مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2020

فِلْم “المسافة صفر”..
بين السرد المتأنِّي والغموض المُربك


خالد ربيع السيد

يسعى السرد الروائي السينمائي دائماً إلى أسر انتباه المشاهد منذ اللحظات الأولى لعرض الفِلْم، فيبذل المخرجون قصارى جهودهم ليضمنوا ذلك. وهذا ما سعى إليه المخرج السعودي الشاب عبدالعزيز الشلاحي في تحقيق فلمه الطويل الأول المسافة صفر، فهل نجح بالفعل في جعل فلمه هذا جذَّاباً وشيِّقاً وغامضاً في الوقت نفسه؟

عادة، يتوقَّف عنصر الجذب في اللحظات الأولى من أي فِلْم، ومن ثم طوال مدة عرضه، على توفُّر عدد من العناصر الأساسية التي غالباً ما تختلف بين فِلْم وآخر، ولكنها تبلغ أهميتها القصوى في أفلام التشويق والغموض.
ومن أهم هذه العناصر الممكِّنة من الاستحواذ على انتباه المشاهد الإيقاع السردي المتسارع، والحدث المفاجئ، والمونتاج الذي يكفل تداخل اللقطات بمددها الزمنية التي يُستحسن أن تكون قصيرة، فتؤدي بالمشاهد إلى الترقُّب وتشدُّ حواسه وعقله، وغير ذلك.. ولكن الشلاحي لم يتبع كل ذلك في فلمه “المسافة صفر” الذي جاء بهذا العنوان للإشارة إلى أن لا مسافة على الإطلاق بين البطل والفاعل المؤثر في مجرى الأحداث.
تبلغ مدة عرض هذا الفلم 73 دقيقة، كتبه للشاشة مفرج المجفل، وأنتجته جمانة زاهد بدعم من مركز إثراء، وقام ببطولته كلٌ من خالد الصقر، ويعقوب الفرحان، وأسامة صالح، وعبدالله الزيد، وإبراهيم الحساوي، وإلهام علي.
ولو تأملنا التقنية التي اتبعها المخرج عبدالعزيز الشلاحي، سنجد أنه اعتمد على إيقاع بطيء، سواء في حركة الكاميرا أو طول اللقطات، وحتى في حركة الممثلين وحواراتهم، وكذلك في المؤثرات البصرية والصوتية والضوئية. وبالتالي، تخلَّى عن الإيقاع المحموم والحوارات المتوترة والأداء المشحون بالحركة السريعة والانفعالات العاطفية الحادة. فهل هذه ميزة الفلم أم نقيصته؟

الجريمة والغموض في الحبكة
تدور أحداث فِلْم “المسافة صفر” في عام 2004م، حول “ماجد” (خالد الصقر) المصوِّر الفوتوغرافي وصاحب استوديو تصوير في وسط العاصمة الرياض، ورفيقه “لامي” (يعقوب الفرحان) الذي أُودع السجن بتهمة الضلوع في الإرهاب.
وبعد أن هرب ماجد من ماضيه المضطرب، يجد نفسه وسط واقع غريب، عندما يعثر فجأة على علبة دواء لعلاج اضطرابات الذاكرة تحمل اسمه. كما يجد صورة لجثة على أرض شقته، ومسدساً ذا رصاصة ناقصة في سيارته، وغير ذلك من مفارقات وأمور غير متوقعة تؤكِّد إصابته بالألزهايمر والنسيان المتكرر، فيحاول جاهداً بمعاونة خطيبته “أبرار” (إلهام علي) إبعاد شبح المرض، ومن ثم الشبهة الجنائية التي حاصرته بها القرائن والأدلة من كل جانب.
منذ اللحظات الأولى، يبدأ الفلم ببث التشويق والأجواء الغامضة ليجعلهما يسيطران على المشاهد، ويزدادان مع مرور الأحداث، حيث تتولد الأسئلة: هل ماجد فاقد للذاكرة فعلاً؟ أم أن أحداً يريد أن يوهمه بذلك، ويُعد له العدة ويخطط بمكر ودهاء بمعاونة عدة أشخاص لتوريطه في جريمة قتل لم يقترفها؟ ثم ما الدافع للقتل؟

استرجاع متداخل
لا جدال في أن أفلام الجريمة تكون دائماً مغلَّفة بالغموض، ولها توليفة خاصة تعتمد على الحبكة المترابطة والمنسابة بإيحاء مكثَّف، لتوليد الأسئلة الحائرة لدى المشاهد، بهدف إثارة حب الاستطلاع والتنبؤ بما سيجري من أحداث لتبديد الغموض. وبالطبع، فإن ذلك يأتي وفق منطق القصة التي يكتنفها الغموض، ولا يكتمل حلّ خيوطها سوى في المشهد الأخير.
ولتحقيق التشويق، اتبع المخرج في سرده لأحداث الفلم على البدء من النهاية؛ أي إنه يطالعنا في المشهد الأول بمنظر جثة على الأرض غارقة في دمائها، فيما يقف ماجد مذهولاً من المنظر الذي أمامه. ثم يبدأ الفلم بالاسترجاع المتسلسل للأحداث؛ ليضع المشاهد في بؤرة الصراع الذي يفسِّر معنى وجود هذه الجثة. بما يؤكد بالقطع أن الميت تعرَّض للقتل، ولم يمت لسب آخر كالانتحار أو السقوط من مكان عالٍ. ولكن منظر الجثة يفاجئ صاحب المنزل ماجد الذي يبدأ بالتقصي عبر “الفلاش باك”.
غير أن استرجاع الأحداث لا يسير في وتيرة منتظمة؛ إذ يتنقَّل بين مشاهد عديدة متداخلة؛ فتظهر شخصيات جديدة في كل مرَّة، وفي ذلك ما قد يكون مربكاً للمشاهد، غير أن المخرج صاغها بمنطق يقبله العقل، وهذا ما أضفى على الفلم طابع الجذب الذي أشرنا إليه في البداية.
وحرص صانع الفلم على تجويد محاكاة الفترة الزمنية التي تدور فيها الأحداث، عام 2004م، فتذهب الكاميرا إلى الأماكن الحقيقية التي برزت في تلك الفترة، وتصوِّر الأحداث ضمن البيوت، والشوارع، والسيارات، ومدرسة البنات، وقسم الشرطة وغيرها، كما كان كل شيء في تلك السنة. وهي سنة ليس بعيدة كثيراً عنا الآن، لكن استرجاع التفاصيل الخاصة بها والمحافظة عليها تتطلب تركيزاً مكثفاً حتى لا يظهر ما يخل بزمن الرواية.
تميَّزت تلك الفترة الزمنية بتأثيرات التطرف الديني الذي أحدث تغييراً كبيراً في مفهوم الصحوة الدينية. وبسببه اختلت المفاهيم لدى الشباب المنحازين والمنضمين للتيارات الدينية المتطرفة. ولكن الفلم لم يكن واضحاً في طرحه، وبدا الأمر وكأنه إقحام غير متجانس مع قصة الفلم. فالحوار الذي يجري في المسجد يبدو حواراً منفصلاً لا يمت لقصة الفلم بصلة، رغم أنه مهم، إذ نخرج منه بفهم لمدى تأثُّر الشباب بشيوخهم، (وفاة الشيخ راجح). ورغم ما في المشهد من إجادة في الحوار والملابس والمكياج الذي بدا طبيعياً، نبقى نتساءل: من هما هذان الشخصان؟ الفلم لا يقدِّم تمهيداً منطقياً للتعريف بالشخصيتين.

تأصيل الواقعية
تشدِّد التفاصيل البصرية في هذا الفلم على جعله يبدو حقيقياً بلغة فنية تلامس الواقع. فبداية من عنصر التمثيل الطبيعي الذي أتقنه الممثلون جميعاً، فبدوا في حالة تقمص كاملة، إلى الاهتمام بدقائق الخصائص الاجتماعية التي تميِّز أهل منطقة الرياض، مثل العلاقات بين أصحاب المحال التجارية، والعلاقة بين شاب وفتاة تربطهما علاقة حُب ووعد بالزواج ضمن العادات والموروث الاجتماعي، وصولاً إلى الأماكن الحقيقية والاستعاضة عن مواقع التصوير المصنوعة، كل ذلك يعزِّز الشعور بالمصداقية الفنية والصناعة السينمائية المجوّدة.
كما أن فهم “أبرار” لحالة خطيبها “ماجد”، وتفسيراتها لما يحدث له بحس أنثوي يرجح أن ماجد بصحة جيدة، هو أيضاً من النقاط التي تقرِّب من الواقعية، إنه إحساسها الصادق، والتفسير الواعي بالمنطق العقلاني الأنثوي… (النسيان رجل والذاكرة امرأة) هكذا قالت أبرار لماجد.
وفي مشهد مهم، نرى شخصاً يدعى مروان، خارجاً من السجن، يقابل ماجداً ويقول له إنه مدين له بنصف ما يملك، وإن لديه يومين لتسديد ما عليه. ولا يكون هناك مبرر واضح لذلك التهديد.
في كل تلك الأحداث يحاول المتفرج إيجاد إجابة عن أسئلة من نوع: ما هو مبرِّر جريمة القتل التي حدثت؟ ومن هو القاتل؟ ولماذا يريد القاتل توريط ماجد والزج به في السجن؟
في المشهد الأخير من الفلم يكشف صديق ماجد، لامي، عن دافعه لقتل مروان، وتوريط ماجد في ذلك، فيقول: “أحياناً تحس بأن شيئاً خانقك، تحس أنك لا تستطيع أن تكمل حياتك إلا إذا قتلته. تقتله ليس حتى تفوز، حتى تتعادل؛ فقط تتعادل”.
ينتهي الفلم ولا تزال الأسئلة حائرة..

المُخرج والفِلْم
• حصل المخرج عبدالعزيز الشلاحي على جائزة أفضل مخرج في مهرجان الأفلام السعودية عام 2016م.
• من أبرز أفلامه «عطوى» 2015م، و«كمان» 2016م، و«المغادرون» 2017م.
• بلغت تكلفة إنتاج فلم “المسافة صفر” نحو 350 ألف دولار.
• حاز جائزة أفضل سيناريو في مسابقة أيام الفلم في عام 2017م. وجائزة أفضل فِلْم روائي طويل في مهرجان أفلام السعودية 2019م. وجائزة أفضل إنجاز سينمائي في مهرجان الإسكندرية السينمائي 2019م.
• وشارك في المسابقة الرسمية في الدورة الثانية من مهرجان الدار البيضاء للفلم العربي الذي حاز فيه الممثل خالد الصقر شهادة.
• وشارك في الدورة السابعة من مهرجان الشارقة السينمائي الدولي.


مقالات ذات صلة

خلال أمسية شعرية ضمَّت مجموعة من الأسماء، ألقى محمد الفرج في الجولة الأولى قصيدته وهو يمشي بين الحضور، متوجهًا إلى جمهوره بالكلام، ونظنه تعثَّر في قدم أحدهم. ولكنه استفاد من الإمكانات الأدائية الكبيرة التي يوفرها له دور الحكواتي الذي اعتاد القيام به؛ إذ إن الفرج فنان تشكيلي وحكَّاء إلى جانب كونه شاعرًا. غير أن مقدِّمة […]

صاحب حركة النهوض التي عاشتها الثقافة العربية، أثناء القرن التاسع عشر وامتدادًا إلى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفق عدد من المفاهيم أوروبية المنشأ التي قُدّر لها أن تغيّر مسار الثقافة العربية نتيجة لجهود العديد من المترجمين والباحثين والمفكرين لا سيما من تعلم منهم في أوروبا أو أجاد لغات أجنبية. وهذه المفاهيم كثيرة ومتنوعة تمتد […]

من الملاحظات المهمة التي سمعتها من عدد من الفلاسفة الذين شاركوا في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة في ديسمبر 2021م، أن الحضور الغالب كان من غير المحترفين في الفلسفة. والمقصود بالمحترفين هنا هم أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا تحديدًا. فالمعتاد في مؤتمرات الفلسفة في العالم هو أن يحضرها أسـاتذة الجامعات الذين يقدمون أوراقًا علمية في المؤتمر […]


0 تعليقات على “فِلْم “المسافة صفر“..”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *