يهدِّد شبح الميتافيرس الواقع ومظاهره المختلفة. وتبدو فعالية مثل معرض الكتاب غير بعيدة عن مرمى سهامه في ظل التطور التكنولوجي المطَّرد في صناعة النشر والتسويق، والنجاح الذي أثبتته المتاجر الإلكترونية أثناء جائحة كورونا، فضلًا عن انتشار قراءة الديجيتال بين الشباب، التي صارت أكثر الوسائل ألفة إليه من غيرها. لكن سؤالًا عن اندثار تلك الفعالية في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.
اختتمت في أكتوبر دورة العام الحالي من “معرض الرياض الدولي للكتاب” (2024م)، بعد أن زارها ما يزيد على مليون شخص، وشاركت بها أكثر من 2000 دار نشر ووكالة من 30 دولة، توزَّعت على 800 جناح، وحقَّقت مبيعات تجاوزت 28 مليون ريال. وعامًا بعد عام يُرسِّخ المعرض مكانته بوصفه موسم دخول أدبي عربي؛ إذ يُنظَّم في بداية موسم المعارض الدولية العربية الذي يمتد من أكتوبر إلى أبريل، فينتقل هذا العيد من عاصمة عربية إلى أخرى.
لا تعدُّ أرقام مبيعات الكتب وحدها الدليل على جدوى استمرارية معارض الكتاب أو عدمها؛ لأن المعرض يتقاطع مع معانٍ وأهداف عديدة تجعل منه ضرورة؛ فهو يدخل من حيث المبتدأ ضمن رمزية الظاهرة الاحتفالية، التي تُسهم في خروج الفرد من فرديته، وتعزِّز شعوره بالانتماء والهوية، وتعزِّز ارتباط الأفراد بجذورهم وبالآخرين. كما يمثل المعرض بوصفه احتفالًا فرصة للخروج عن إيقاع الزمن الرتيب، ويعيد الحيوية للفرد بوصفه فردًا وقارئًا. ويمكن أن تكون أيام المعرض هي الأيام الأقل قراءة، لكنها تعيد الروابط مع الكتاب وتؤطر مواسم القراءة.
رمز الحرية
تعني معارض الكتب الكثير بالنسبة إلى المجتمعات. والمتتبع لتواريخ إنشاء الكثير من معارض الكتاب في العالم سيلاحظ أنها رديف للرغبة الوطنية في التعبير عن الاستقلال الثقافي، وكتابة عصر جديد يخاصم متن الماضي أيًا كانت صورته.
في عام 1949م، أي بعد 4 سنوات فقط من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وضعت ألمانيا إحياء معرض فرانكفورت الدولي للكتاب على قدم المساواة مع بناء دولتها التي دمرتها الحرب؛ ليصبح ذلك المعرض اليوم أهم وأقدم تظاهرة عالمية تخصُّ الكتاب.
ومثل ألمانيا أطلقت كوريا الجنوبية معرض “سول” في عام 1954م، بعد عام واحد من الحرب الكورية (1950م – 1953م). وعندما تخلصت الأرجنتين من الديكتاتورية العسكرية في عام 1973م، كان معرض بوينس آيرس للكتاب (1975م) من أول المشاريع التي سعت الإرادة السياسية الجديدة لإرسائها.
كذلك أُنشئ معرض القاهرة الدولي للكتاب في عام 1969م، بعد سنتين فقط من هزيمة 1967م، وفي خضم انشغال الدولة الجريحة بالانتقام وإزالة آثار العدوان، وهو ما تحقَّق في عام 1973م؛ كانت القاهرة تمضي لاستعادة “الشرف” وإثبات الوجود، وكانت التظاهرة الثقافية أحد مظاهر وجودها وحيويتها وقدرتها على البناء من جديد. ولم تعطل الحرب الأهلية انعقاد معرض بيروت الدولي للكتاب، وما تلاها من مصاعب اقتصادية ليس آخرها انفجار مرفأ بيروت. وأيضًا جاءت عودة معرض بغداد الدولي للكتاب للانعقاد في 2003م، لتؤكد أهمية الثقافة في مرحلة إعادة بناء العراق.
وهذه كلها شواهد تدل على أن “معرض الكتاب” يمثِّل نشاطًا رئيسًا في مساعي الدول الناهضة ليس لتأكيد وجودها الحضاري فحسب، وإنما للتعبير عن استقلالها، ورسم صورة عن المستقبل الذي تود أن تُقدِّم من خلالها نفسها لشعوبها والعالم.
الكتاب هو المعرض
يقول الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني ألفريد نورث وايتهد، إن “المعرفة لا تأتي من مجرد استقبال الأفكار، بل من التفاعل الإبداعي مع العالم”. ويُقدِّم معرض الكتاب هذا التفاعل، ويضع الظاهرة الثقافية في قلب العالم خلال أيام الاحتفال؛ لهذا يبدو صعبًا أن يتحول الإقبال على القراءة الإلكترونية إلى بديل كامل يجعل من إقامة معارض الكتاب شيئًا معدوم الجدوى، إلا حين يصبح الواقع المادي نفسه غير ذي جدوى.
يوفر معرض الكتاب فرصة لاحتكاك الصانع، الأديب أو الناشر، بالمستهلك، وهي مسألة لا تستطيع أن توفرها المكتبات العامة أو الإلكترونية، ويذهب كثير من الدراسات النفسية إلى أهمية التجربة الحسية في عملية التعلم والتذكر. كما يرى الفلاسفة أن التجربة الحسية أساس المعرفة، وأن الرموز المادية تؤدي دورًا مهمًا في تشكيل تصوراتنا عن العالم. وكذلك يشير علم الاجتماع إلى أن الرموز المادية تؤدي دورًا حاسمًا في بناء هوية المجتمع وتقوية الروابط الاجتماعية. وهي أمور لا تؤكد فقط الضرورة الإنسانية لمعرض الكتاب بوصفه فاعلية ثقافية ذات وجود مادي، وإنما توضح أيضًا أسباب إقبال جمهور القرَّاء، وغير المهتمين بالقراءة كذلك، عليه.
كذلك تستطيع المعارض أن تمنح القارئ فرصة تعجز متاجر الكتب عنها، وهي استدعاء الحالة الإبداعية من أزمنة مختلفة بفضل ما تتيحه من سبل متنوعة للوصول إلى الطبعات النادرة والقديمة من الوثائق والنصوص المختلفة. أمَّا بالنسبة إلى الصانع ذاته، أديبًا كان أو ناشرًا، فتمثِّل له المعارض فرصة لا يستطيع الواقع الافتراضي توفيرها بكل ما وصل إليه من قدرة على الإتاحة، وهي الاحتكاك المادي بغيره من الصنَّاع على اختلاف جنسياتهم ومذاهبهم الفكرية، والاطلاع على جديد الصناعة من إصدارات وتوجهات إبداعية رائجة، أو تقنيات جديدة لطبع المنتج الإبداعي وتسويقه.
موسم ثقافي يتسع لأكثر من الكتاب
في دورة العام الماضي من معرض الشارقة للكتاب، تضمن البرنامج 45 فعالية طهو قدَّمها 12 طاهيًا من بلدان مختلفة؛ لأننا نتحدث عن تظاهرة إنسانية صارت بمنزلة “كرنفال” سنوي يحتفي به أطياف المجتمع كلهم، ويتسع لأنشطة ثقافية مثل الطهي وربَّما الموسيقى والفنون التشكيلية والسينما، مثلما شهدنا في الدورة الأخيرة من معرض الرياض، وكما بات موجودًا في كثير من معارض الكتاب العربية الأخرى.
لذلك صار يُنظر إلى معرض الكتاب على أنه موسم ثقافي، يؤرَّخ له بانطلاق معرض فرانكفورت في أكتوبر وينتهي مع معرض أبوظبي للكتاب في أبريل، قبل أن يستريح الناشر والقارئ على السواء لإعادة الكرّة من جديد. بل ربَّما لأن المعرض صار مثل “مهرجان سنوي” يقتضي “التجدد”. لم يعد ثمة موسم ينقضي وآخر جديد يبدأ، وإنما دائرة غير نهائية من التجدد والاحتفاء.
هكذا، يصبح التساؤل حول احتمال اختفاء هذه الظاهرة من دون جدوى، ويصير من العملي التفكير بدلًا من ذلك في استثمار معارض الكتاب بوصفها صناعة ثقافية قادرة على أن تمثل رافدًا مهمًا يُضيف إلى اقتصاد البلد المنظِّم، ويُسهم في تنمية صورته الحضارية.
صناعة الثقافة
من أجل نظرة أوسع إلى المعرض بوصفه صناعة ثقافية، فإنه من المهم إدراك أن الصناعات الثقافية مجموعة من الأنشطة الاقتصادية التي تنتج وتوزِّع وتستهلك السلع والخدمات الثقافية. وهي صناعات ترتكِز على الإبداع والمعرفة، وتشمل مجموعة واسعة من القطاعات، مثل: النشر، والوسائط المتعددة، والفنون البصرية، والحرف اليدوية، والسياحة الثقافية.
ولعل من أبرز الأمثلة صناعة السينما في هوليوود، وصناعة الأنمي الياباني، وصناعة الموضة الإيطالية، وصناعة الألعاب الإلكترونية في كندا والولايات المتحدة الأمريكية.
يوفر معرض الكتاب، من حيث إنه مساحة تتسع لاستيعاب ما سبق كله، منصة مثالية للناشرين لعرض أحدث إصداراتهم والترويج لها مباشرة للجمهور، وهو ما يُسهم في زيادة المبيعات وتنشيط حركة البيع والشراء. كما تجذب معارض الكتاب الكبيرة أعدادًا غفيرة من الزوار من مختلف الدول، فتُسهم بذلك في تنشيط السياحة الثقافية وزيادة الإيرادات، والترويج للمدينة التي تستضيفها، ويُمكِّنها من استقطاب الاستثمارات السياحية ويُحسِّن من صورتها الثقافية.
ربَّما لا تتوفر إحصاءات دقيقة لحجم مبيعات الكتب وعدد زوار المعارض، ولعلَّ ذلك يدّل على أن الصناعة الثقافية لم تدخل حيز الصناعات الرئيسة في الوطن العربي. لكن حجم مبيعات معرض الرياض الدولي للكتاب، مثلًا، بلغ في عام 2012م نحو 2,052,000 ريال، في حين بلغت مبيعات المعرض في 2013م أكثر من 37,000,000 ريال. وكانت النساء أكثر إقبالًا على شراء الكتب من الرجال.
وأيضًا حقَّق معرض أبوظبي الدولي للكتاب، في دورته عام 2014م، رقمًا جديدًا في عدد الزائرين تجاوز 248,000 زائر خلال الأيام الستة الأولى. وشهد ارتفاعًا ملحوظًا في المبيعات وصل إلى 35 مليون درهم. وفي معرض الشارقة للكتاب عام 2014م، شاركت 59 دولة من خلال 1256 دار نشر، كما استقبل 1.47 مليون زائر من أنحاء العالم كافة، محققًا نموًا بمقدار 45%، مقارنة مع دورة عام 2013م التي شهدت حضور مليون زائر تقريبًا، ووصلت المبيعات إلى نحو 178 مليون درهم إماراتي.
وبناء على ما سبق حول المبيعات وأعداد الزائرين، نستطيع أن نتخيل ما يُمكن أن توفره المعارض من فرص عمل مباشرة وغير مباشرة في قطاع النشر والتوزيع، بالإضافة إلى فرص عمل في المجالات المرتبطة مثل: التصميم والطباعة والتسويق. وكذلك تُسهم في تنشيط قطاعات أخرى مثل: الفنادق والمطاعم والنقل، وهو ما يخلق فرص عمل إضافية. كما يُساهم الإنفاق على شراء الكتب والمشاركة في الفعاليات المصاحبة للمعارض في تنشيط الاقتصاد المحلي.
إن لم يختفِ المعرض فماذا نفعل؟
ربَّما يوحي ما تقدَّم بأن معرض الكتاب سيظل قائمًا طالما استمرت الحضارة، لكن النظرة المطمئنة تلك إلى هذه التظاهرة الثقافية تشبه الإجابة السهلة عن سؤال تهديد التكنولوجيا لوجود المعرض من الأساس؛ إذ إن الوطن العربي لا يزال يفتقد كثيرًا من لوجيستيات الصناعة، أي صناعة وليس صناعة الثقافة وحدها، التي تتطلب، إن أريد لمعارض الكتاب التطور، توفير بيئة اقتصادية مناسبة لمشاريع تستثمر في الثقافة ومتطلبات النشر اللوجستية مثلًا. وكذلك تنفيذ خطط طموحة للنهوض بالتعليم ونشر ثقافة القراءة، والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في التقريب بين ما يمكن أن يتيحه الواقع الافتراضي حاليًا.
يمكن لمعرض الكتاب مثلًا، أن يوفر جولات افتراضية للمكتبات العالمية مثل مكتبة الكونجرس أو المكتبة الوطنية الفرنسية، أو يمكن استخدام تقنية الواقع المعزز للسماح للزوار بالتفاعل مع شخصيات أدبية شهيرة، مثل طرح الأسئلة عليها أو إجراء مقابلات قصيرة، أو توفير بيئات افتراضية تحفز على الكتابة الإبداعية، حيث يمكن للزوار تجربة كتابة قصص أو شعر في أجواء ملهمة.
ويمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في توفير مساعدين افتراضيين شخصيين يستطيعون تقديم توصيات شخصية بالكتب بناءً على اهتمامات الزائر وتفضيلاته. كذلك يمكن تنظيم جلسات نقاش مع روبوتات ذكية تمتلك قدرة على فهم اللغة الطبيعية والإجابة عن أسئلة الزوَّار حول الكتب والأدب.
كما يمكن تطوير تطبيقات تسمح للزوَّار بمسح غلاف كتاب معين للحصول على معلومات إضافية عنه، مثل: ملخص القصة، أو آراء القرَّاء الآخرين، أو مقاطع صوتية، أو فيديوهات مرتبطة بالكتاب، أو تصميم ألعاب تفاعلية تعزِّز حب القراءة وتشجِّع على التعلم، مثل: ألعاب الكلمات المتقاطعة أو الألغاز المرتبطة بالكتب.
اترك تعليقاً