المعلقات قصائد عُلّقت على الأستار وعَلِقت في الأذهان، وهي تحمل بذور الفطرة الإنسانية في نقائها وبساطتها وواقعيّتها. محتواها الإنساني الخالد جعل لها حضورًا ماثلًا في كل الآداب لا سيّما أنها تكشف الستار عن أبعادٍ حضارية واجتماعية وجغرافية، وتصوّر حقبةً تاريخيةً للإنسانية تجلّت فيها تلك البيئة التي ظهرت فيها المعلقات على امتداد شبه الجزيرة العربية.
لعل أقوى الأسباب التي جعلتها عالقةً في الأذهان قديمًا هو عينه السبب الذي يجعلنا بحاجةٍ إلى قراءتها قراءة معاصرة رُغم تقادم العهد وتتالي الأجيال، فوراء أستارها إنسانٌ يتجلى لنا بكل تجاربه وأبعاده. ومفرداتها وتراكيبها وأحداثها تنتظم في نسق ماتع يأخذنا معه لمزيد من الإبحار في رحلةٍ أخاذة، نصطحب فيها شخصيات فذّة ذات عاطفةٍ صادقة تحمل قيمًا أصيلة نتنقل فيها بين لوحات فنية ملأى بالصور وزاخرة بألوان البادية.
هذه المعلقات، وإن كانت ضاربة في القدم، إلا أن الأجيال المعاصرة بحاجة إلى التعرف على الأصالة فيها وفي ناظمها ولغته ومجتمعه، وكيف كانت تُعبر عن القيم والعواطف، بل كيف كانت الحياة رُغم صعوبتها وقسوتها تمدّ البشرية بالإصرار على التعايش مع الصعوبات التي حولها والبحث عمّا يمتع النفس والعقل ويسرّي عن الخاطر.
هذه القيم التي في المعلقات لا يطويها زمن، إذ هي تخاطب الوجدان والإنسانية. وربما كان عزوف الجيل الحالي عن تذوّقها بسبب ما يرى فيها من صعوبة في فهم المفردات ومعالجة الصور الذهنية، وما يعيشه من تسارع لا فسحة فيه للتأمل والانسجام مع هذا الإلهام. لذا كانت الحاجة ماسة للتعامل مع هذا الوحي الأدبي بأصالة متوائمة ومستجدات العصر. ومن هنا تشكلت قصة مشروع “المعلقات لجيل الألفية”، الذي أسفر عن ترجمتها إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية، ولم يتوقف عندها وحسب، بل امتد إلى لغات الشرق من كورية وصينية.
لقراءة المعلقات بالنسخة العربية والإنجليزية.
ففي أكتوبر 2019م، وجّه رئيس أرامكو وكبير إدارييها التنفيذيين، المهندس أمين الناصر، بترجمة معلقة امرئ القيس، ثم في الشهر ذاته وجّه بترجمة معلقة عنترة بن شداد؛ من أجل تبسيط فهم معانيها وخاصة لجيل الشباب العربي الذي أصبح عالميًا في عقليته، ولكنه يبحث عن أصالته، وربما يتحدث الإنجليزية أو لغة عالمية أخرى بطلاقة تفوق طلاقة حديثه بلغته الأم. وتجدر الإشارة إلى أنه سبق للمعلقات أن تُرجمت إلى لغات عدة في القرون الماضية، ولكن هذا المشروع كان يروم تبسيط فهم المعنى بلغةٍ معاصرة وبالتالي تذوق ذلك الفن الرائع. وهكذا كان أن تآزر جهد فريق مجلة القافلة مع جهد فريق مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) لبدء التخطيط والتنفيذ لمشروع “المعلقات لجيل الألفية”؛ لشرحها بطريقة يفهمها الشباب العربي من جيل الألفية من جهة، ولترجمتها إلى القارئ العالمي بلغة معاصرة ومبسطة لجيل الألفية من جهةٍ أخرى بحيث تعزز القيم الإنسانية المشتركة. وتناسب الإعلان عن هذه المبادرة يوم 18 ديسمبر 2019م مع اليوم العالمي للغة العربية.
ما أُنجز في هذا المشروع فاق التوقعات وتعدى النطاق الأساس المقرر له. وقد أينعت أولى ثماره عند إصدار نسخ أولية من كتاب “المعلقات لجيل الألفية” في 18 ديسمبر 2020م، بعد أن عمل عليها فريقٌ ضم خبراء سعوديين وعالميين، وتضمنت شرحًا للمعلقات يناسب الجيل الجديد، وترجمتها إلى اللغة الإنجليزية. وبعد ذلك شهد مسرح إثراء في 2 يناير 2021م حفل تدشين الكتاب في 456 صفحة، ضمن ندوة حضرها عدد من الأسماء المرموقة في مجال الفكر والثقافة بالمملكة وبعضٌ ممن شاركوا في الترجمة. وقد أفردت مجلة القافلة في عدد يناير فبراير 2021م تغطيةً للندوة ومشروع الترجمة.
اقرأ القافلة من عدد يناير – فبراير 2021م:
في الثقافة ما لا يطويه الزمن
إعادة شرح المعلّقات وترجمتها
لاحقًا في يونيو 2022م، صدرت الترجمة الإسبانية لجيل الألفية، وتبعتها بشهر الترجمة الفرنسية. وفي 18 ديسمبر 2023م صدرت الترجمة الألمانية، وقد توافق أن يكون ذلك العام عام الشعر حسب ثيمات وزارة الثقافة المعتمدة في المملكة والهادفة إلى إبراز جوانب مهمة من الهوية السعودية والعربية. وكان مركز إثراء قد بدأ قبل ذلك العمل على الترجمة الصينية التي عمل عليها تسعة من الأكاديميين والخبراء الصينيين اللامعين المتخصصين في اللغة العربية وآدابها من جامعة بكّين. هذه الترجمة الصينية التي يُحتفى بتدشينها هذا الشهر من قبل مركز إثراء (وتتبعها قريبًا الترجمة إلى الكورية)، تقدِّم إلى الساحة الثقافية مشروعًا ثقافيًا معاصرًا يُعد امتدادًا للتواصل بين الثقافتين العربية والصينية، ويؤكد على ديمومة مثل هذه الأعمال التي يُفتخر بها.
وبالحديث عن مشروع ترجمة المعلقات إلى الصينية تحديدًا، فقد وُضعت له، كما هو الحال في المشاريع التي سبقته، أسسٌ محددة لضمان الوصول إلى هوية تميّزه عن المشاريع العالمية المشابهة. ففي مجال الترجمة والتحري، كان هنالك حرص على أن تكون الترجمة وشرح أبيات المعلقات بأسلوب معاصر، وأن تخاطب اللغة الصينية المستخدمة الشباب والشابات الصينيين اليوم، وأن يُربَط سرد المعلقات العربية وخلفيتها التاريخية بالروائع الأدبية المشابهة في الثقافة الصينية وذلك لتأصيل التجربة في نظر القارئ الصيني. وفيما يتعلق بتصميم الكتاب، فقد نُفِذ على النحو الذي يناسب ذائقة مجتمع الشباب وتفضيلاته في المجتمع الصيني. وكانت هنالك استعانة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي لتصميم الغلاف.
والحق أن تفاصيل العمل في كل واحدة من تلك الترجمات تستحق مساحة من تسليط الضوء لا تتسع لها هذه العجالة. ولكن من المناسب الإشارة في هذا الصدد إلى بعض ما ذكره د. حاتم الزهراني، في مقال نشرته صحيفة عكاظ بتاريخ 3 فبراير 2021م، عن تفاصيل إنجاز الترجمة إلى الإنجليزية، بما يُبرز تعاون جميع الأطراف وعملهم الدؤوب وإيمانهم بفكرة المشروع وقيمته الحضارية، وأن ذلك كان من أهم أسباب إنجازه في الوقت المحدد. يقول الزهراني: “تبدأ مراحل الإنتاج باختيار القصيدة المراد شرحها من الشارح أو ترجمتها من المترجم، وتمر باعتماد الرواية الأدق لها كما وصل إليها الشارح، ثم إرسال الرواية المعتمدة إلى المترجم لكي يتفق الطرفان على الرواية النهائية، ثم متابعة مراحل كتابة المقدمة وشروح أو ترجمات الأبيات حتى وصولنا إلى نسخة نهائية متفق عليها… في شهر نوفمبر 2020م، بدأت مجلة القافلة ترسل لي وللزملاء الشراح والمترجمين صفحات الكتاب بعد تصميمه وإخراجه، وبعد شهر من المفاوضات والمراجعات والتعديلات خرج الكتاب بالصورة التي بين أيديكم”.
اقرأ المقالة من عكاظ:
“المعلقات” نسخة إلكترونية للعموم وورقيّة محدودة !
لقد سعى مشروع “المعلقات لجيل الألفية” إلى أن يُضيف لتراثنا العربي والثقافات التي تُرجم لها ما يرقى إلى خطوة أساس باتجاه عولمة المعلقات وإتاحتها بشكل أكبر لأجيال الحاضر والمستقبل. وخيرًا فعلت أرامكو بإنجازها سلسلة كتب الترجمة هذه لتسرد “قصة المعلقات لجيل الألفية” عبر أذرعها الثقافية: مركز إثراء ومجلة القافلة. ووراء هذا العمل، بنُسخه التي تضمنت الترجمة إلى 6 لغات مع الشرح المبسّط بالعربية، هنالك جهد كبير أسهم فيه نحو 40 خبيرًا من العرب وغير العرب من 10 جنسيات مختلفة في المملكة وحول العالم، يُضاف إليهم ما لا يقل عن 20 شخصًا آخر ممن عملوا بشكل متفرغ أو شبه متفرغ في إدارة المشروع وأعمال التنسيق والتصميم والمراجعة والطباعة. وقد امتد مشروع الترجمة على مدى يُقارب 4 سنوات ونصف.
وهناك أيضًا الكثير ممن عملوا بشكل واضح وآخر خفي ضمن المشروع في أرامكو السعودية، أذكر منهم الأستاذ بندر الحربي، رئيس تحرير القافلة آنذاك، والأستاذ محمد أبو المكارم، نائب رئيس التحرير في ذلك الوقت. ومن الذين أسهموا أيضًا في المشروع: الأستاذ متعب القحطاني، الرئيس السابق لقسم النشر، والأستاذة منار الضويلع، رئيسة مكتبة إثراء سابقًا، والأستاذ عبدالله الحوّاس، رئيس مكتبة إثراء حاليًا، وآخرون غيرهم منهم كاتب هذا المقال. ومن فريق إثراء هنالك د. أشرف فقيه، الذي يعمل حاليًا في أرامكو آسيا في الصين، والذي ذكر أن العديد من المثقفين في المملكة طالبوا بنسخة من الترجمة إلى الإنجليزية حين صدرت تأسيًا بأولئك الذين حضروا حفل التدشين.
ويجدر بنا وصف المهندس أمين الناصر بأنه ملهم المشروع وداعمه الأول، فمن توجيهه تضافرت الجهود فأسفرت عن أول شرح وترجمة في هذه السلسلة المعاصرة، التي نمت كشجرة عربية باسقة في ساحة الشعر العالمي. وقد قدم المهندس أمين كتاب المعلقات كهدية من أرامكو تعبر عن الثقافة العربية العريقة، وكان أول من تلقى النسخة المترجمة بعد صدورها سمو وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان الذي عبر عن استحسانه للعمل. كذلك أصبحت الشركة تقدم هذا الكتاب لمجموعة من رؤساء الشركات الكبرى والوزراء والشخصيات العالمية التي زارتها، ومنها على سبيل المثال السيدة كلير كوتينهو، وزيرة الدولة البريطانية لشؤون الطاقة والانبعاثات الصفرية، والسيد جون كيري، وزير الخارجية الأسبق والمبعوث الخاص للمناخ في الولايات المتحدة الأمريكية. وعادة ما يمازح المهندس أمين الضيوف عند تقديم الكتاب قائلًا إنه على الرغم من أن النية كانت شرح المعلقات لجيل الألفية، ولكننا وجدنا أنفسنا نحن الجيل السابق أول المستفيدين من شرح المعلقات بأسلوب معاصر.
اترك تعليقاً