يعكس الأدب التوترات ويستكشف الأعماق النفسية والروحية للشخصيات، ويضع القارئ أمام الأسئلة الفلسفية والأخلاقية. ولكي يفعل ذلك، فهو بحاجة إلى مماثلة الواقع ومحاكاته، ومن بين مظاهر هذه المماثلة ظهور الحيوانات في السَّرد والشعر. فيظهر الحيوان في الشعر بوصفه استعارة، لإضفاء صفات معينة على الممدوح. وفي القصص الشعبي والكلاسيكي، يمكن أن ينبني الأساس السَّردي في معظمه على الحيوان كما في “كليلة ودمنة”، الكتاب الهندي الفارسي العربي، وكذلك في الأدب الحديث كما في “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل. ويهوى أدب الأطفال تقديم الاستعارة الحيوانية من أجل التعليم والإدهاش، بينما تنطوي قصص الحيوان للكبار على أبعاد إضافية من بينها السخرية.
بعيدًا عن الحالات الخاصة التي يستأثر فيها الحيوان بالسَّرد، يندر أن تخلو رواية من حيوان يظهر بأدواره وصورته المعروفة. فنرى علاقة الصداقة والتبعية بين الكلب والإنسان، وعلاقة الرفقة والمنفعة مع الخيل والإبل، بينما يتفرد القِطُّ بحضور مليء بالتوتر والخوف في الغالب. ولم تأتِ هذه الصورة من فراغ، بل يفرضها وفاء الكاتب والقارئ لصورة القِطِّ في المخيلة البشرية منذ التاريخ السحيق.
والطريف أن معتقدات الشعوب تتباين حول كثير من الحيوانات والطيور. فعلى سبيل المثال، تُعدُّ البومة أو الغراب شؤمًا في مكان، وتُعدُّ فأل خير في مكان آخر، بينما تبدو المعتقدات بشأن القِطِّ موحدة، وتتعلق بخبثه وشراسته وأرواحه السبع التي تباعد بينه وبين الموت السهل!
في الأصل والفصل
ينتمي القِطُّ إلى فصيلة السِّنَّوريات التي تشمل النمور. ووفقًا لعلماء الأحياء، تطورت القطط عن “الماسيدات” قبل نحو ثلاثين مليون عام، وكان “برواليوس” أحد أقدم هذه الحيوانات، حيث بلغ وزنه حوالي تسعة كيلوغرامات، كما ذكرت كاثرين روجرز في كتابها “القطة.. التاريخ الطبيعي والثقافي – ترجمة ريم أحمد الذوادي”.
وعاش القِطُّ تاريخًا طويلًا من الوحشية، وتأخر دخوله إلى المنازل إلى نحو 1450 قبل الميلاد، بحسب رسوم على جدران المقابر المصرية تمثّل قططًا مستأنسة، جالسة تحت الأثاث. وفي المنظومة الدينية الفرعونية كانت القطة رمز الإلهة الوثنية باستيت، وربَّما يعود إلى هذا الاسم بعض التسميات الشعبية “البس” و “البسينة”. ويضم المتحف المصري بتورينو أفضل مجموعة من مومياوات القطط.
بعد أن دخل القِطُّ إلى البيت ظل مختلفًا تمامًا عن الكلب. ويعرف هواة النوعين أن الكلب ينظر إلى مربيه بوصفه سيدًا مطاعًا، بينما يرى القِطُّ نفسه السيد والمالك، الذي يتلطف مع الإنسان الذي يشاركه بيته!

في السَّرد العربي الحديث، يبتعد القِطُّ عن مساحة الأمثولة باتجاه القوى الأسطورية والخرافة والغموض
تستند “أسطورية” القِطِّ إلى شيء من العلم؛ إذ إنه يتمتع بقدرات خاصة به، فهو يستطيع الرؤية تحت سُدس كمية الضوء التي يحتاج إليها الإنسان ليرى. وبفضل القرنية المنحنية وحدقة العين الرأسية يمكن لبؤبؤ عين القِطِّ أن يتسع من 135 إلى 300 مرة بخلاف قدرة بؤبؤ عين الإنسان التي تتسع إلى 15 مرة فحسب، كما أن مجال رؤيته المحيطية يصل إلى 200 درجة بخلاف رؤية الإنسان التي تنحصر في زاوية مقدارها 120 درجة.
هكذا تضافرت الأساطير القديمة مع العلم في رسم صورة القِطِّ في الوجدان، إضافة إلى خصال الخداع والسادية؛ لأن القط يتسلل خلف الفريسة، ولا يصطاد ليأكل، بل ليتلذَّذ برعب الضحية.
من كل هذه العوامل استقرَّت صورة القطط في المخيلة البشرية، وصارت صفاتها وقواها الخارقة مجالًا واسعًا أمام المبدعين للترميز والتجسيد.
قطط العرب.. منذ العصر الأموي
مع مظاهر الحياة المدنية في العصر الأموي فالعباسي ظهر القط (السِّنَّوْر) في النص العربي. فنلمس هذا الحضور في كتاب “الحيوان” للجاحظ الذي عدّد خصال السنور، وذكر استلهامه في الشعر، وعلاقته بالفأر وتلذذه في تعذيبه، ثم عدَّه من الحيوانات التي لها أصوات تكاد تكون كلامًا ولغة، لا نفهمها لجهلنا بها: “فإذا صِرت إلى السنانير وجدتها قد تهيأ لها من الحروف العددُ الكثير، ومتى أحببت أن تعرف ذلك فلتسمع تجاوب السنانير وتوعد بعضها لبعض في جوف الليل، ثم أحصِ ما تسمعه وتتبعه وتوقف عنده، فإنك ترى فيه عدد الحروف ما لو كان لها من الحاجات والعقول والاستطاعات، ثم ألَّفتها لكانت لغة صالحة الموضع متوسطة الحال…”. ويوغل أكثر في أنسنته: “والسنور يناسب الإنسان في أمور: منها أنه يعطس، ومنها أنه يتثاءب، ومنها أنه يتمطى، ويغسل وجهه بلعابه…”. هذه المماثلة ستؤنسن القِطَّ في السَّرد العربي من قديمه إلى حديثه، فبينما كان في الشعر القديم يرمز إلى الدلال والرِّقَّة، كما نرى في شعر بشار وأبي نواس، تحوَّل في الشعر الحديث إلى رمز للرفاهية كما لدى نزار قباني الذي يصف رغد دمشق في قصيدته “الدمشقية”:
للياسمـين حقـوقٌ في منازلنـا
وقطة البيت تغفو حيث ترتـاح
وللسنور قصتان في “كليلة ودمنة” كلتاهما مثال للغدر. في “مثل الصِّفْرِد والأرنب والسنور” يلجأ الأرنب والصفرد (طائر مرعة الغيط) للسنور من أجل تحكيمه في نزاع بينهما حول بيت في أصل شجرة، ويفتتح السنور الجلسة بخطبة طويلة عن فضائل الصدق قبل أن يعرضا شكايتيهما، حتى إذا اطمأنا إليه التهمهما. وفي باب “لسنور والجرذ” يساعد الجرذ السنور في التخلص من شبكة صيَّاد بعد طول تشكك وتردد، وبعد أن منحه السنور المواثيق والعهود، نقَض كل ذلك بعد أن قرض الجرذ خيط الشبكة الأخير الذي يُقيِّده.
في الأدب العربي الحديث
في السَّرد العربي الحديث، يبتعد القِطُّ عن مساحة الأمثولة باتجاه القوى الأسطورية والسحر والغموض. ويطالعنا العنوان الأبرز في هذا الشأن “خمّارة القطِّ الأسود” وهو عنوان قصة لنجيب محفوظ، فرضه عنوانًا عامًا لمجموعة من تسع عشرة قصة أصدرها عام 1969م، تحت وطأة النكسة ومحاولات الهرب غير العقلانية من ثقلها. فكانت الخمّارة رمزًا لسعادة زائفة قصيرة. اسمها الحقيقي “النجمة” ولكنها عُرفت باسم “القِطِّ الأسود” نسبة إلى قِطٍّ أسود ضخم يتنقل بكل ارتياح بين الزبائن الذين يعرف بعضهم بعضًا.
وذات ليلة، اقتحم المكان كهلٌ غريب ينطق بما لا يفهمون وأثـار التوتر بينهم، فحاولوا الانسحاب، ومعهم القِطُّ الأسود الذي لم تساعده قواه ولا مرونته في التخلّص من وضعه بوصفه رهينةً “وثب إلى حافة النافذة الوحيدة، ثم رقد عاقدًا ذراعيه تحت رأسه، وأغمض عينيه طارحًا ذيله بين القضبان”.
الروائي والقاص حسن عبدالموجود بنى روايته الأولى “عين القِطِّ” عام 2004م على اعتقاد شعبي في صعيد مصر، قادم من ثقافة مصر الفرعونية، بأن الطفل الأصغر في التوأم يتمتع بالقدرة على مفارقة روحه لجسده في الليل والتجوُّل حرًا في هيئة قِطٍّ، ويستطيع أن يخرج من أية ثغرة في شباك أو كوة ليحلّق في سماء القرية ويرى كل ما يجري فيها ليلًا من أسرار وجرائم، وها هو يصف: “غمرتني متعة حقيقية وأنا أعلو إلى سقف الغرفة، زالت تلك الرهبة التي لازمتني طوال عمليات الصعود السابقة، كنت أشعر بفزع وجسدي ممدد أمامي على سرير الجريد، بينما أُملِّق مستمتعًا بهذه الخفة، خطر لي في هذه اللحظة أن الناس جميعًا يملكون مثلي القدرة على الطيران، بمجرد نومهم، لكنني لم أقابل أيًا منهم أثناء تجوالي في سماء القرية”.
القِطُّ شخصية أساسية في رواية “المعلم ومرغريتا” التي ما كانت لتُنشر لو لم تكن “بسبع أرواح”.

وفي روايتين لكاتبين عربيين صدرتا في القاهرة عن دار الشروق عام 2024م، تجلّى حضور القطط بمعنيين مختلفين. الرواية الأولى للكاتب اللبناني حسن داود بعنوان “فرصة لغرام أخير”، التي صدرت طبعتها الأولى عام 2022م عن دار نوفل، وتحكي بنعومة شديدة شكل العزلة إبان وباء كورونا، ويتبادل السَّرد فيها ثلاث شخصيات: رجلان في بناية واحدة وامرأة في البناية المقابلة، يراقبانها وتراقبهما من الشرفة. وفي وحشة العزلة هذه، يطرق أحد بائعي القطط باب تامر (أحد المتلصصين) حاملًا صندوقًا به قط وقطة؛ فيختار القطة ويتركها تنساب إلى الشقة، مع أنه لم يتصوّر من قبل أنه سيقتني حيوانًا أليفًا: “الكلاب نجسة بحسب ما أفهمني أهلي وأنا صغير، أمَّا القطط فتنقضّ مثل نمور شرسة”. ونلاحظ هنا أن استبعاده الكلاب يعود إلى تلقين الأهل. أمَّا شبَه القطط بالنمور، فتنبع من ملاحظته هو.
وهناك نصيحة شعبية بشعة تقول بذبح القطة للعروس ليلة الزفاف، لفرض سطوة الرجل، وكان وراء المثل مرويات شعبية مختلفة، لكن القطط يمكن أن تُذبح بدافع الغش التجاري. وقد جعل الكاتب الكويتي، عبدالوهاب الحمادي، من واقعة افتضاح مطعم يقدم لزبائنه لحم القطط منطلَقًا للتأريخ، فاختار لروايته عنوان “عام القطط السمان” على طريقة أهل الخليج العربي في تسمية الأعوام بالأحداث الشهيرة.
قطط اليابان
على الرغم من شهرة المنشأ الغربي للرواية الحديثة، فقد كانت اليابان من أولى الأمم التي عرفت فن القص، وفي “حكايات جينجي” قبل ألف عام كان للقِطِّ حضوره، وتواصَل التقليد في الأدب الحديث. ولربَّما كان العنوان الأبرز في هذا المجال “أنا قِـطٌّ” للكاتب سوسيكي ناتوسومي (1867م – 1916م)، وهو سرد ساخر حول عصر “ميجي” من وجهة نظر قِطِّ متعالٍ. وفي أحدث الروايات اليابانية “القط الذي أنقذ الكتب” (2022م)، وفيها يتناول سوسوكي ناتسوكاوا علاقة القِطِّ بالبطل رينتارو ناتسوكي المهمـوم بمستقبل مكتبة جدِّه للكتب المستعملة. يؤدي القِطُّ في الرواية دور المرشد الحكيم الذي يعلّم البطل الخروج من متاهة عزلته، عبر رحلات استكشافية يقومان بها معًا.
من شكسبير إلى بو
في الحقبة الإليزابيثية بإنجلترا، استخدم شكسبير القطط رمزًا لطباع الخوف والمكر والأنانية. ففي نبوءة الساحرات الثلاث ببداية مسرحية “ماكبث”، تقول الساحرة الأولى “إني قادمة أيتها القطة جريمالكين”، وهي بهذا تنادي قوة الغموض متوسلة بمعتقد علاقة القطة بالسحر. وفي مسرحية “يوليوس قيصر”، يشير كاسيوس في حوار مع بروتوس إلى أهمية امتلاك الرجال مصائرهم ولا يكونون أتباعًا “أمَّا الكلاب والقطط والكائنات الخائفة، فترتعد أمام الظلال”.
وفي الأدب البوليسي، يكتشف المحقق سر جريمةٍ تبدو كاملة، في لعبة بين المحقق والجاني تشبه لعبة القِطِّ والفأر. يُعدُّ إدغار آلان بو مؤسس هذا النوع من الأدب بمجموعته “جرائم شارع موزغ” (1841م)، وفي قصته “القِطُّ الأسود” يستخدم طاقة القطط السحرية وقوة أرواحها السبع. يفقأ بطل القصة عين قِطِّه الأسود بلوتو، وفي ثورة غضب أخرى يشنق القِطَّ، فيحترق البيت في الليلة نفسها وينجو مع زوجته من الحريق بأعجوبة، وبعد ذلك يظهر قِطٌّ جديد شبيه بالقِطِّ المشنوق، وتمضي الأيام فيقتل البطل زوجته ويخفي جثتها في الجدار في ثورة غضب جديدة. ولا يتوصل المحققون إلى سر الجريمة. ولكن “روح القِطِّ” بلوتو ترشدهم إلى موضع جثة الزوجة القتيلة.
قِطُّ الأعمى.. نمر
يُقال عن الشخص البخيل “قِطُّه جمل”، لكن قِطَّ خورخي لويس بورخيس نمر. فقد تجاهل الكاتب الأرجنتيني الفذ تاريخ القِطِّ المستأنس، وعاد إلى أصله الوحشي. عبر خيالات بقع الضوء الصفراء التي يراها الأعمى. سكنت النمور أحلامه، وظهرت مخيفة في قصصه، وفي سياقات أسطورية ترمز إلى الغموض والعظمة، والجزء من الوجود الذي لا يمكن للإنسان السيطرة عليه أراد أن يرمز بها أحيانًا إلى الحرية.
وتحضر النمور والمرايا في قصص بورخيس، ويتعانق هذا الحضور في قصته “الحدود” في كتاب “الألف”، بينما حملت إحدى القصص عنوانًا مباشرًا “النمر” في مجموعته “فلكلوريات”.
الرواية ذات الأرواح السبع
يظهر القِطُّ شخصية أساسية في رواية “المعلم ومرغريتا.. أو الشيطان يزور موسكو” لميخائيل بولغاكوف، أهم روايات الحقبة السوفيتية كلها فنيًا وفكريًّا، بسبب رهافتها في مزج السخرية المظلمة برمزية فلسفية تشير إلى القوة الماورائية التي تتجاوز المعقول. وربَّما يكون ذلك القِطُّ أعلى قطط الأدب حضورًا على مرِّ التاريخ.
اسم هذا القِطِّ “بيهموث”، يرتدي ملابس أنيقة، ويتحدث بابتذال، في محاكاة ساخرة للنخبة الثقافية السوفيتية التي ينتقدها، وهو كائن شرير يمتلك قدرات خارقة تعكس قوة الشيطان في الرواية. وكل ظهور للقِطِّ إيذان بكارثة، ولهذا يثير حضوره الذعر والارتباك. تتجلّى عظمة الكتابة “في المعلم ومرغريتا” من خلال الصورتين المتوازيتين للقِطِّ اللتين تلازمان القارئ، الصورة السحرية والصورة الواقعية بوصفها أصل وصورتها في المرآة، بينما القطُّ نفسه صورة لانحطاط النخبة وزيفها.
وقد تحقّقت للرواية نفسها أسطورة الأرواح السبع التي تمتلكها القطط، فقد شرع بولغاكوف في كتابتها عام 1928م، وبعد أن انتهى منها أحرقها عام 1930م؛ ليأسه من إمكانية نشرها، ثم عاد إلى كتابة نسخة جديدة منها، فثانية وثالثة ورابعة، ظلَّ يعمل عليها حتى وفاته عام 1940م، ولم تظهر للنور إلا في عام 1966م على يدي أرملته التي دفعت بها إلى المجلة السوفيتية فنُشرت في جزأين مع حذف كثير من المقاطع، ثم صدرت كاملة في كتاب عام 1967م بباريس.
اترك تعليقاً