون على هذه الأرض. وأضعاف هذا الرقم هو عدد المرايا الرقمية التي باتت تحاصرنا بما يشبهنا من نسخ. لا غرابة إذًا أن يكون التفرُّد حلمًا بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى؛ التفرُّد بمعنى أن تكون نسخة واحدة لا يُشبهها شيء. غير أن السعي نحو ذلك الحلم ضمير مشترك بيننا، […]

في منتصف التسعينيات الميلادية، كتبتُ عن طليعية التحديث المبكرة للتجربة الشعرية النبطية المجددة للشاعر الراحل الحاضر الأمير بدر بن عبدالمحسن، رحمه الله، وذلك عبر مقال من سلسلة مقالاتي “قراءة ذاتية لتيار جماعي” المتبادلة مع الشاعر علي الدميني. وقد تكون هذه أحد الأسباب، التي حدت بمجلة القافلة أن تطلب مني المشاركة بمقال عن تجربته الشعرية، حرصًا […]

الحديث عن الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن ليس ببعيد عن البحث عن لغة مختلفة يمكن أن تصفه أو تصف تجربته الشعرية المختلفة، بكل ما للكلمة من معنى. لكن الحديث في نهاية الأمر أصبح واجبًا في غمرة الحزن الذي انتابنا برحيله، باللغة التي نراها أقرب إلى ملامسة ما أمكن من أطراف تجربته المتفردة. رسم: عمر صُبير […]


0 تعليقات على “في الترك شفاء”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *