في الرياض تنطلق عروض أوبرا “زرقاء اليمامة”، ما بين 25 أبريل و4 مايو 2024م. ويُعد هذا العمل أول أوبرا سعودية، وأكبر إنتاج أوبرالي باللغة العربية، وهو يقتبس قصة امرأة حكيمة تسعى من خلال بصرها الخارق إلى إنقاذ قومها “جديس” من المخاطر، لكنها تلقى مصيرًا مأساويًا في نهاية الأمر. تقدِّم “زرقاء اليمامة” فن الأوبرا للجمهور العربي من خلال نسيج درامي يستمد أصالته من تراث الجزيرة العربية، كما تحاول تجسير المسافة بين أصول الفن الغربية وبين الموسيقى العربية بمقاماتها المعروفة؛ لتستثير لدى المشاهد أسئلة، منها: ما هو فن الأوبرا؟ وكيف وجد طريقه إلى الثقافة العربية؟ وهل ينجح في منح خشبة المسرح المحلي وهجًا مختلفًا؟
هناك فنون قائمة بحد ذاتها، كالشعر والموسيقى المطلقة. وهناك فنون هجينة تتولّد من امتزاج نوعين وأكثر من الفنون، كالغناء حيث تقترن الكلمات بالموسيقى في تدفق غنائي متناغم وموحّد. فنّ “الأوبرا” هو أحد تلك الفنون الهجينة التي نشأت من امتزاج عناصر فنية رئيسة، وهي المسرح بما يتضمنه من أداء تمثيلي وإيمائي، وفنَّيْ الموسيقى والشعر. كما أنها ضمّت أيضًا في سياق تطورها التاريخي الفن التشكيلي والرقص والتصوير، وغيرها من أشكال الفنون التي تمتزج معًا بمقادير دقيقة لتؤلف هذا الفن الشامل.
ولتعريف الأوبرا تعريفًا دقيقًا علينا العودة بها إلى جذورها اللغوية والتاريخية، فـ “أوبرا” (Opera) هي كلمة لاتينية تعني “أعمال”، ومفردها “أوبس” (Opus). وقد أطلق هذا الاسم جماعة “كاميراتا” الإيطالية من القرن السابع عشر إشارة إلى “يوريدس”، وهو أول عمل مسرحي تضمن الغناء والموسيقى والتمثيل، وكان ثمرة التعاون المشترك بين الموسيقي جاكو بو بييري والشاعر رينوتشيني. كان هذا العمل في وقته تجربة جديدة ورائدة بالنظر إلى تعدد الشخصيات المسرحية والجهد الكبير في الإخراج، وبذلك أصبح حجر الأساس لفن جديد أغرى الفنانين بخوض غماره والأخذ به إلى مناطق أوسع من التطور والازدهار.
ما قبل “فاغنر” وما بعده
بالنظر إلى السياق التاريخي لتطور فن الأوبرا والإصلاحات التي طالت العناصر الفنية المكونة لها عبر الزمن، يمكن تقسيم هذه الإصلاحات إلى حقبتين رئيستين: ماقبل “ريتشارد فاغنر”، وما بعده. فهذا الموسيقي الألماني ترك عظيم الأثر على الملامح الفنية للأوبرا والموسيقيين الذين أتوا من بعده على حد سواء. فقد خرج من عباءة فاغنر العديد من الموسيقيين الذين تأثروا بأسلوبه ولم يستطيعوا التحرر جذريًا من سطوة تأثيره، بالرغم من محاولاتهم في ابتكار أساليبهم الخاصة في تأليف الأوبرا.
في عهد فاغنر (1813-1883م)، بلغت الأوبرا أوج تطورها وازدهارها بفضل الإصلاحات الاستثنائية التي قام بها بوعي فني متفرد، وقدرة هائلة على تلمّس الفراغات التي تخترق جسد الأوبرا والتي ملأها بأساليبه الفنية الخاصة. لم تأت هذه الإصلاحات دفعة واحدة، بل جاءت على مهل وبعد دراية عميقة وممارسة كثيفة لفن الأوبرا في قوالبها المتأثرة بأساليب الفرنسيين على وجه الخصوص و “أوبرا الكوميك/الكوميدية”. فتحت شعار “الفن من أجل المستقبل”، ضم فاغنر جميع الفنون من شعر وموسيقى ودراما ورقص وغيرها في تكوين الهيكل الخاص بفن الأوبرا مطلقًا على ذلك مسمى “الدراما الموسيقية”. وقد عكس هذه الرؤية الفنية الشاملة أول مرة في أوبرا “لوهنجرين”، فكانت تلك البذرة الأولى للقطيعة التامة مع الأسلوب الفني التقليدي على مستوى تجربته الذاتية في التأليف، وعلى مستوى جميع التجارب الفنية الأخرى التي سبقته.
مرّت الأوبرا بعد فاغنر بكثير من التجارب المختلفة التي تأرجحت بين النجاح والفشل: بدءًا من المسرح الإيطالي والفرنسي والأمريكي، ومرورًا إلى “الأوبرا القومية” في روسيا و تشيكوسلوفاكيا وانتشارها في باقي أقطار العالم. وبالوصول إلى الأوبرا المعاصرة، وظَّف بعض الموسيقيين في عناصر تكوينها الموسيقى الإلكترونية، والمؤثرات المرئية ثلاثية الأبعاد عوضًا عن المَشاهد، وغيرها من الإمكانات التقنية والفنية التي يتيحها العصر الجديد.
“من النخبة تسلَّلت الأوبرا إلى الجماهير بعد الحرب العالمية الثانية عبر قنوات الإذاعة والتلفاز، لكن السمة النخبوية ما زالت تُلقي عليها بظلالها”.
من النخبة إلى الجماهير
عُرفت الأوبرا منذ نشأتها في إيطاليا بأنها فن للنخبة من المجتمع، وانحصرت بنحو ما في الطبقة الأرستقراطية منه. ولم تُفتتح أول دار أوبرا تُعنى باستقطاب جميع شرائح المجتمع إلا بعد أربعين عامًا من نشأة هذا الفن في مدينة البندقية.
بعد الحرب العالمية الثانية، ازدادت رقعة الاهتمام بالأوبرا في أوساط الجماهير حيث انصبَّ الاهتمام من الجهات المعنية بالفن في أوروبا على إعادة تقديم الأعمال الأوبرالية من القرن التاسع عشر بكل الوسائل الإخراجية الحديثة المتاحة حينها، وعرضها على الجماهير عبر إذاعات الراديو وشاشات التلفاز؛ ما ساعد على وصولها إلى شريحة كبيرة من الجماهير وتعزيز جاذبيتها لدى الذائقة العامة، حتى تبوأت مكانة نفيسة في نفوس الناس.
ورغم كل تلك المحاولات لزيادة شعبية فن الأوبرا، وبالرغم من الإقبال الجيد على مسارحها من قبل الجماهير المحبة وتلك التي يدفعها الفضول للتعرف عليها عن قرب، ما زال هذا الفن يحتفظ نسبيًا بطابعه النخبوي في المجتمعات الحديثة، حيث هو بالدرجة الأولى محط اهتمام النخبة من الفنانين والمثقفين، الذين يعينهم اطلاعهم على هذا النوع من الفنون على الانجذاب إليه والاستمتاع به.
مغامراتها العربية خجولة الخطوات
كنتيجة لانفتاح حضارات العالم بعضها على بعض، دخلت الأوبرا إلى العالم العربي من بوابتها الإيطالية على يد الموسيقار الإيطالي فيردي، الذي عرض أوبرا “عايدة” في دار “الخديوية” بمصر، بدعوة من حكومة الخديوي حينها لأجل حفل افتتاح قناة السويس في عام 1871م، فكانت تلك أول أوبرا تُكتب للعالم العربي بلغة غير عربية.
بعد ذلك خطت بعض التجارب العربية خطوات خجولة في اقتحام عالم الأوبرا. ولأن هذا الفن جديد على الثقافة العربية، واجه الكتّاب العرب بعض الصعوبات في الكتابة له، فكانت هناك محاولات من بعضهم لخوض مغامرة التأليف فيه ولكن بلغة غير عربية. فكتب الأديب اللبناني شكري غانم مسرحية “عنتر” باللغة الفرنسية عام 1910م، وحوَّلها الموسيقار الفرنسي جابرييل دوبون لاحقًا إلى أوبرا عام 1914م؛ لتكون بذلك أول أوبرا تُكتب بقلم كاتب عربي. تلا ذلك تجارب يتيمة من بعض الكتّاب العرب لكتابة الأوبرا بلسان غير عربي، مثل أوبرا “الحب عن بعد” التي كتبها الأديب اللبناني أمين معلوف باللغة الفرنسية كذلك، وقدّمها الموسيقار الفنلندي كايجا سارياهو عام 2000م.
“من إيطاليا وفد هذا الفن إلى دار “الخديوية” في مصر عبر عرض “عايدة” أثناء افتتاح قناة السويس، لكن تلك الأوبرا كُتبت بلغة غير عربية”.
كما سعت محاولات عديدة إلى إضفاء الروح العربية على فن الأوبرا بكتابتها وعرضها باللغة العربية، مثل تلك التي جرت على يد المؤلف الموسيقي المصري عزيز الشوان في كتابة أوبرا “عنترة” وأوبرا “أنس الوجود”، وكذلك أوبرا “عنترة وعبلة” المؤلفة من قِبل الموسيقار اللبناني مارون الراعي بالتعاون مع الكاتب أنطوان معلوف عام 2016م. ولكن رغم هذه المحاولات ما زالت أرض الأوبرا العربية خصبة لإغواء الكتّاب العرب على خوض غمار تأليفها وصقل ملامحها بلسان عربي وروح عربية أصيلة.
اترك تعليقاً